مفهوم الكفر في القرآن الكريم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آل بيته وصحابته ومن اهتدى بهديه، وأستعين بالله تعالى على موافقة مرضاته، وبعد:

فيعد مصطلح الكُفْر من المصطلحات التي أسيء استخدامها وفهم معانيها، وقد اتُّخِذَ اللفظ مطعنا على الإسلام من قِبَل الملاحدة والنصارى، وانساق كثير ممن يحسبون على الإسلام وراء أهواء هؤلاء تنصلا وتبرؤًا منه ومن كثير من آيات القرآن التي يذكر فيها هذا اللفظ، وتحريفا للكلم عن مواضعه، وراح بعضهم يعد غير المسلم من اليهود والنصارى في زمرة المؤمنين، مهاجمًا من يصفهم بالكفر، وما ذلك إلا جهل منهم باللغة العربية التي نزل بها القرآن، ولضعف الثقافة الدينية لدى هؤلاء المتنصلين، لذا وجب أن ننظر في المصطلح واستعماله في القرآن، وعلاقة ذلك بالمعاني اللغوية.

قال الثعلبي في تفسيره: "والكفر: هو الجحود والإنكار. وأصله من الكَفْر وهو التغطية والسّتر".

وحقيقة فإن لفظ الكفر في القرآن لا يقف فقط عند التغطية والستر، أو عند الجحود والإنكار، بل إن كثيرا من الدلالات المعجمية التي يحملها هذا اللفظ ينطبق على هذا الفريق من الناس، وسوف نذكر بعض هذه الدلالات المعجمية، ثم نذكر من آيات القرآن ما يعبر عن هذا المعنى، ليظهر بذلك أن لفظ الكفر هو أنسب لفظ يعبر به عن هذه الطائفة من الناس.

1. التغطية والستر: هذا هو المعنى الأشهر الذي اشتق منه العلماء لفظ الكفر، فيقال: رجل كافر، قيل: لأنه مُغَطًّى على قلبه، فكأنه فاعل في معنى مفعول، كما يقول ابن دريد [انظر: لسان العرب 5/ 144].

ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف: 100 - 101].

وقول الله تعالى عن اليهود: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 155].

فالتعبير عن القلوب بأنها غُلف، يعني عليها غشاوة وأغطية، والتعبير عن الأعين بأنها في غطاء عن ذكر الله تعالى، وكان هذا في وصف الكافرين، دال على إرادة هذا المعنى من اللفظ.

2. الجحود والإنكار: وهو نوعان:

أ. جحود النعمة، وهو نقيض الشكر، ويقال: كافَرَه حقه أي جحده وأنكره، ورجل مُكَفَّر: مجحود النعمة مع إحسانه، ولقد ذكر الله تعالى من صفات الكافرين: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 83].

ب. وكفر الجحود أن يعترف بقلبه ولا يقر بلسانه، وهو التكذيب، فهو كافر جاحد، وقال عز وجل حاكيا عن قوم فرعون: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 13 - 14].

قال ابن جريج: الجحود: التكذيب بها [تفسير الطبري 19/ 436].

3. الظلمة والسواد: فالكَفْر: ظلمة الليل وسواده؛ لأنها تستر ما تحتها، والكُفْر: القير الذي تطلى به السفن لسواده وتغطيته، وقد أشار القرآن إلى المعنيين: الظلمة والسواد.

أ. أما دلالته على الظلمة، ففي قول الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257].

قال الطبري: "يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وإنما عنى بـ(الظلمات) في هذا الموضع: الكفر. وإنما جعل (الظلمات) للكفر مثلا؛ لأن الظلمات حاجبة للأبصار عن إدراك الأشياء وإثباتها، وكذلك الكفر حاجب أبصار القلوب عن إدراك حقائق الإيمان والعلم بصحته وصحة أسبابه، فأخبر تعالى ذكره عباده أنه ولي المؤمنين، ومبصرهم حقيقة الإيمان وسبله وشرائعه وحججه، وهاديهم، فموفقهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك بكشفه عنهم دواعي الكفر، وظلم سواتر عن أبصار القلوب" [تفسير الطبري 5/ 424].

ب. وأما دلالته على معنى السواد، ففي قول الله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 106].

فوصف هذا الفريق من الناس دال على مآلهم في الآخرة، من تسويد وجوههم، نعوذ بالله من الخذلان.

4. العصيان، فإنه يقال: أَكْفَرَ الرجلُ مطيعَه: أحوجه أن يعصيه، وقال الأزهري: إذا ألجأت مطيعك إلى أن يعصيك فقد أكفرته [تهذيب اللغة 10/ 110، وانظر: لسان العرب 5/ 150].

وقد قرن الله تعالى العصيان بالكفر والفسوق في مقابلة الإيمان، فقال عز وجل: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7].

وقال حاكيا عن فرعون: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 90 - 91].

فسمى كفر فرعون وعدم إيمانه عصيانًا.

5. الخبث والدهاء والشر، يقال: رجل كِفْرين عِفْرين، أي عفريت خبيث، وقد جاء وصف زعماء الكفر بالشياطين، فقال عز وجل: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14].

وقد روي عن ابن مسعود وابن عباس وعدد من الصحابة رضوان الله عليهم أن شياطينهم رءوسهم في الكفر، وعن قتادة أنهم رؤساؤهم في الشر [انظر: الطبري 1/ 397].

6. الموت، فالكَفْر: القبر، ومنه قيل: اللهم اغفر لأهل الكفور، والكفور كذلك ما بعد من الأرض عن الناس فلا يمر به أحد [انظر: لسان العرب 5/ 150]، واللفظ قريب الشبه بلفظ القَفْر، والقفر يشبه لفظ القبر، ومنشأ ذلك تقارب مخارج هذه الألفاظ، ولقد وصف الله تعالى الكفار بالأموات لعدم انتفاعهم بما فيه نجاتهم، فقال عز وجل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122].

قال الطبري رحمه الله تعالى: "وهذا الكلام من الله جلّ ثناؤه يدل على نهيه المؤمنين برسوله يومئذ عن طاعة بعض المشركين الذين جادلوهم في أكل الميتة، بما ذكرنا عنهم من جدالهم إياهم به، وأمره إياهم بطاعة مؤمن منهم كان كافرًا فهداه جلّ ثناؤه لرشده، ووفقه للإيمان. فقال لهم: أطاعة من كان ميتًا؟ يقول: من كان كافرًا، فجعله جل ثناؤه لانصرافه عن طاعته، وجهله بتوحيده وشرائع دينه، وتركه الأخذ بنصيبه من العمل لله بما يؤديه إلى نجاته، بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسه بنافعة، ولا يدفع عنها من مكروه نازلة" [الطبري 12/ 88].

7. التراب، فالكَفْر: التراب [انظر: لسان العرب 5/ 148]، وهذا المعنى لصيق بهؤلاء الكفار من أكثر من وجه نص عليها القرآن الكريم، وكلها متعلق بأمر الآخرة:

أ. حالهم وهيئتهم، فقد قال الله تعالى عنهم: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس: 40 - 42].

ب. تمنيهم أن يصيروا ترابا كحال البهائم يوم القيامة، قال الله تعالى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40].

ج. حبوط أعمالهم وصيرورتها ترابا، قال الله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23].

8. الاستكبار، قد يبدو أن هذا المعنى بعيد، لكن ورد من معاني التكفير: تتويج الملك بتاج إذا رُؤِي كُفِّرَ له، وهو أن ينحني الإنسان ويطأطئ رأسه قريبا من الركوع كما يفعل من يريد التعظيم، والتقارب الصوتي بين الباء والفاء؛ إذ كلاهما حرف شفوي، يدعم هذا المعنى، وصيغة تفعَّل من صيغ المطاوعة لصيغة فَعَّل، وربما صلحت تَكَفَّر هنا أن تكون مطاوعة لـ (كَفَّر)، ثم تصحفت إلى تكبَّر لقرب المخرج، وقد وصف الله تعالى الكفار في آيات كثيرة بالاستكبار، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21].

والآيات في هذا المعنى كثيرة.

9. العدوان والمحاربة، فالكافر والمُكَفَّر والمتكفِّر: الداخل في سلاحه، والتكفير: أن يتكفر المحارب في سلاحه، وهو أحد المعاني التي حمل عليها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) [انظر: فتح الباري لابن حجر 12/ 194، 13/ 27].

وقد قال الله تعالى عن الكفار المنافقين: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 107].

وآيات القتال كثيرة في القرآن الكريم، ومن ذلك: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190].

وأما أنواع الكفر فقد ذكرها الأزهري نقلا عن بعض أهل العلم، فقال: " قال شمر: قال بعض أهل العلم: الكفر على أربعة أنحاء: كفر إنكار، وكفر جحود، وكفر معاندة. وكفر نفاق، ومن لقي ربه بشيء من ذلك لم يغفر له ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فأما كفر الإنكار فهو أن يكفر بقلبه ولسانه ولا يعرف ما يذكر له من التوحيد، وكذلك روي في تفسير قوله جل وعز: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] ، أي الذين كفروا بتوحيد الله.

وأما كفر الجحود فأن يعرف بقلبه ولا يقر بلسانه، فهذا كافر جاحد ككفر إبليس، وكفر أمية ابن أبي الصلت، ومنه قوله سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] يعني كفر الجحود.

وأما كفر المعاندة فهو أن يعرف بقلبه ويقر بلسانه، ويأبى أن يقبل، ككفر أبي طالب حيث يقول:

ولقد علمت بأن دين محمد *** من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذار مسبة *** لوجدتني سمحا بذاك مبينا

وأما كفر النفاق فأن يكفر بقلبه ويقر بلسانه" [تهذيب اللغة 10/ 110، 111].

ومما سبق لا نجد لفظا يجمع هذه المعاني كلها للدلالة على غير المؤمنين أنسب من لفظ "الكفر"، فليس في اللفظ ما يشين ويطعن في الإسلام.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين