دعوى أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة(1)

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.. وبعد:

فقد بلغني أن لبعض النجديين كتابا عنونه بــ(أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة) ضاهى به تأليف من تقدمه إلى إحداث هذه التسمية، وهو كتاب الجيزاني الذي وسمه بــ(معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة) وفيه ضعف في مأخذه وعامة ما فيه النقل عن ابن تيمية والشوكاني ومن يعتقدهم المصنف أهلَ سنة وجماعة.!

ولسنا هنا بقصد الكلام عن الكتاب وتقويمه فنحن لم نطلع عليه بعد، وإنما القصد النظر في نفس الفكرة التي قام عليها عنوان هذا التأليف، والعجب أن القوم يحتكرون مسمى السنة والجماعة ويخلعون على من سواهم ما هو ضد هذا اللقب كالبدعة والشذوذ عن جماعة المسلمين التي هم فيها أقل أهل الإسلام، ولا تحصل بـمجردهم الجماعة ولا خيرية الأمة ولا المكاثرة والمباهاة بـهم دون غيرهم، ثم تراهم يثورون وتجيش مراجلهم غضب الخيل على اللُّجُم، حين عُقد مؤتمر الشيشان فأخرجهم من السنة والجماعة.!

والواقع أن نفس التسمية لا موقع لها، لأن الأصول أساليب الاجتهاد وهي مشتركة بين العقلاء والعلماء، ولهذا يستعمل الأصول كل ناظر في نص يُراد فهمه والاستنباط منه كالنصوص القانونية والدستورية، فيلزم من هذا أن نُصنّف (أصول الفقه عند أهل القانون والمحاماة) وهذا فساده ظاهر جداً، فما لزم منه مثله بل أفسد.

وإن قيل: إنه مثل من صنف (أصول الفقه عند المعتزلة) و(عند الشيعة) قيل له: هذا إن قصد به تجريد قواعدهم بحيث يسهل الإشراف والوقوف على جمهرة ما لهم من أقاويل في الأصول، فهو محتمل للقبول، وإلا فهو مذموم ولا طائل منه سوى تسويد الكاغد باجترار ما سبق، على حد المثل المصري (يطبّل في المطبّل).

لا يقال: هو كمن صنف كتابا في أصول الحنفية أو غيرهم من أهل المذاهب، لأنه الفرق ظاهر، إذ لهؤلاء أصول تميزوا بـها عن غيرهم من المذاهب، فلكل مذهب أصوله التي ينفرد بـها أو يشاركه فيها بعض المذاهب، وليس لمن يسميهم هو أهل السنة والجماعة ما يميزهم من الأصول عن غيرهم، وإنما لهم اختيار وهذا خارج عن محل البحث.

على أن هذا الجمع أيضا لا طائل منه فإن أقاويلهم مبسوطة في مدونات الأصوليين والوقوف عليها سهل، إذ ليس فن الأصول بالمتسع كالفقه والأحكام حتى يحتاج إلى ذلك، وإنما يحسن من هذا النوع، التصنيف في جمع مفرداتـهم واختيارهم في الأصول. 

فلو أن المدعي تصنيفَ الأصول عند من يراهم أهلَ السنة والجماعة جمع اختيار من يعتقد فيهم السنةَ والجماعة، في مسائل الأصول كان حسنا، فأما أن يختزل الأصول فيهم دون من أقام صرحه من المتكلمين والفقهاء ممن هم خارجون عنده عن مسمى السنة والجماعة، فهو جور عظيم.

وأيضا فنفس مسمى السنة والجماعة يتنازعه الأشعرية والماتريدية والصوفية والحنبلية وأهل الحديث والظاهرية، واحتكار السلفيين له تحكُّم باطل عند كل منصف كاحتكار غلاة المخالفين للسلفيين له، فاجتلاب هذا اللقب لتوصيف مسمى الأصول به، مصادرة على المطلوب، إذ المخالف ينازع في انتسابك للسنة والجماعة كما تنازع أنت في تسميته بذلك. 

وعليه يلزم أن تُصنّف كل طائفة ممن تدعي السنة والجماعة أصولا خاصة بـها، فيفضي إلى فساد العلم والعبث بقواعده ومباحثه، لأن غالب مسائل الأصول لا تخلو من قائل بـها ممن ينتسب إلى هذه الفرق والطوائف، فدعوى أن هذا الأصل قاله من يسميهم الـمُصنِّف أهلَ السنة والجماعة باطلة ضرورة أن غيرهم قاله أيضا.

يوضحه: أن لأهل الأصول تواليف كثيرة لا تحصى، لكن منها ما هو عُمَدُ الفن التي تدور عليها مباحثه، وذلك أن الأصول يرجع إلى مدرستي الرأي والأثر، وجاء الشافعي فخلط بينهما كما خلط نفطويه والقُتبي وابن كيسان بين نحو الكوفية والبصرية، فكتاب الشافعي محيط هذا الفن.

ثم جاء قاضي السنة أبو بكر الباقلاني ووضع (تقريبه) ووضع قاضي المعتزلة عبد الجبار (العُمد) واعتمده أبو الحسين في (المعتمد) مع شرحه له، ولخص إمام الحرمين هذه الأصول في (برهانه) فاعتمد الغزالي هذه الأربعة واصطفى منها (المستصفى) حتى تميزت أربعة دواوين هي أبحر هذا الفن وهي: (التقريب) و(المعتمد) و(البرهان) و(المستصفى) بما فيها من تنقيح وتحقيق.

ثم انفجر من هذه البحور الأربعة، نـهران عظيمان هما (المحصول) للإمام، و(الإحكام) لسيف الأصوليين الآمدي، وهما نُقاوة هذه الدواوين الأربعة التي هي بحار الأصول، فلخص الأولَ: البيضاويُّ في (مختصره) ولخص الثاني: ابنُ الحاجب في (مختصره) فهما نـهران يصبان في البحور الأربعة.

حتى جاء تاج الأصوليين فشرح المختصرين ونقل في (شرحيه) من تصانيف المذاهب ما يبهر العقول من كتب الحنفية والمالكية والحنابلة والظاهرية والشيعة، ثم عمد إلى (شرحيه) فاعتصرهما في (الجوامع) الذي هو كالساقية من تلك الأنـهار، فلا يحصى كم ناظم له ومختصر، ومعترض عليه ومنتصر. 

وكل هؤلاء الذين عليهم مدار علم الأصول، إما أشعري أو معتزلي، وعلى تصانيفهم قامت سوق الأصول وراجت وتأسست، فكيف تـهدر جهودهم وتحتكر أصولهم فيمن يسمونـهم أهلَ السنة والجماعة، ممن غاية ما عنده البحث والترجيح فيما أسسه أولئك من القواعد والنظر.؟ 

وهذه الأصول التي يقال إنـها أصول أهل السنة والجماعة، إن كانت هي عين أصول هؤلاء المتكلمين، فخلع مسمى السنة والجماعة عليها ضائع، وإن كانت غيرها فهو محال لا جود له إلا في خيال المدعي كما يأتي بيانه، فسقطت الدعوى.

وعامة الحنفية من الأصوليين ممن شيدوا معاقد الفن إما معتزلي أو ماتريدي، وعامة المالكية ممن قام عليهم صرح أصول الفقه أشعرية، وأما أصوليو الحنابلة فإنما حذو حذو هؤلاء، لم يخرجوا في الجملة عن رسم الأصوليين من المتكلمين، بيد أن لهم مفردات فيه كغيرهم لاستقلال مذهبهم بالاجتهاد والنظر.

وعامة أهل الحديث يتمذهبون لهؤلاء في الأحكام والأصلين، وأما الظاهرية فأصولهم التي استبدوا بـها معروفة عند من يقول بالاعتداد بـهم في الخلاف والوفاق، وهي إنكار القياس والتعليل والمصالح والاستحسان وبه ينهدم ثلث العلم أو أكثر، وما عدا هذا من الأصول الدلالية وغيرها كالإجماع والنسخ والتراجيح ونحوها فهم فيها كغيرهم من الأصوليين. 

على أن ابن حزم أصلا ليس عند هؤلاء من أهل السنة والجماعة بل هم يُجهّمونه، لكن يعظمونه لاتباعه الحديث، فإن كان ذلك كذلك فعامة الشافعية أتباع حديث، حتى ذكر ابن السمعاني أن لقب أهل الحديث إذا أطلق بما وراء النهر قُصد به الشافعية وأكثرهم أشعرية. 

وعامة أصحاب مالك تبع له في الحديث وهو نجم السنن، وهكذا الحنفية كما حققه العلامة الكوثري، لكن لهم في الحديث أنظار خاصة ترجع لأصولهم كما لابن حزم من ذلك نظره الذي يرجع إلى أصله في التعلق بالظواهر، ولا يوجد عالم لا يتبع الآثار إلا في مخيلة الأغمار.!

وأيضا فهؤلاء الذين هم عند المصنف أهل سنة وجماعة كابن تيمية ونظرائه لا يخرجون في الجملة عما قرره أئمة الفن ممن شيدوا معاقد الأصول من فقهاء الأشعرية والمعتزلة ومتكلميهم، بل لا يخرج ابن تيمية نفسه في الجملة عن مذهبه إلا في مباحث يسيرة كالذي قرره في عموم البلوى والوسائل.

وهو أيضا لم ينفرد به فقد شاركه فيها أو تقدمه إليها بعض العلماء من غير أهل مذهبه ولا سيما من المالكية، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية كثير الاعتماد على تقريرات المالكية وهو مطلع منها على ما لم يطلع عليه غيره، وكان يذكر من أسمائهم ما لا يوجد في كتب الطباق، ويبالغ في وصفهم بالاجتهاد والتحقيق والاتساع في العلوم كما ذكره في آخر فتيا الطلاق المعلق.

وإن أريد بـهذا الاسم ما قرره من ينصر ظواهر السنن كالشوكاني ونحوه، فلا موقع له أيضا، لأنـهم كذلك لم يخرجوا فيما رجحوه من الأصول عن مجمل ما قرره المتكلمون، ودونك كتاب الشوكاني لم يخرج فيه في الجملة عن أصلين: (البحر المحيط) وهو أشعري، وجُلُّ اعتماد الشوكاني عليه، فإنه لخصه وزاد عليه من كتاب (شرح الغاية) للحسين بن القاسم وهو معتزلي زيدي، فأين مسمى السنة والجماعة.؟!

وبعض هؤلاء يقصد بأصول أهل السنة والجماعة من يتابعه على اعتقاده من الشيوخ، فلهذا ينقلون في الأصول عن الألباني رحمه الله الذي هو أجنبي عن أصول الفقه، وعامة ما يوجد في تواليفه من الأصول هو فيها تابع لابن حزم أو الشوكاني وقليلا عن ابن تيمية، فالنقل عنه لا محصل منه.

أو يقصد الشيخ ابنَ عثيمين رحمه الله، والرجل وإن لم يكن حنبليا بالمعنى المطابق إلا أنه لا يخرج في أصوله عما قرره ابن تيمية، على أن ابن عثيمين كان يطري (المستصفى) ويعظّمه جداً ويذكر أنه أجل دواوين الفن. 

وابن تيمية في (المسودة) أو غيرها معتمد على كتب الأصول المشهورة التي تقدم ذكرها وأنـها أصل دواوين هذا العلم، لكنه يزيد من سعة اطلاعه ما وقف عليه من تصانيف الفن التي لا تخرج في الجملة عن هذه الدواوين إلا بآراء أصحابـها أو نقل نادر، مثل (الملخص) للقاضي عبد الوهاب، و(اللامع) لأبي حاتم القزويني، وكتاب أبي عبد الله الجرجاني الحنفي وكتاب ابن بَرهان وكتاب (اللباب) لأبي الحسن البُستي وكتاب الصيمري وأبي سفيان السرخسي وغير ذلك، وليس واحداً من هؤلاء عندك بأهل سنة وجماعة، فأي أصول سنة وجماعة هذه.؟!

وإن أريد بالسنة والجماعة الحنابلة، فأصول القاضي أبي يعلى عمدة الفن لهم، وقد حذا فيه حذو أصول الماوردي ونظرائه من الشافعية، وزاد عليه ما ليس عندهم من مسائل أحمد وأصحابه، ومن أصولهم المشهورة كتاب (التمهيد) لأبي الخطاب الكلوذاني ولا يشذ في الجملة عن دواوين المتكلمين. 

وكتاب (الواضح) لابن عقيل وفيه يقول ابن تيمية الجد: (ما أحسنه من كتاب) وابن عقيل قد كان على الاعتزال مدة، وروضة الموفق التي اعتمدها الجيزاني هي مختصر (المستصفى) فأي سنة وجماعة.!

وهذا أجل كتاب للحنابلة وهو (أصول ابن مفلح) وهو مبني على ثلاثة كتب أحدها: (المسودة) فإنه لخصها وزاد عليها من (البلبل) للطوفي الذي هو مختصر الروضة القدامية التي هي مختصر (المستصفى) كما مر، وحذا ابن مفلح في كتابه حذو ابن الحاجب في سياق دلائل الأصول حتى لينقل منه بالحرف، ثم كل من بعده من الحنابلة معول عليه لا يخرج عنه.

فهذا ابن اللحام قد اختصره ثم شرح الجرّاعي المختصر اللحامي بالنقل عن ابن مفلح الأصل، ثم جاء المرداوي وهو منقح المذهب وإذا أطلق القاضي في لسان من بعده من أهل المذهب فهو المقصود، وإذا أطلق في لسانه ولسان من قبله فهو أبو يعلى، والمرداوي قد اختصر أصول ابن مفلح في (تـهذيب المنقول) ثم شرحه في (التحبير) معولا على أصل كتاب ابن مفلح وكتاب (البحر) للزركشي وزاد عليه من كتب التاج وأبي زرعة ابن العراقي وشرح المحلي وشرح البرماوي على (ألفيته الأصولية) وشرح السيوطي وشرح الكوراني وغيرهم من متأخري الأشعرية.

ومن بعده فإنما يعول على مختصر المرداوي وشرحه اللذين هما نفس أصول ابن مفلح وزيادة، كابن مفلح الحفيد في (مختصره) ومثل ابن النجار الفتوحي الذي شرح مختصره الشيخ ابن عثيمين، فإنه اختصر مختصر المرداوي وشرحه معتمداً على شرحه، فعُدنا إلى أصول ابن مفلح، الذي أصل مادته من كتب الأشعرية والمعتزلة، فأين السنة والجماعة.؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين