عظمته صلى الله عليه وآله وسلم وشيء من سيرته الباهرة وآياته الظاهرة (3)

هذا وقد حثَّنا صلى الله عليه وآله وسلم على التزام نقطة الوسط التي هي نقطة الكمال، وحذَّرنا من الانحراف عنها إلى الإفراط أو التفريط، فتراه يقول: ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمۡ يُسۡرِفُواْ وَلَمۡ يَقۡتُرُواْ وَكَانَ بَيۡنَ ذَٰلِكَ قَوَامٗا﴾ [الفرقان: 67] ، ويقول: ﴿وَلَا تَجۡعَلۡ يَدَكَ مَغۡلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبۡسُطۡهَا كُلَّ ٱلۡبَسۡطِ﴾ [الإسراء: 29] ، ويقول: ﴿وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31].

ويقول: (إنَّ الدين مَعِين فأوغلْ فيه برفق)، ويقول: (إنَّ المُنبتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى)، ولهذا شرح طويل لا تسعه هذه العجالة.

وبعد: فإنَّ الأمَّة التي يسمونها راقية لم تأتنا في باب العدل والمساواة والحريَّة التي يتمدَّحون بها إلا بدعاوی مجرَّدة وقضايا كاذبة. وليس العهد بعيد من تلك الطنطنة التي كانت لشروط الدكتور (واسن) وما سارت عليه بعد ذلك جمعية الأم التي تمثل خمساً وسبعين دولة، وما يُعانيه العالم من جرَّاء عدالتها وإنصافها. فانظر ذلك وقارن بينه وبين ما يقول القرآن الكريم: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ﴾ [النساء: 135] ، وقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُحِلُّواْ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡيَ وَلَا ٱلۡقَلَٰٓئِدَ وَلَآ ءَآمِّينَ ٱلۡبَيۡتَ ٱلۡحَرَامَ يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَٰنٗاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُواْۚ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَ‍َٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُواْۘ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ﴾ [المائدة: 2] وقوله: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوۡمٍ خِيَانَةٗ فَٱنۢبِذۡ إِلَيۡهِمۡ عَلَىٰ سَوَآءٍۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡخَآئِنِينَ﴾ [الأنفال: 58] وقوله: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90] إلخ.

وانظر إلى قصة عمرو بن العاص رضي الله عنه وولده عندما ضرب رجلاً بمصر من السُّوقة فشكاه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: إنَّه ضربني، ثم قال: اذهب وأنا ابن الأكرمين. فأعطاه عمر رضي الله عنه الدرَّة وقال له: اضرب بها ابن الأكرمين. فقارن بين هذا وبين ما تراه وتسمعه. 

وقد قال (جوستاف لوبون): (لم يعرف التاريخ فاتحاً أعدل ولا أرحم من العرب) كما قدمنا. 

ويعجبني قول (غاندی): (إنَّ أوروبا اليوم لا تمثِّل روح الله ولا روح المسيحية، ولكنها تمثل روح الشيطان، وإنما يفلح الشيطان أكثر ما يفلح حينما تلوك شفتاه اسم الله، وإنَّ أوروبا اليوم مسيحية بالاسم، وفي الحقيقة لا إله عندها إلا إله المال).

هذا وقد تعرف أنَّ للفقراء نصيباً من الزكاة يأخذونه من الأغنياء قهراً بسيف الشريعة الإسلامية. يقابل هذا أنَّ للأغنياء نصيباً من الرِّبا في مال الفقراء يأخذونه قهراً بسيف القوانين الأوروبيَّة. فقارن بين الأمرين، ووازن بين الطريقتين!.

ولعمري إنَّ خروج هذا النبي الكريم الذي أتى بتلك السعادات كلها من تلك البيئة، وهي على أسوأ الخلال، معجزة كبرى، وآية عظمى لدى العلماء والحكماء.

ومن عجيب أمره وشريف خلاله التي خرقت السنن المعروفة، أنك ترى النفوس تتكبر وتعاظم بأقل الأشياء، وتراه صلى الله عليه وآله وسلم مع ذلك كله يتواضع شكراً لله تعالى، ومعرفة بعظمة الله سبحانه، واعترافاً بفضله عليه. وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يطأطئ رأسَه يوم فتح مكة تواضعاً لله تعالى، حتى إنَّ رأسه ليكاد يمسُّ رَحْلَه. وكانت العجوز من نساء المدينة تكلِّمه في الطريق فيقفُ لها حتى تقضي ما أرادت منه، وربما انطلقت به إلى حيث تريد. وكان ذلك من دلائل نبوته عند عدي بن حاتم، فإنَّ ذلك من شأن الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً (بخلاف الملوك وأهل الدنيا).

آية أخرى في أعجب من كل ما سمعت:

ومن عجيب أمره صلى الله عليه وآله وسلم الذي يدهش الباحثين أنه يُشير إلى الأسرار الغامضة والعلوم المالية بما لا ينفِّر منه العامَّة، بل ينتفعون بظواهره وجهاً من الانتفاع، ويعرفه الخاصَّة، وربما كان خفياً لا يكشف إلا بعد زمن طويل كهذه المسائل التي كشفها العلم حديثاً مما أشرنا إلى بعضه، فوجدناها لا تُنافي القرآن ولا تُجافي ما جاء فيه، بل وجدناه أشار لها إشارة خفية أو ظاهرة، ولا نجده في مسألة من تلك المسائل صَرَّح فيها بنصٍّ يقوم الدليلُ على خلافه، مع أنَّ كل عالم وفيلسوف إذا أراد أن يبيِّن ما في نفسه، يمكنه أن يسلك هذه الطريقة التي تنفع العامَّة والخاصَّة جميعاً، ولا يتسنى له أن يظفر بهذه العبارات التي لا تَمجُّها أذواق العامة ولا تصادمها العلوم الفلسفية ولا المكتشفات المستقبلة. 

(ومن ذا الذي يكون فرحاً بنتائج فكره وولائد عقله ثم لا يفصح عنه إفصاح المبتهجين به المتبجحين بالوصول إليه، فيكون محصوراً في حدود ضيقة لا يتخطاها بوجه من الوجوه: اللهم إنَّ هذا هو المعهود في البشر المعروف في نوع الإنسان).

أما ذلك الذي ينطبق على ما يُقرِّره العلم بعد مئات السنين، وهو في الوقت نفسه مُشتمل على ما ينفع العامَّة ويفيدهم تطهيراً وتنویراً، فلا يعقل إلا من العليم الحكيم. ولعمري إنها لآية كبرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

ومن عجيب أمره صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه نصَّ على أنَّ في القرآن محکماً ومُتشابهاً، وأنَّ المتشابه لا يعلم تأويلَه إلا الله تعالى والراسخون في العلم، وقد أمرنا أن نتمسَّك بالمحكم ولا نتعرَّض للمتشابه، فأدَّى بذلك حق العلم من جهة، وحفظنا أن نقع في الزيغ من جهة أخرى. 

وماذا علينا أن نتوسَّع في المتشابه أكثر مما قالوا. وبالضرورة لم ينزل ذلك المتشابه في القرآن عبثاً، وحاشاه من العبث: ﴿وَإِنَّهُۥ لَكِتَٰبٌ عَزِيزٞ٤١ لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٖ﴾.

فن أكبر آيات القرءان أن كان فيه المحكمات والمتشابهات، لأنَّه لو جاء على غير هذا الوجه لم يناسبْ من الأزمان إلا زمناً واحداً، وقد جاء للأزمان كلها وللناس كلهم. 

وقد فتح بذلك فوق هذا كله باب التفكير والتأويل والأخذ والرد، فارتقوا من العلم إلى أسمى درجة، ومن المنطق والحجَّة إلى أرقى مكان، فكأنه لما أراد أن يُعِدَّهم إلى هذه الغاية السامية وتلك الذروة الرفيعة، كان الأمر على ما ذكرنا. وكم له من آية في الحثِّ على الفكر والنظر مما لا نطيل بذكره.

الخلاصة:

والخلاصة أن شريعته صلى الله عليه وآله وسلم تشتمل على دعوة الخواصِّ والعوامِّ، لأنَّ المراد منها هداية كل منهما وانتفاعه بها على قدر استعداده: ﴿يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ﴾ [المجادلة: 11] وهي بعد ذلك بحر لا ساحل له. 

ولو جمعنا ما كتبه العلماء في فقه الشريعة المحمدية، وما قاله صلى الله عليه وآله وسلم في الآداب ومكارم الأخلاق، وما كتبوه في أصول الفقه وأصول الدين، وما رووه عنه من أحاديث وما كتبوه في سيرته، وما دوَّنوه في علم الحديث دراية ورواية، وما صنَّفوه فيما يتعلَّق بالقرآن الكريم من تفسير وتأویل وما يلتحق بذلك كله، لملأ الوهاد والنجاد، ولناءت به السفن فضلاً عن الإبل، وأظنك تعرف ذلك ولا تنكره. ولا بأس أن نسوق لك هنا شهادة الفيلسوف (برنارد شو) الانكليزي في حقِّه صلى الله عليه وآله وسلم:

شهادة برنارد شو الانكلیزي:

قال الكاتب الكبير برنارد شو: (كنت في كل الأحيان ولا زلت أتناول دین محمد فأقدِّره تقديراً عظيماً، وذلك لروحيَّتِه العجيبة وحيويَّتِه العظيمة. إنَّه الدين الوحيد الذي يملك القدرة على هداية الغير وملاءمة الأزمنة، فهو حري لأن يكون دين الجميع في كل دور وطور. ويجب على العالم دون شك أن يقدر ويعلق أهمية عظمى على ذلك.

(لقد تنبَّأتُ عن دين محمد أنَّه سيكون مقبولاً وملائماً لأوروبا في الوقت الحاضر. إنَّ قساوسة القرون الوسطى إما لجهلهم المطبق وإما لتعصبهم الأعمى قد رسموا الدين الإسلامي بألوان سوداء مظلمة، وكانوا في الحقيقة قد تطبَّعوا على كره محمد ومقت دینه الحنيف، لأنَّ محمداً كان يظهر لهم أنه ضد المسيحية. أما أنا فقد درست الدين الاسلامي وشخصية محمد، تلك الشخصية العظيمة اللامعة، فوجدت محمداً بعيداً عما يُلحقونه به من التُّهَم. ويجب أن يسمى في الحقيقة مخلص الإنسانية ومُنقذها).

(إني أعتقد أنَّ رجلاً مثله لو أخذ على نفسه قيادة شعوب العالم الحاضرة وكان حاكماً مطلقاً، لتمكَّن أن يقود العالم أحسن القيادة، ولتمكَّن من تسيير العالم نحو طريق السعادة، وتمشيته نحو شاطئ العدل والسلام).

(إن أوروبا الآن ابتدأت تحسُّ بحكمة محمد، وإنها بادئة في عشق دينه وفلسفته، كما أنها ستبرئ العقيدة الاسلامية عمّا اتهمت به من أراجيف رجال أوروبا في القرون الوسطی، سیکون دین محمد النظام الذي يؤسس عليه العالم دعائم السلام والسعادة، ويستند على فلسفته في حلِّ المعضلات وفك المشاكل والعقد. إنَّ كثيراً من مواطنيَّ ومن الأوربيين الآخرين يقدِّسون تعاليمَ محمد، ولذلك يمكنني أن أؤكدَ نبوءتي فأقول: إنَّ بوادر العصر الإسلام الأوروبي قريبة لا محالة).

يتبع...

الحلقة السابقة هــــنا

المصدر: مجلة الأزهر المجلد الثامن ربيع الأول 1356 الجزء الثالث.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين