تجاربُ عمليَّةٌ في تربيةِ الأطفالِ وتوجيهِ الشباب (4)

-6-

وإذا كان الأبوانِ هما المثالُ الشخصي لأولادهما: يقلِّدهما الطفل حتى يعقل، فإذا عقل أصبحا أسوةً حسنة له، يَقْتفي آثارَهما، ويسلكُ سلوكَهما، ويرى ما يفعلانه حسناً في نظرِه ورأيِه، فإنَّ المعلم والمدرس في المدرسة، والأستاذ والمؤلف في الجامعة، وضابط الصف والضابط في الجيش، والرئيس المباشر في العمل، والشيخ في الطرق الصوفية، هم المثالُ الشخصي الذين يؤثِّرون في التلميذ والطالب والجندي والعامل والفلاح والصوفي...الخ.

والأمَّة التي تُريد أن تربِّي شبابها تربية مثاليَّة، عليها أن تعدَّ المعلم والضابط إعداداً مثالياً، فهما رأس كل خير، كما أنهما رأس كل بلاء أيضاً.

إنهما رأس كل خير، إذا أحسنا في أداء واجبهما، وهما رأس كل بلاء إذا أساءا.

وقد كان وراء كل عظيم أب عظيم أو أم عظيمة أو أبوان عظيمان ربَّيَاه تربيةً صالحة، أو كان وراء هذا العظيم مُعلِّمٌ عظيم، أو أستاذ عظيم، ضابطاً كان أو مدنياً.

وكل واحد منا، إذا راجع نفسه، يجد وراء كل خصلة من خصاله الحميدة قدوة حسنة من أب أو معلم أو أستاذ، أو قريب أو صديق.

وكل واحد منا، إذا راجعَ نفسه أيضاً، يجدُ وراء كلِّ رذيلةٍ من رذائله قدوة سيئة من أم أو أب أو معلم أو أستاذ، أو قريب أو صديق.

وإذا كان لديَّ ما أنصحُ به شبابَ اليوم فهو مُطالبتهم بالاستقامةِ وعمل الخير، والاستفادة من أوقاتهم في العلم والتعلُّم، والحرص على المصلحة العامَّة وإيثارها على المصلحة الخاصَّة. إنَّ التربية المستمدَّة من تعاليم الدين الحنيف، هي التي تيسِّر كلَّ هذه الخصال.

المسلم الحقُّ الصادق لا يكذب، نزيهٌ لا يتلوَّث، قوي لا يضعف، أمين لا يخون، طاهر الذيل لا يزني، مخلص لا يراوغ، كريم لا يبخل.

لا يخاف الموت، ولا يخشى الفقر، ولا يَهابُ قوَّة في الأرض، يقولُ الحقَّ ولو على نفسه، يُسالم ولا يَستسلم، ولا تُضعفُ عزيمتَه الأراجيفُ والإشاعاتُ، لايستكين للاستعمار الفكريِّ، ويقاومُ الغزوَ الحضاريَّ، ولا يقنطُ أبداً ولا ييأسُ من رحمةِ الله تعالى.

هذا المسلمُ الحقُّ يقظٌ أشدَّ اليقظةِ، حذرٌ أعظمَ الحذر، يتأهَّب لعدوِّه ويُعِدُّ العُدَّة للقائه ولا يَستهين به في السلم أو الحرب.

إنَّ التربيةَ الإسلاميَّة تُعدُّ المسلم ليكونَ عنصراً مُفيداً في الأمَّة الإسلامية من الناحيتين العسكريَّة والمدنيَّة، لذلك حمل المسلمون عندما كانوا مسلمين حقاً للعالم حضارةً عظيمة وكانوا في الحرب لا يُغلبون من قلَّة أبداً.

-7-

لابدَّ من إعادة النظر في: بناء الرجال والنساء ليكونوا دعامة وسنداً للمستقبل، ولتكون الأمَّة الإسلاميَّة خير أمة أخرجت للناس.

أ – يجب أن يتحمَّل الآباءُ والأمَّهات واجباتِهم كاملة في تربية الطفل، لأنَّ كثيراً منهم قد أهملَ هذه الناحية اعتماداً على المدرسة، فيجب تَلقين الأطفال مبادئ الدين الحنيف وأسس الخُلق القويم في البيت قبل الالتحاق بروضة الأطفال والمدرسة.

إنَّ الطفلَ الذي لا يتلقى التربية الصالحة من والديه في بيته قبل ذهابه إلى الروضة والمدرسة، أو يتلقى تربيةً فاسدة في البيت، فإنَّ الروضة والمدرسة تعجز عن تقويم اعوجاجه التربوي، ومن المؤسف أنَّ كثيراً من المدارس لا تُعلِّم التديُّن، وأنَّ بعضها يُعلم ما يَتناقضُ مع الدين... ولا أزيد.

إنَّ البيتَ هو المدرسة الأولى للأطفال، وفيه يوجَّهون مُبَكِّراً إلى الخير أو الشر، والأطفال أمانة لدى الوالدين، والسيطرة على الأطفال واجب من واجبات الوالدين، والسبيل إليها التربية المثالية المبكرة، حيثُ يقتطف الأبوان ثمرات هذه التربية حين يشبُّ طفلهما ويصبح شاباً، وحينذاك لا يَعْصي لهما أمراً.

إنَّ الوالدَ الذي لا يُربي أولاده تربية سليمة في البيت، ولا يسيطر عليهم سيطرة الثقة المتبادلة لا سيطرة التحكُّم والتعسُّف، خائنٌ وجبان، والذي يَدَعُ عِرْضَه نَهْباً لأعين الفسَّاق خائنٌ وجبان وديوث.

ب – إعادةُ النظر في تربية النشء العربي الإسلامي، ووضع مناهج تربيتهم على أسس مُستمدَّة من تعاليم الدين الحنيف.

إنَّ تفشِّي التردِّي الخلقي بين أبنائنا، يخدمُ إسرائيل وأعداء العرب والمسلمين، فلماذا نخرب بيوتنا بأيدينا؟! 

إنَّ إعداد المعلم والأستاذ والضابط إعداداً سليماً هو مفتاح الإصلاح التربوي، فلابدَّ من إعطاء هذه الناحية أعظم درجات الاهتمام.

يجب أن نُدخِلَ التعليم الديني في مدارسنا ومعاهدنا وكلياتنا، وأن نُعدَّ مناهج هذا التعليم بتوجيه علماء الدين الحنيف.

ومن المؤلم أنَّ التعليم الديني حُورب في البلاد العربية والإسلامية مُحاربة لا هوادة فيها، حتى تلاشى هذا التعليم في المدارس والمعاهد والكليات أو كاد.

ومن المذهل حقاً أنَّ رجال التربية والتعليم العرب والمسلمين هم الذين ذبحوا التعليم الديني في بلادهم بغير سكين، وبذلك نفَّذوا أهداف الاستعمار والصهيونيَّة في سَلْبِ العقيدة من المتعلمين!

فهل يمكن أن نُصدِّق أنَّ ذلك جرى عفواً؟ أم أنَّ الأيدي الخفيَّة كانت وراء الأكمة، فسَخَّرت التافهين والإمعات والعملاء وأشباه الرجال لوضع مخططاتها التخريبيَّة في موضع التنفيذ.

جـ - يجبُ بناءُ المساجد في كلِّ مدرسة ومعهد وكليَّة، وإعداد المعلمين القادرين على تدريس الدين وإقامة شعائرِه وإلقاءِ المحاضرات الدينيَّة، وحثِّ التلاميذ والطلاب على أداءِ الفرائض وعلى رأسها الصلاة.

وقد دأب التلاميذ والطلاب على القيام بسفرات محلية وخارجية، فلماذا لا يُسافرون لأداء فريضة الحج والعمرة ولو مرَّة واحدة سنوياً في كل قطر عربي وإسلامي؟!

أليس من الغريب أن نسفِّر التلاميذ والطلاب إلى الشرق والغرب، ولا نسفِّرهم ولو مرَّة واحدة إلى الديار المقدسة؟!

لقد سافرت لأداء فريضة الحج يوم كنتُ في السنة الثالثة من المدرسة المتوسطة مع وفد مؤلف من التلاميذ والمعلمين، فأثَّر ذلك في نفسي تأثيراً لا تمحوه الأيام، ووجَّهني إلى الدين الذي هو مصدر الخير والنور والبركة، فلماذا لا تُكرَّر هذه التجربة على أكبر عدد من التلاميذ والطلاب والمعلمين والمدرسين والأساتذة؟

د – مُراقبة تصرُّفات التلاميذ والطلاب والمدرسين والأساتذة، ووضع حدٍّ حاسم للانحراف، والمنحرفين بحزم وأمانة وقوة، لمصلحة أولئك المنحرفين أولاً وقبل كل شيء.

إنَّ (الحريَّة) التي بدون قيود هي (فوضى) والحريَّة الحقَّة هي في التصرف ضمن إطار الفضيلة والخُلق الكريم.

إنَّنا لسنا بحاجة إلى (حريَّة) التفسُّخ والانحلال والضياع.

إنَّ عقلاء الأجانب ومفكريهم مُتذمِّرون من ضياع شبابهم، فلماذا نستورد الانحلال من وراء الحدود باسم المدنيَّة والحضارة والحرية... الخ.. من شعارات.

هـ - على الدول العربيَّة والإسلامية أن تشجِّع الفضيلة وتقضي على الرذيلة، وأن نولي مقاليد الأمور الملتزمين بالفضيلة والدين حتى يكونوا أسوة حسنة لغيرهم.

وعلى هذه الدول تحريم تقديم الخمور في حفلاتها الرسمية وتحريم استيرادها وإنتاجها وبيعها في بلادها، وأن تمنع استيراد الأفلام الخليعة وإنتاجها محلياً، وتمنع عرض التمثيليات اللاأخلاقية في الإذاعة المرئيَّة والمسموعة، وتمنع مجلات الجنس وقصص المخدع والأدب التافه الخليع.

لقد نقلنا المراقص الخليعة بالإذاعة المرئيَّة إلى كل دار، فالله،، الله،، الله... في أخلاق أطفالنا وشبابنا.

تلك لمحات مختصرة مما أراه ضرورياً لإعادة بناء الرجال والنساء، لعلَّ فيها فائدة لإخوتي وأخواتي من الآباء والأمهات ولأولادي وبناتي من الأطفال والشباب.

-8-

وألمح من بعيدٍ قسماً من القراء يقولون: هذه تربية قديمة، ونحن بحاجة إلى تربية جديدة.

وأفترض حسنَ النية في هؤلاء المعترضين، لأنَّ تربيتهم في البيت والمدرسة والجامعة لم تكن كما يُرام.

هذه التربية المنحرفة في عقر دارها، والمستوردة حسب مخطط مشبوه، هي التي أدَّت إلى انحراف الأحداث والشباب، فأصبحوا يفكرون بأنفسهم ولا يفكرون بغيرهم، ويرون الحياة (مادَّة) بحتة تتركز في البطن والجيب والفرج، خالية من الروح بما فيها من سمو وخير وبركة.

هؤلاء الذين أصبحوا، نتيجة لتربيتهم المنحرفة المشبوهة، يُعانون من عقدة مركَّب النقص تجاه التربية الغربية وعقدة مركَّب العظمة تجاه التربية الإسلامية.

لهؤلاء وحدَهم لا لغيرهم من الذين أنعم الله عليهم بالإيمان، سيتركَّز حديثي في مقال آتٍ، عن آراء المشير مونتكومري في التربية التي سطَّرها في كتابه الأخير: (السبيل إلى القيادة)، وهو آخر مؤلَّفاته بعد أن بلغ الثمانين أو أكثر، لعلَّ في آرائه ما يُقنعهم بوجهة نظري ووجهة نظر السلف الصالح من علمائنا الأبرار.

وأشهد أنَّني قارنت بين آراء مونتكومري التربويَّة وآراء الإمام الغزالي التربويَّة في كتابه (إحياء علوم الدين) فوجدتُ آراء الغزالي عليه رضوان الله أكثر دقَّة وأشمل تفصيلاً وأدق بحثاً وأوضح مَنْهجاً، وأقوم أسلوباً وأقرب إلى الواقع من آراء مونتكومري!

ولكن ما حيلتنا مع الذين استهوتهم شياطين الغرب، وبهرتهم مدنيَّتُه وحضارته، واستحوذ عليهم الاستعمار الفكري البغيض؟

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي السنة السابعة، جمادی الأولی 1391 - العدد 77 ‏

الحلقة الثالثة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين