تجاربُ عمليَّة في تربيةِ الأطفال وتوجيه الشباب (3)

 

-4-

إنَّ الآباءَ والأمهاتِ الذين يُريدون أن يفرِضوا سيطرتَهم على أولادهم بعد أن شبُّوا عن الطوق، دون أن يُكلِّفوا أنفسهم عناءَ تربيتهم تربيةً صالحة منذ أيام الطفولة، يخفقون في فَرْض سيطرتهم كلَّ الإخفاق، كما نلمس ونسمع ونشاهد اليوم، حيث أصبحت السيطرة التامَّة بيدِ الأولاد على الأبوين لا بيد الأبوين على الأولاد، مما أدَّى إلى تصدُّع بناء الأسرة وحلول الكوارث الأخلاقية، وإرخاء العنان للأولاد طوعاً أو كرهاً.

إنَّ ولد اليوم هو رجل المستقبل، فيجب أن يكون الهدفُ من تربيَتِه هو بناء المثل العُليا في نفسه لتكون طبيعةً فيه، حتى يتسنَّى له عندما يحين الوقت المناسب أن يؤثّر في الآخرين إلى ما فيه الخير.

وهناك أمر يجبُ ألا نخطئَ فيه، وهو أنَّ غرسَ أُسُس المُثل العُليا في الطفل، يجب أن يتمَّ في البيت، وأنَّ التربيةَ الأساسيَّة يجبُ أن تبدأ هناك.

هذه التربية هي التي تؤثِّر في الطفل وتوجِّهُه طيلةَ حياتِه، إمَّا إلى الخير وإمَّا إلى الشر، وعلى أُسس التربية السليمة التي تُقام في البيت، سيَبْني المعلم تربية الولد عندما يَلتحق بالمدرسة، فإنْ لَم تكن تلك الأسس قد غُرست في البيت من الأبوين في الطفل، فلا يَستطيع المعلم أو أيَّ شخصٍ آخر أن يفعلَ شيئاً في تنمية التربيَةِ السليمةِ.

وما نسمعه اليومَ عن (انحراف الأحداث) و (آثام الأحداث)، سبَبُه الرئيسي بدون شكٍّ هو إهمال الأبوين في تربية الطفل.

وتجربتي العمليَّة تحمِلُني على الاعتقاد بأنَّ أُسس التربية السليمة يجب أن تُغرس في الطفل من أول شعوره بالحياة، وابتداء فهمه لما يجري حوله من أعمال يتساءل عنها تارة، ويقلدها تارةً أخرى، وبصورة عامَّة، تبدأ تربيةُ الطفل عندما يصبح في الثالثة من عمره، فيرى والده يصلي مثلاً فيسأله: ماذا تصنع؟! فيقول الوالد: هذه صلاة لله تعالى، فيسأله الطفل: ومن هو الله؟ فيقول الوالد: الذي خلقنا والذي يرزقنا، والذي يوفقنا في الحياة...

وبأسلوب بسيط يجري إفهام الطفل عمَّا يتساءل عنه، وحينذاك سيصلي الطفل بدون مُتطلبات الصلاة وبأي شكل، ولكنه بالتدريج يتعلَّم ما يَنبغي أن يفعل في الصلاة، فيكون من واجب الوالد تشجيعه مادياً ومعنوياً، فلا يبلغ السابعة من عمره إلا ويكون قد أتقنَ إقامة الصلاة، تلك الصلاة التي بدأ في إقامتها تطبعاً وتقليداً، وبمرور الوقت أصبحت فيه طبعاً وعقيدة.

وما يقال عن الصلاة، يقال عن غيرها من أعمال البرِّ والخير.

إنَّ الطفل يجب أن يُربى تربيةً تجعله يميِّز بين الخطأ والصواب، ويتحلى بالصدق والاستقامة وحب الخير.

ولعل تعليمَه الصلاة، والصلاة عمود الدين، بداية مُباركة تعلِّمُه بالتدريج كلَّ خصالِ الفضيلة، وكلَّ فضائلِ الخصال.

ومن المناسب في أيام الجُمَع والأعياد، مُرافقة الطفل إلى المساجد للصلاة، حتى يتعوَّد ارتياد المساجد، وحتى يتشرَّب بروح المسجد وسيجد الطفل في ارتياد المساجد نوعاً من التسلية في بداية الأمر، حتى إذا كبر أصبح ارتيادُها محبَّباً إلى نفسه، يجد فيها راحةً وسلوى واطمئناناً وأمناً.

وللمسجد فوائد للطفل والشاب ولغيرهما أيضاً، من هذه الفوائد أن يتعرَّف الطفلُ أو الشاب بأصدقاء طيبين أخيار، يُفيدون ولا يَضرون، ويبنون ولا يهدمون.

-5-

ويسير الطفل إلى جانب والده في الطريق، فيجدان فقيراً أو محتاجاً يسألُ الناس ويطلب المساعدة، فيعطي الوالدُ شيئاً من المال لولده، ويأمرُه أن يقدِّم المال للفقير أو المحتاج، ويسألُ الطفلُ أباه: لماذا؟ فيقول: لابدَّ أن نساعد الفقراء والمحتاجين، حتى لا يبقى أولادُهم بدون طعام ولا ثياب، ثم يذكر الأبُ لطفله فوائد الصدقة، وأنَّ الله سبحانه يبارك في أموال المتصدقين ويدفع عنهم الضر والعوز.

وإذا طرق فقيرٌ أو محتاج بابَ الدار، فإنَّ الأبوين يقدمان للطفل نقوداً ليقدمها بدوره إلى الفقير أو المحتاج، ويعود إلى أبويه فرحاً مستبشراً، وبمرور الزمن، يتعوَّد الطفل مساعدة من يحتاج إلى المساعدة من ماله الشخصي ويجد راحة نفسيَّة لذلك.

وعلى المائدةِ يَبْدأ تناولُ الطعامِ باسم الله تعالى، ويكرِّر ذلك على مَسمعٍ من الطفل، حتى يتعلَّمَ الطفلُ ما يَسْمعُه، ويُردِّد ما يُردِّده أبوه وأمُّه.

فإذا طرقَ البابَ ضيفٌ أو فقير، بادرَ الأبُ إلى الترحيبِ بالضيف ودعوته إلى تناول الطعام، وتقديم كميَّة من الطعامِ إلى الفقير.

من ذكرياتِ الطفولة، التي لا أنساها، أنَّ جدتي لوالدي آثرت أن تبقى جائعةً لتقدِّم طعامها إلى ضيفٍ قَدِمَ على غير ميعاد.

ومن ذكرياتي عنها أنَّها قدَّمت طعامها الذي كانت تتناوله إلى فقير طرق الباب، وهي تقول فرحةً مُستبشرة: (سهمي في الجنَّة).

وجاءها مرة فقير، فلم تجد ما تقدِّمه له، فخلعت ثوبها وكستْهُ به، وحين عادت إلى غرفتها لترتدي ثوباً آخر، كانت مسرورةً بعملها سروراً لا يُوصف.

وكانت تردِّدُ كلما أكملت تناولَ الطعام: (اللهم أطعمني، فأطعمُ كلَّ فقير).

تلك ذكريات قليلة مما كانت تفعله، أثَّرت في نفسي في حينِه ولا تزال تؤثِّر في نفسي حتى اليوم.

ولكنني لم أكن أدري يومَها، أنَّها كانت تفعل ما تفعل، بالإضافة إلى ما كانت ترجوه من أجر وثواب من الله سبحانه، أنها كانت تلقنني دروساً عملية في التربية، مُكتفية بالتطبيق العملي حيناً، ومُفَسِّرة موضِّحة بالكلام البسيط بعض ما كان يخفى عليَّ من معانٍ حينذاك.

والواقع أنَّ هذه الجدَّة الأميَّة، أثَّرت في تربيتي بورعها وتقواها، ما لم يؤثِّره فيَّ كبارُ العلماء من القدماء في مؤلَّفَاتِهم ومن المحدثين في تماسهم الشخصي بي تلميذاً وطالباً وزميلاً.

ومرَّةً ثانية... فإنَّ المثال الشخصي له أعظم الأثر في التربية، لأنَّه عمل يصبح في النفوس عملاً، وليس كلاماً لا يلبث أن يتلاشى.

[للمقالة تتمة في الجزء التالي]..

المصدر: مجلة الوعي الإسلامي السنة السابعة، جمادی الأولی 1391 - العدد 77 ‏

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين