فنُّ الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء (8)

 

لقد كان الناس يحسون أنَّ رسولَ الله أعبدُ الخلق لربِّه، وأرجاهم لرحمته، وأكثرهم لهجاً بذكره، ومدحه، فلا عجب إذا نابتهم نائبة أن يجيئوا إليه ينشدون دعاءه، ويرقبون الخيرَ معه.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: شكا الناسُ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم قحوط المطر، فأمرَ بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوماً يخرجون فيه، فخرج رسول الله حين بدا حاجبُ الشمس، وقعد على المنبر، فكبَّر وحمد الله عز وجل ثم قال: (إنكم شكوتم تجذب دياركم، واستئخار المطر إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله سبحانه أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم) ثم قال: (الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، لاإله إلا الله يفعل ما يُريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين). ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حوَّل إلى الناس ظهره، وقلب أو حوَّل رداءه، وهو رافع يديه، ثم أقبلَ على الناس، ونزل فصلى ركعتين فأنشأ اللهُ عزَّ وجلَّ سحابة فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله تعالى، فلم يأتِ مَسْجِدَه حتى سالت السيول، فقال: (أشهد أنَّ الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله).

حدث أن سألني شاب مغرور: أتعرف الله بدليل عقلي؟ فقلت له وأنا أتضاحك: أعرفه عن خبرة حسيَّة.

قال: ما معنى خبرة حسيَّة؟ قلت: إنَّ اللقيط قد يعرف بالدليل العقلي أن له أباً، وإن كان لم يره، لكن الابن الشرفي لا يحتاج إلى هذا الاستدلال، لأنه مغمور بحنان أبيه وإحسانه يحسهما صباحاً ومساءً، إنه يعرف أباه عن خبرة حِسيَّة، كما عَبَّرت لك.

إنني سألت الله أموراً لا يقدر عليها إلا هو، وأجابني تبارك اسمه إلى ما طلبت، فكيف لا أعرفه بعد؟.

إنَّ الجميل يثمر في الكلب العقور، أفلا يثمر في إنسان عاقل؟ 

أترى هؤلاء الأصحاب الذين ابتلوا بالجفاف، وهدَّدهم الجدبُ بهلاك الحرث والنسل؟ لقد مَشَوا إلى محمدٍ كيما يدعو ربَّه، وكيما تجمعهم وإياه ساحة ضراعة ورجاء.

وأَمَّهُم كما رأينا في صلاة استسقاء ما كادت تنتهي حتى استهلَّ المطر يَهْمي، ويبشر بربيع نضير. 

بم تصفُ إيمانَ هؤلاءِ بعد ذلك؟ لقد تجاوزوا مرحلةَ الإيمان النظري إلى مرحلة أزكى وأرقى، إنَّ كل ما قاله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بعد نزول الغيث: (أشهد أنَّ الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله)، والشهادة هنا منزلة فوق اليقين المجرَّد.

قال لي الشاب المسكين: لقد تعلمنا أنَّ المادة لا تفنى، ولا تستحدث؟ وهو كلام يزلزل الإيمان، لولا حرارة ما أسمع.

قلت: يا بُني إنَّ الذين كتبوا هذا الكلام ذكروا نصف المعرفة بعد ما حرَّفوه عن موضعه.

إنَّ رب المادة هو الذي لا يفنى ولا يُستحدث، أما أنا وأنت فقد صحَّ لنا وجود بعد أن لم نكن...أنا وأنت لسنا أزليين؟ تُرى من أوجدنا في بطون الأمهات؟ الخمسة أرطال من الأجهزة اللحمية التي تملأ تجويف البطن أهذه هي التي دفعت الأجنة لتخرج إلى الجو صارخة بعدما حرَّك الهواء الخارجي رئاتها؟ 

إنني أحتقر الغباء وكل ما ينتج عنه من أحكام، فدعني من مساخر هؤلاء الماديين.

ربما ظنَّ الطفل أن تحرك الصورة في المرآة يحدث من الصورة نفسها أو من سطح المرآة المصقول، وبعد قليل من رُشد سوف يدرك أنَّ هذا التحرك يجيء من الجسم الذي يثبت الصورة، لا من الصورة المتوهَّمة.

وناس كثيرون في طفولتهم العقليَّة ينسبون إلى المادَّة ما لا تعيه ولا تستطيعه، وقد تساءلت: من الذي صنع زخارف البصمات على أطراف الأصابع؟ الجلد نفسه؟ إنَّه مُنفعل لا فاعل.

ولنترك عالم الجسم ـ على ما به من إبداع ـ إلى عالم أرقى، من الذي صنع الذكاء والغباء في عقولنا؟ أو من الذي صنع النزق والأناة في طباعنا؟ لننظر حولنا إلى (جندي مجهول) قام بهذا العمل الخارج، أنجد أحداً من الناس؟ أنجد عنصراً من العناصر؟.

إنَّ الأغبياء يتيهون أنفسهم عن الله تعالى عمداً، ويحاولون تجاهل القدرة العليا ببلاهة سمجة، وليس ذلك هو العجب، بل العجب أنَّ من يفعل ذلك يريد أن يصف نفسه بالعلم، والتقدم، وألقاب أخرى.

ومن قديم جَحَد ناس كثيرون عمل الله سبحانه في كونه، ونسبوا العمل إلى أقرب مظهر له، كما ينسب الطفل تحرُّك الصورة في المرآة إلى المرآة.

قال زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه: صلى بنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية ـ إثر مطر سقط ليلاً ـ فلما انصرف أقبل على الناس فقال: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (قال الله: أصبح من عبادي مؤمن بي، وكافر، فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمنٌ بالكواكب).

إنَّ الذين يظنُّون الأشياء تحدث دون تقدير إلهي وهيمنة عليا ـ وهم في دنيانا الآن كثرـ كفار حقاً.

أما الذين يَعْرِفون أنَّ الله تعالى خالق كل شيء، وسائق كل فضل، فهم المؤمنون حقاً.

وسواء نسبوا العمل إلى الله، أو نسبوه إلى خلقه مجازاً فهم مؤمنون بلا ريب، فمن قال: أنضج الصيف الفاكهة، يقصد أن الحرارة سبب الإنضاج، فهو مؤمن ولم يقل نُكراً، لأنه عارف أن الله سبحانه هو الذي أخرج الزرع، وتفضَّل به على خلقه، إنما الإثم على من خلا من الله قلبه وفكره، ونسب الأشياء إلى أدنى سبب منها، وأبى أن يعترف بألوهيته وراء ما نلمح من أسباب، وقد كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بين الحين والحين يكشف الغطاء عن الأسباب العادية، ويُبين قيمتها ليربط الناس بربهم، ويجعل ذكره بين أعينهم.

والله عزَّ وجل لطفاً منه بعباده قد يحرمهم ما يحتاجون إليه ليسارعوا إلى ساحته طالبين، ويسألون ملحين، فإذا أعطاهم اندثر مشاعر الشكر في أفئدتهم، وعادوا وقد ربا إيمانهم.

وصلاة الاستسقاء، والحاجة، والاستخارة شُرعت لذلك، وقد رأيت الناس في مكة ـ إذا تأخَّر المطرـ هرعوا إلى الصلاة، وصاحوا يطلبون النجدة من السماء، فما هي إلا أيام حتى ينزل الغيث.

ولقد رأينا على عهدِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ الإجابة تعقب السؤال!. ما يكاد النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يدعو حتى تستهلَّ السماء، وتبدأ الأنهار تتكوَّن.

الغريب أنَّ في شرق أفريقية وغربها وقع جفاف أهلك البلاد والعباد وما فكَّر أحدٌ في صلاة استسقاء، لأنَّ الله سبحانه لا يُعرف ولا يُقصد! وتلك سمات الحضارة الماديَّة وآثارها كما نقلها الاستعمار إلى الأقطار التي نُكبت به.

يتبع 

الحلقة السابقة هـــنا

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400 هـ.

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين