بل

 

العدل ثم العدل ثم العدل أساس وراثة الأرض - الشيخ د.محمد راتب الدين النابلسي

قال تعالى: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" العدل ثم العدل ثم العدل أساس وراثة الأرض الشيخ د.محمد راتب الدين النابلسي زورونا...

أحد الأصدقاء أرسل إلي بفيديو الدكتور الشيخ راتب النابلسي حفظه الله، في الرابط أعلاه، يقول لي: هل من تعليق على هذا المفهوم؟

فلمّا شاهدتُ التسجيل، وجدت الشيخ يفسِّر "الصلاح" في قوله تعالى: (وَلَقَدۡ كَتَبۡنَا فِی ٱلزَّبُورِ مِنۢ بَعۡدِ ٱلذِّكۡرِ أَنَّ ٱلۡأَرۡضَ یَرِثُهَا عِبَادِیَ ٱلصَّـٰلِحُونَ) [سورة الأنبياء 105]

فيقول: "الصالحون" هنا لا تعني صلاحا دينيا إطلاقا. وإنما تعني: صلاحا لإدارتها.

والحق أني عجبتُ جدا من هذا النفي المطلق، لمعنىً صحيحٍ بالمطلق.

وفي التعقيب على كلام الشيخ حفظه الله أقول:

لا خلاف على أهمية الكفاءة الإدارية في كل عمل دنيوي.

ولا خلاف على أن تلك الكفاءة مطلب ديني قبل أن تكون مطلبا دنيويا، ليس من أجل آية الأنبياء المذكورة فحسب، وإنما لأن تلك الكفاءة تُعتبر من الإحسان والإتقان الذي يحبه الله.

قال تعالى: (ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَیَوٰةَ لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰاۚ) [سورة الملك 2]

ولم يقل: أيكم أكثر عملا..

وفي المعجم الأوسط للطبراني، من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها ترفعه: إن الله عز وجل يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يُتقنه.

فليس الخلاف مع الشيخ في أهمية الكفاءة الإدارية في صلاح الأرض وإصلاحها.

وإنما الخلاف معه سدده الله ونفع به، في صرفه (الصلاح) في الآية المذكورة من صلاح التقوى والدِّيانة، إلى الصلاح الإداري ولو من كافر.

وهذا الذي أدين الله بتغليطه فيه.

فإن الله تعالى وبّخ الكافرين على اقتصار همهم وهمتهم على الدنيا فحسب، فقال سبحانه عنهم: (یَعۡلَمُونَ ظَـٰهِرࣰا مِّنَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَهُمۡ عَنِ ٱلآخِرَةِ هُمۡ غَـٰفِلُونَ)[سورة الروم 7]

فكيف بعد هذا التهوين لعلم الكفار بالدنيا مع غفلتهم عن الآخرة، كيف نتصور أن الله تعالى يزكي صلاحهم الإداري مع كفرهم؟!!

ولذلك أقول بكل ثقة: لا يُسَلَّم للشيخ حفظه الله، هذا الفهم، بل أرى أن هذه منه كبوة.

ولكل جواد كبوة.

بل المراد بالصلاح في الآية المذكورة صلاح العبادة والتقوى كما تدل عليه قرينة السباق والسياق، وقرائن الآيات الأخرى.

فأما قرينة السباق ففي موضعين:

الأول: أنه تعالى قال:(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا......) فهو يتحدث عن دعوة دينية في الزبور.

ولا يُتصور أن يحرضهم في كتاب ديني سماوي على الصلاح بمعناه الإداري البحت، ويَعِد عليه ميراث الأرض، ويهمل صلاح التقوى والدين، وهي المقصود الرئيس من الرسالة السماوية.!

الثاني: في قوله: *(عِبَادِيَ* الصَّالِحُونَ)

فإنه لم يقل: ....أن الأرض يرثها الصالحون.

وانما قال: يرثها *عبادي* الصالحون...

ونسبة العباد إليه سبحانه تزكية لدينهم لا محالة.

وقد تكرر مجيء نسبة العباد إليه سبحانه في سياق الثناء والتزكية، كما في قوله تعالى: (...فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)[سورة الزمر 17 - 18]

وقوله تعالى: (يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)[سورة الزخرف 68]

وقوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[سورة الفرقان 63]

وغيرها كثير.

ولو كان صلاحهم مجرد صلاح إداري لما استحقوا هذه النسبة.

وأما قرينة السياق فقوله في الآية التالية من سورة الأنبياء: (إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ)[سورة اﻷنبياء 106]

فالمقصود بالوعد والبشارة أهل الدين والعبادة، وليس أهل الصلاح الإداري ولو كانوا غير مسلمين.!

وأما قرائن الآيات الأخرى، فقد تكرر في القرآن وعد الصالحين صلاح التقوى والدِّيانة، بميراث الأرض، والإخبار بتحقيق ذلك الوعد.

كما في قوله تعالى: (قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[سورة اﻷعراف 128)

وقوله تعالى: (وَأَوْرَثْنَا *الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ* مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)[سورة اﻷعراف 137]

وقوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَٰلِكَ *وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ*)[سورة الشعراء 57 - 59]

وقوله تعالى يخاطب رسوله وأصحاب رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ورضي الله عنهم، في ميراث حصن قريظة: *(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا* ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا)[سورة اﻷحزاب 27]

وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * *وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ*)[سورة إبراهيم 13 - 14]

وقوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ *الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ* وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[سورة النور 55]

فالصالحون الموعودون بوراثة الأرض في آية الأنبياء، هم أنفسهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، الموعودون بالاستخلاف فيها في آية النور.

وهم أيضا من المقصودين بالسلام الذي يلقيه كل مسلم ومسلمة في كل تشهد صلاة عند قولنا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.

وإلا فهل يدخل في سلام التشهد الصالحون لإدارة الأرض من الكفار؟

وهل يصح بعد كل هذه القرائن أن يفسر الصالحون الموعودون بوراثة الأرض في سورة الأنبياء بأنهم الصالحون لإدارتها ولو كانوا غير صالحين دينيا؟!

معاذ الله أن يكون المعنى كذلك.

ولا أعلم أحدا سبق الشيخ حفظه الله، إلى هذا الغلط في قدامى ولا معاصرين.

غفر الله لنا وله.

والله أعلم. 

جميع المواد المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين