نبي الرحمة (9)

اعتداءات المشركين عليه صلى الله عليه وسلم:

كان أمية بن خلف إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم همزه ولمزه. وفيه نزل:{ وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } [الهمزة:١]. أما أخوه أُبَيّ بن خلف فكان هو وعقبة بن أبي معيط متصافيين. جلس عقبة مرةً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه، فلما بلغ ذلك أُبَيٍّا أنّبه وعاتبه، وطلب منه أن يتفل في وجه رسول صلى الله عليه وسلم ففعل، وأبيّ بن خلف نفسه فَتّ عظمًا رميمًا ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان الأخنس بن شَرِيق الثقفي ممن ينال من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد وصفه القرآن بتسع صفات {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ*هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ*مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ*عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:١٠-١٣].

وأحياناً يجيء أبو جهل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسمع منه القرآن، ثم يذهب عنه فلا يؤمن ولا يطيع، ويؤذي النبي صلى الله عليه وسلم بالقول،، ثم يذهب مختالًا بما فعل، وفيه نزل:{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} [القيامة:٣١].

وكان يمنع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في الحرم، ومرة مر به وهو يصلي عند المقام فقال: يا محمد، ألم أنهك عن هذا، وتوعده، فأغلظ له صلى الله عليه وسلم وانتهره، فقال: يا محمد، بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادى ناديًا. فأنزل الله{فَلْيَدْعُ نَادِيَه* سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [ العلق:١٧-١٨]. وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم أخذ بخناقه وهزه، وهو يقول له:{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى*ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة:٣٤-٣٥] فقال عدو الله: أتوعدني يا محمد؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئًا، وإني لأعز من مشى بين جبليها.

ولم يفق أبو جهل من غباوته بعد هذا الانتهار، بل ازداد شقاوة فيما بعد.عن أبي هريرة قال: قال أبو جهل: يُعفِّر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته لأَطَأنّ على رقبته، ولأُعَفِرَنّ وجهه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ رقبته، فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه، ويتقي بيديه، فقالوا: ما لك يا أبا الحكم؟ قال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولًا وأجنحة، فقال صلى الله عليه وسلم:(لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا).

دار الأرقم:

كان من الحكمة تلقاء هذه الإضطهادات أن يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن إعلان إسلامهم قولا أو فعلا، وأن لا يجتمع بهم إلا سراً؛ لأنه إذا اجتمع بهم علناً فلا شك أن المشركين يحولون بينه وبين ما يريد من تزكية المسلمين وتعليمهم الكتاب والحكمة، وربما يفضي ذلك إلى مصادمة الفريقين، بل وقع ذلك فعلا في السنة الرابعة من النبوة، وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجتمعون في الشعاب، فيصلون فيها سراً، فرآهم نفر من كفار قريش، فسبوهم وقاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص رجلاً فسال دمه، وكان أول دم أهريق في الإسلام.

ومعلوم أن المصادمة لو تعددت وطالت لأفضت إلى تدمير المسلمين وإبادتهم، فكان من الحكمة الإختفاء، فكان عامة الصحابة يخفون إسلامهم وعبادتهم ودعوتهم واجتماعهم، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يجهر بالدعوة والعبادة بين ظهراني المشركين، لا يصرفه عن ذلك شيء، ولكن كان يجتمع مع المسلمين سراً؛نظراً لصالحهم وصالح الإسلام.

كانت دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي على الصفا. وكانت بمعزل عن أعين الطغاة ومجالسهم، فكان أن اتخذها مركزا لدعوته، ولاجتماعه بالمسلمين.

الهجرة الأولى إلى الحبشة:

كانت بداية الاضطهادات في أواسط أو أواخر السنة الرابعة من النبوة، بدأت ضعيفة، ثم لم تزل تشتد يومًا فيومًا، حتى تفاقمت في أواسط السنة الخامسة، وجعل المسلمون يفكرون في حيلة تنجيهم من هذا العذاب الأليم.

وفي هذه الظروف نزلت سورة الزمر تشير إلى الهجرة، وتعلن بأن أرض الله ليست بضيقة {ِ للَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ، وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ، إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} [الزمر:١٠]. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم أن أصحمة النجاشي ملك الحبشة ملك عادل، لا يُظلم عنده أحد، فأمر المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة فرارا بدينهم من الفتن.

وفي رجب سنة خمس من النبوة هاجر أول فوج من الصحابة إلى الحبشة, كان مكونًا من اثني عشر رجلًا وأربع نسوة، رئيسهم عثمان بن عفان، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهما: (إنهما أول بيت هاجر في سبيل الله بعد إبراهيم ولوط عليهما السلام).

كان رحيل هؤلاء تسللًا في ظلمة الليل ـ حتى لا تفطن لهم قريش ـ خرجوا إلى البحر ويمموا ميناء شعيبة، وقيضت لهم الأقدار سفينتين تجاريتين أبحرتا بهم إلى الحبشة، وفطنت لهم قريش، فخرجت في آثارهم، لكن لما بلغت إلى الشاطئ كانوا قد انطلقوا آمنين، وأقام المسلمون في الحبشة في أحسن جوار.

سجود المشركين مع المسلمين وعودة المهاجرين:

في رمضان من نفس السنة (سنة الهجرة للحبشة) خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحرم، وفيه جمع كبير من قريش، فيه ساداتهم وكبراؤهم، فقام فيهم، وفاجأهم بتلاوة سورة النجم، ولم يكن أولئك الكفار سمعوا كلام الله من قبل؛ لأنهم كانوا مستمرين على ما تواصوا به، من قولهم: { لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت: 26] فلما باغتهم بتلاوة هذه السورة، وقرع آذانهم كلام إلهي خلاب، أنساهم ما كانوا فيه, فما من أحد إلا وهو مصغ إليه، لا يخطر بباله شىء سواه، حتى إذا تلا في خواتيم هذه السورة قوارع تطير لها القلوب، ثم قرأ: { فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } [ النجم: 62 ], ثم سجد، لم يتمالك أحد نفسه فخروا جميعا ساجدين, وفي الحقيقة كانت روعة الحق قد صدّعت العناد في نفوس المستكبرين والمستهزئين، وسَقَطَ في أيديهم لما أحسوا أن جلال كلام الله لَوَّى زمامهم، فارتكبوا عين ما كانوا يبذلون قصارى جهدهم في محوه، وقد توالى عليهم اللوم والعتاب من كل جانب، ممن لم يحضر هذا المشهد من المشركين، وعند ذلك كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافتروا عليه أنه عطف على أصنامهم بكلمة تقدير، وأنه قال عنها: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهم لترتجى)، جاءوا بهذا الإفك المبين ليعتذروا عن سجودهم.

بلغ الخبر مهاجري الحبشة، ولكن في صورة تختلف عن صورته الحقيقية، بلغهم أن قريشًا أسلمت، فرجعوا إلى مكة في شوال من نفس السنة، فلما كانوا دون مكة ساعة من نهار، وعرفوا جلية الأمر، رجع منهم من رجع إلى الحبشة، ولم يدخل في مكة منهم أحد إلا مستخفيًا، أو في جوار رجل من قريش.

ثم اشتد عليهم وعلى المسلمين البلاء والعذاب، وسطت بهم عشائرهم، فقد كان صَعُب على قريش ما بلغها عن النجاشي من حسن الجوار، ولم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم بداً من أن يشير على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة مرة أخرى، وكانت هذه الهجرة الثانية أشقَّ من سابقتها، فقد تيقظت لها قريش وقررت إحباطها، بيد أن المسلمين كانوا أسرع، ويسر الله لهم السفر، فانحازوا إلى نجاشي الحبشة قبل أن يُدركوا.

وفي هذه المرة هاجر من الرجال ثلاثة وثمانون رجلًا، وثماني عشرة أوتسع عشرة امرأة.

يتبع.....

منقول بتصرف يسير من كتاب السيرة (الرحيق المختوم)

الحلقة السابقة هـــنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين