أمن الإنسان في ضوء القرآن (1)

الأمن في القرآن وعلاقته بالإيمان

مِن أرقى النعم الكبرى على جميع المخلوقات من إنس وجنٍّ وحيوان نعمةُ الأمن، وقد جعله الله تعالى نعمة جليلة، وتفضل به على خلقه، وبدونها لا استقرار ولا راحة ولا سعادة؛ لذلك تبذل المجتمعات البشرية جميع إمكانياتها لاستتباب الأمن لعلمها أن نعمة الأمن مقدمة على مطالب الحياة كلِّها؛ فالخائف لا يستمتع بغذائه ولباسه ومسكنه من دون توفير الأمن والطمأنينة، لذلك قرن الله تعالى بين الطعام والأمن في معرِض حديثه عن النعم التي أنعم بها على قريش، فقال سبحانه وتعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَـٰذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش:3-4] ومن هنا يكون فقد الأمن نقمة ينتقم الله تعالى بها من بعض خلقه من عاصين أو كافرين.

وتحتاج الشعوب والدول إلى ضمان أمنها النفسي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري فضلًا عن أمنها الخارجي، وما لم يتحقق لها ذلك لن تتمكن من النهوض والتطلع إلى المستقبل بل يظل الخوف مهيمنًا على خطواتها مقيدًا لتطلعاتها، فحين يضطرب نظام الأمن في بلدٍ ما، وتخـتل عوامل السيطرة على تصرفات المجتمع؛ فإن الفوضى ستكون سيدة سائدة، وتُمْنَى الأنفس والأموال والأعراض بالسفك والبطش والهتك، وفي عصرنا الراهن مشاهد حية لاضطراب الأمن في عدة بلدان إسلامية، نسأل الله لها الفرج القريب، وعلينا أن نعلم أن الأمن المطلق لا يتحقق للإنسان في الحياة الدنيا، فالأمن المطلق لا يكون إلا في دار النعيم التي وعد الله بها عباده الصالحين، فقال تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46].

ويمكن تعريف الأمن بأنه "شعور الإنسان بالسكينة والطمأنينة على حاجاته الدنيوية والأخروية وبدون تكلفة منه عند توفر أسبابه"(1) وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: "أن الأمن عند فقهاء المسلمين ما به يطمئن الناس على دينهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ويتجه تفكيرهم إلى ما يرفع شأن مجتمعهم وينهض بأمتهم"(2).

وقسمت البحث إلى مبحثين وخاتمة شاملة لأهم النتائج:

المبحث الأول: الأمن في القرآن وعلاقته بالإيمان

المطلب الأول: الأمن في القرآن الكريم:

ورد في القرآن الكريم لفظ (أمن) ومشتقاته في ثمانيةٍ وأربعين موضعًا موزعة على ثلاث وأربعين آية، تسع وعشرون منها مكية في واحد وثلاثين موضعًا، وأربع عشرة آية منها مدنية في سبعة عشر موضعًا، وذلك "في أربع وعشرين سورة، سبع منها مدنية، وسبع عشرة سورة مكية، مما يؤكد حاجة العهد المكي إلى مزيد من الأمن المفقود يومئذ للمؤمنين، ولما هاجر المسلمون إلى المدينة المنورة وقامت لهم دولة أصبح الحديث عن الأمن حسب الحاجة والضرورة"(3). لكن لم يرد لفظ (الأمن) مصدرًا إلا في خمسة مواضع، في ثلاثةٍ منها ورد معرَّفًا:

1- مرة في سورة النساء، قال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83].

2- ومرتين في موضعين متتاليين في سورة الأنعام، قال سبحانه وتعالى: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّـهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَـٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام:81-82].

وورد مرتين مُنَكَّرًا:

1- المرة الأولى في قول الله تعالى: {وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].

2- والثانية في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة:125].

والمأمن: هو موضع الأمن أو المكان الآمن، ومنه قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّـهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ} [التوبة:6].

وورد على غير صورة المصدر بلفظ الماضي أو المضارع أو المشتق كاسم الفاعل المفرد أو الجمع في عشرين صيغة، وهي: (أمِنَ، أمنتكم، أمنتم، أمنوا، أمنكم، تأمَنَّا، تأمنه، يأمن، يأمنوا، يأمنوكم، آمنَّا، آمِنَة، آمنون، آمنين، الأمن، أمنًا، أَمَنَة، مأمنه، مأمون، آمنهم)

واللافت للنظر أن هذا "اللفظ ورد بعدة أشكال لكنه لم يرد مقيدًا بشيء لا بوصف ولا بإضافة، ومعنى ذلك أنه غير قابل للتبعيض، فالأمن شيء كلي شامل لا يقبل التبعيض، فهذه نقطة مهمة وهو أن الأمن نعمة يتنعم بها الناس، إما أن تكون وإما أن لا تكون"(4).

المطلب الثاني: علاقة الإيمان بالأمن:

هناك علاقة وطيدة بين الإيمان والأمانة والأمن، فهذه الألفاظ الثلاثة تنتمي إلى مادة واحدة؛ لذلك لا يتصور الراغب الأصفهاني أن يكون هناك أمن بدون إيمان، لأن الإيمان هو التصديق الذي معه أمن أي سكينة واطمئنان واستقرار، يقول في مفرداته: (أصل الأَمْن طمأنينة النفس وزوال الخوف، والأَمْنُ والأَمَانَةُ والأَمَانُ في الأصل مصادر، ويجعل الأمان تارة اسمًا للحالة التي يكون عليها الإنسان في الأمن، وتارة اسمًا لما يؤمن عليه الإنسان... و"آمَنَ" إنما يقال على وجهين: أحدهما متعدٍ بنفسه، يقال: آمنته أي جعلت له الأمن، ومنه قيل لله: مؤمن؛ والثاني غير متعدٍّ، ومعناه صار ذا أمن. والإيمان هو التصديق الذي معه أمن، وليس من شأن القلب -ما لم يكن مطبوعًا عليه- أن يطمئن إلى الباطل)(5).

التصديق الذي يكون معه أمن يكون بالقيام بأداء الأمانات كلها بصفة عامة؛ إذ جعل الشرع الصلاة أمانة والزكاة أمانة وتربية الأولاد أمانة، وكل تكليف من تكاليف الشرع أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له، فإذا أدى الناس هذه الأمانات تحقق الإيمان وشعروا بالراحة الكاملة نتيجة الإيمان وأداء الأمانة، فالأمن إذًا نتيجةٌ وليس فعلًا يمكن أن نفعله، وإنما هو ثمرة طيبة ونعمة من الله تعالى يتفضل بها علينا إذا آمنا وهو الشرط الأول، وإذا عملنا الصالحات وهو الشرط الثاني، قال الله تعالى: {وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55 ].

إن الإيمان هو الذي يقودنا إلى الأمن والأمان والطمأنينة والسعادة، وقد "وعد الله تبارك وتعالى المؤمنين بالأمن في الدنيا والآخرة، وذلك حين وعدهم بالأمن في الدنيا على أنفسهم وأموالهم ودينهم ومساجدهم، ومنَّ عليهم بالأمن أثناء قتالهم لأعدائهم، ووعدهم بالأمن في الآخرة من فزع يوم القيامة ومن عذاب جهنم، فهم في جنة الله آمنون"(6)، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَـٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام:82].

يقول الدكتور الشاهد البوشيخي: "والفساد الذي يحدث في غير المسلمين هو في الحقيقة بسبب تقصير المسلمين، لأن شرطة الأرض المنظمة للسير في الكرة الأرضية هي الأمة الإسلامية، هذا موقعها لا واقعها، ولكنها للأسف لم ترتقِ الآن إلى الموقع وهي الآن في واقع نعرفه جميعًا؛ ولذلك فإن مفهوم الأمن بالنسبة لهذه الأمة لا يتبعَّض لأن مقره القلب".

أما الكافرون فلا أمن لهم في الدنيا والآخرة من عذاب الله تعالى ومكره، قال الله سبحانه: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّـهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّـهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99].

المصدر: مجلة مقاربات التي تصدر عن المجلس الإسلامي السوري – العدد الثامن.

يتبع

(1)- التربية الأمنية في ضوء القرآن الكريم – دراسة موضوعية، للدكتور عبد السلام حمدان اللوح، والدكتور محمود هاشم عنبر، بحث منشور في مجلة الجامعة الإسلامية، المجلد الرابع عشر، العدد الأول، يناير، 2006م: 232.

(2)- الموسوعة الفقهية الكويتية، مجموعة من المؤلفين، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، 2012م:6/271.

(3)- التربية الأمنية في ضوء القرآن الكريم: 230.

(4)- نظرات في مفهوم الأمن في القرآن الكريم، ورقة عمل للدكتور الشاهد البوشيخي، ألقيت في الملتقى الثاني للقرآن الكريم بمكناس، المغرب.

(5)- المفردات في غريب القرآن، لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني، تحقيق: صفوان عدنان الداودي، دار القلم، الدار الشامية، دمشق- بيروت، الطبعة الأولى 1412 هـ: 91.

(6) - التربية الأمنية في ضوء القرآن الكريم: 230.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين