عَظَمةُ سيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم مجمع العَظَمات (4)

الدعامة الرابعة

وأما الدعامة الرابعة والأخيرة من دعائم عظمة العظماء، وهي مدى نجاح المصلح العظيم في تكوين جيل قيادي صالح للحفاظ على خطِّ الدعوة ومُتابعة تنفيذ مبادئها، فإنَّها قضية الخلافة التي يتوقَّف عليها استمرار حياة الدعوة وطول عمرها. وهي من الأهميَّة والشأن بمكان.

ذلك أنَّه لا يكفي أن يكون العظيم قد حقَّق دعوته، وقدِر على تنفيذها وتطبيق مبادئها فعلاً في حياته، لأنَّها عندئذ تموت بموته أو بانقراض الفئة التي تلقتها منه وتأثَّرت به، ويكون عمرها قصيراً لا يُعدُّ شيئاً يُذكر في مدى التاريخ. فلابدَّ لتوطيد دعائم العظمة ورسوخها من أن يكون العظيم قد هيأ بحكمته واهتمامه وحسن تربيته لأتباعه جيلاً مُتفهماً لأسس الدعوة، مُتشبِّعاً بها، بصيراً بأهدافها البعيدة، وبأبعادها وبامتداداتها، مُؤمناً بمسؤوليته عن صيانتها من التغيير والتشويه، صالحاً لنشرها ونقلها إلى الأجيال اللاحقة لتستمرَّ حياتها ويطول عُمرها وتنتفع بها البشريَّة أطول ما يمكن.

إنَّ إنشاء هذا الجيل القيادي الصالح بهذه الخلافة هو بيت القصيد في كل مذهب إصلاحي وكل دعوة، وبالتالي في عظمة كل عظيم.

وقد كان لرسولنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الشأن موقع كبير لم يكن مثله أو ما يُدانيه لأي عظيم من عظماء التاريخ البشري. فقد ربى جيلاً قيادياً مُنقطع النظير في مُقوِّمات خلافة الدعوة والتضحية في سبيلها، وإيصالها إلى أجيال قيادية مُتعاقبة تشعر بمسؤوليتها عنها.

فشهادة الواقع كافية إلى اليوم فيما بلَغته دعوة الإسلام على أيدي الجيل الأول الذي أنشأه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأيدي الأجيال المتعاقبة التي كان كل منها خلفاً لسابقه في حمل المسؤولية، من خلفاء حکام (رعاة) ومن رعايا مجنَّدين لأداء واجب الدعوة وملء ساحتها.

ومن يقرأ تاريخ الصحابة الأول، وما كان منهم في جمع القرآن وصيانته في عهد الخليفة أبي بكر رضي الله عنه أولاً، ثم في عهد عثمان رضي الله عنه ثانياً، وما بُذل في سبيل ذلك من عظيم الجهود، ثم ما كان من حفظ حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو الأصل الثاني لشريعته، ونقل هذا الحديث ثم تدوينه وتثبيته وتحقيقه وما يرى في ذلك من عجائب الأخبار والأعمال، من يقرأ ذلك تأخذه الدهشة ويكاد يظن أن ما يقرأ أشبه بالخيال، وما هو إلا حقائق ووقائع عجيبة مُذهلة، نتيجة للهمم التي تفلُّ الحديد، والمنبعثة من فرط الشعور بمسؤولية الحفاظ على الدين ونشره لدى أولئك الجبال من الرجال الذين ربَّاهم وخرَّجهم أولئك الأصحاب من التابعين، ثم من تابعهم جيلاً بعد جيل، مما لم يعرف له مثيل في تاريخ المذاهب الفكرية والفلسفية، أو الدعوات الإصلاحية، أو النبوات.

والشواهد والأمثلة على ذلك معروفة مُستفيضة فيما حفل به سجل التاريخ الإسلامي، ولا سيما في عصور المدِّ والازدهار في مشارق الأرض إلى الصين، وفي مَغَاربها حتى المحيط الأطلسي، مع امتداداتها شمالاً في أوروبة، وجنوباً في أفريقية.

ولینظر في ذلك من يشاء الأمثلة الباهرة من أعمال الأجيال في نقل الحضارة والثقافة الإسلامية المتميِّزة بطابعها، ثم في فتح آفاق العلوم الكونية، وذلك كله نتيجة للعقيدة الإسلامية القائمة على العقل، والشريعة القائمة على العدل.

هذا ويظهر من تتبَّع السيرة والسنَّة النبويَّة أنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يحرص كثيراً على أن يُنمِّي في أصحابه خصلتين من أهمِّ ما يتوقَّف عليه نجاح الدعوة واستمرارها، أولاها من الأهداف، والأخرى من الوسائل، وهما: 

(1) الحرص على هداية الغير. 

(۲) ومحبَّة الجهاد في سبيل الدعوة.

- فأما الأولى: هداية الغير، فقد وجَّه إليها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم صحابته في مُناسبات وأحاديث كثيرة، من أصرحها وأشهرها قوله لعلي رضي الله عنه: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم). وحمر النعم تعبير عن أنفس الأموال التي كانوا يقتنونها، وهي نوع من الإبل نفيس أصيل جمیل ثمين، وهذا التعبير بمثابة قولنا: خير من الدنيا وما فيها.

وليتأمَّل في كلمة (رجلاً واحداً) وما فيها من دلالة على أهمية العناية بالفرد في التربية والتوجيه، وأنَّ هداية الغير إلى الصواب والخير في ذاتها لا يعدلها ثمن مهما قلَّ عددُ المستفيدين المستنيرين بها:

ويتصل بهذا الموضوع قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه المشهور:

(كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته...) وما عدَّد فيه من أصناف الرعاة ومسؤولياتهم، وفي رأس القائمة الإمام. حتى لم يبقَ أحدٌ من أفراد المجتمع الإسلامي يستطيع أن يقول لنفسه: إنني من الرعية غير مسؤول عن سواي، والامام هو المسؤول عني وعن سواي. بل إنَّ كل فرد في الإسلام هو رعية وراع في وقت واحد. فكما أنَّ غيره مسؤول عنه في أمور هو أيضاً مسؤول عن غيره في أمور. ومن أهمِّ ما تتعلَّق به المسؤولية عن الغير: هدايته إلى الحق والخير والصواب؛ لأنَّ هذه الهداية أساس الاستقامة طريق حياته كلها.

ومن هنا تفرَّعت مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي حملها الإسلام على كل فردٍ مُکلَّف في المجتمع، وأكَّد عليها القرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وآله وسلم تأكیداً شديداً.

وأما الخصلة الثانية التي حَرِص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على تنميتها في أصحابه الذين سيخلفونه في مُتابعة دعوته، وهي: محبة الجهاد والاستعداد الدائم له فهي الوسيلة الوحيدة لحماية الدعوة وبقاء طريقها مفتوحاً. وذلك لأنَّ دعوة الإسلام في عقيدة المسلم رحمة للناس أجمعين، وهي آخر رسالات السماء إلى الأرض، فيجب أن يبقى طريقها مفتوحا، وإن يكن ﴿لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ﴾ [البقرة: 256].

فإن فقدت الدعوة درعها الواقية قتلها الأشرار الذين لا يخلو منهم زمان ولا مكان. وعندئذ ينقطع حبل الهداية الذي هو حجَّة الله سبحانه على الناس، لاختتام الرسالات الإلهية. 

فلذا ركَّز القرآن العظيم والتوجيه النبوي على الجهاد في سبيل الله والدعوة إليه أعظم تركيز في واجبات المسلمين ومسؤولياتهم بأجيالهم المتعاقبة، وحبَّبه إليهم بما وعدوا عليه في الآخرة من أعظم الثواب، حتى كان الصحابة يتمنى أحدهم الشهادة في الجهاد، ويغتمُّ ويعدُّ نفسه سيء الحظِّ إن لم ينلها. وقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة).

ونصوص القرآن والحديث النبوي حول الجهاد تكاد بکثرتها وقوة تأكيدها توحي بأنَّه أعظم الواجبات الإسلاميَّة شأناً بعد الإيمان، وأنَّ مصير المجاهدين، ولاسيما من يستشهد منهم أفضل مصير عند الله تعالى في الجنة. وكان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نفسه يتمنى ويدعو الله أن يرزقه: (عيش السعداء، ونزل الشهداء)

فبتكوين هذا الجيل القيادي من الصحابة الذين ربَّاهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، جيل الخلافة والمتابعة الذين غرس في نفوسهم الحرص على هذين الأمرين الأساسيين: هداية الغير. والاستعداد للجهاد في سبيل الله بأوسع معانيه، بذلك تمَّت لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم الدعامة الرابعة والأخيرة من دعائم العظمة ومُقوِّماتها على أكمل وجه، وأصبح أتباعه اليوم يعدون بمئات الملايين.

[للمقالة تتمة في الجزء التالي]. 

الحلقة السابقة هــــنا

المصدر: المؤتمر العالمي الثالث للسيرة والسنة النبوية 1400هـ، الجزء الخامس ص225-267

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين