الرد على تليمة في المسح على الجوارب الرقيقة دون طهارة وتحديد مدة (4/4) 

فصل

في الكلام على اشتراط الطهارة من الحدث لاستباحة المسح

قال تليمة: (اتفق الأئمة الأربعة على اشتراط أن يكون لبس الخف على طهارة، ولكن داود الظاهري لا يرى ذلك وهو ما نميل إليه، فهو يرى أن المراد بـ (طاهرتين) في الحديث الطهارة من النجاسة فإذا لم تكن على رجليه نجاسة حال اللبس جاز له المسح ولأنه حمل الطهارة هنا على الطهارة اللغوية).

وهذا القول شاذٌّ كما صرح به ابن رشد في (البداية) ولشذوذه لم يعبأ به الخلافيون فحكوا الإجماع على اشتراط الطهارة من الحدث لاستباحة المسح، كما أطلقه ابن عبد البر في (التمهيد) والبغوي والقرافي والكاساني وابن رشد الحفيد والنووي والموفق في (المغني) وابن القطان وابن الهمام وابن نجيم وغيرهم، وبه تعلم أن قول تليمة (اتفق الأئمة الأربعة) تقصير ظاهر في العزو، وهو موهم.

على أن في النفس من حكاية هذا القول عن داود شيئًا، لأن ابن حزم لم يحكه بل صرح باشتراط الطهارة من الحدث للمسح في أول باب المسح من (كتابه) وهو أعلم بمذهب داود ممن نقل عنه هذا القول الشاذ كالقاضي عياض في (شرح مسلم) ومن تبعه كالحافظ والشوكاني وغيرهما، بل نقل ابن حزم عن داود ما ظاهره خلافه، فإنه حكى عنه أن من توضأ فلبس أحد خفَّيه بعد أن غسل تلك الرجل ثم إنه غسل الأخرى بعد لباسه الخف على المغسولة، ثم لبس الخف الآخر ثم أحدث فالمسح له جائز كما لو ابتدأ لباسهما بعد غسل كلتي رجليه، وهو كالصريح في اشتراطه الطهارة من الحدث للمسح.

ويقوِّيه أن من مذهب داود كأحمد في إحدى الروايتين، أنه يجزئه أن يدخل كل قدم في الخف وهي طاهرة، ولا يشترط أن يبتدأ لبسهما معا على طهارة كاملة، فلو توضأ ثم غسل إحدى رجليه وأدخلها الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلها الخف، فإنه يباح له المسح، ولو كان داود لا يشترط طهارة الحدث للمسح لم يحتج إلى تكلُّف هذا الفرع، وهذا ظاهر جداً.

وأما ابن رشد فإنه حكاه عن (المنتخب) لابن لبابة أنه روي عن ابن القاسم عن مالك وصرح بأنه شاذ، وهو كذلك عند حذاق المالكية ومحققيهم، فإن ابن لبابة تكلم في (المنتخبة) وقيل (المنتخب) على مسائل (المدونة) فوقع له اختيارات خارجة عن المذهب كما قاله القاضي عياض وإن كان كتابه مستجاداً كما قاله ابن حزم، لكن اختياراته لا تلحق بالمذهب، والمحفوظ عن ابن القاسم في هذه المسألة اشتراط الطهارة خلاف ما نقله ابن لبابة، بل صرَّح عامة المالكية باشتراط الطهارة لمسح الخفين، وعدم اشتراطها لمسح الجبيرة، لأن الخفَّين إنما يلبسهما مختاراً، وأما الجبائر فإنه مضطر إليها فاغتفر فيها شرط الطهارة للمشقَّة كما قاله ابن بزيزة وابن بشير وغيرهما، بل إن أصحاب مالك يصرحون باشتراط الطهارة المائية للمسح، ولو بالغسل، وأما التيمم فلا يبيح المسح كما صرح به ابن عرفة وغيره.

على أن هذا القول بتقدير صحَّته عن داود، لا دليل عليه ولا قائل به من السلف والفقهاء، فهو مسبوق بالإجماع على خلافه، وقد قال ابن تيمية: (الخلاف الحادث بعد إجماع السلف خطأ قطعاً) ولا سيما بعد انقراض عصر المجمعين، ولأنه مخالف للنصِّ فإن قوله: (دعهما فإني أدخلتهما وهما طاهرتان) ظاهر في أن المراد طهارة الحدث وعليه اتفق الشرَّاح، وحمله على الطهارة اللغوية غلط لا يساعد عليه الأصل، إذ الأصل عند تعارض الحقيقة اللغوية والشرعية تقديم الشرعية، لأن اللغوية داخلة فيها إذ لا يتصور اجتماع الطهارة من الحدث مع النجاسة، ضرورة أن كل متطهر من الحدث ليس بنجس، وليس كل من عليه نجاسة طاهراً من الحدث. 

ولهذا فإن حمله على الطهارة من النجاسة من تحصيل الحاصل، لأنه ما توضَّأ إلا وقدماه طاهرتان من النجاسة، فتعيَّن أن المراد طهارتـهما من الحدث لا من النجس، فإن المغيرة إنما أهوى لينزع خفيه عليه الصلاة والسلام من حيث توهم أنه يريد غسلهما في الوضوء ليستأنف المسح، فأعلمه عليه الصلاة والسلام أنه لبسهما على وضوء، فلا حاجة به لنزعهما بل يمسح عليهما، ولو كان المراد طهارة القدمين من النجس لما أهوى المغيرة لنزعهما أصلا لأنه لا يظن بمن هو دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يلبس الخف على نجاسة، فكيف بالجناب النبوي، ولهذا وقع في حديث المغيرة أنه قال له: (أتمسح على خفيك)؟ لأنه ظنَّ أنه يريد غسلهما، فسقط تأويل الطهارة بطهارة النجس.

وأيضا فقد أخرج البيهقي بسند جيد كما قال النووي في (شرح المهذب) ما يقضي ببطلان هذا التأويل، وهو حديث صفوان بن عسال قال: (كنتُ في الجيش الذي بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرنا أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طُهر، ثلاثًا) الحديث، وأخرج الحميدي نحوه عن المغيرة، وحديثا المغيرة وصفوان هما الأصل المحكم في باب المسح، وإليهما يرد المتشابه من أخبار المسح. 

وله شاهد من حديث أبي بكرة، وآخر من حديث علي عليه السلام، أخرجهما البيهقي مرفوعين، وأخرج عن ابن عمر قال: سألت عمر بن الخطاب أيتوضأ أحدنا ورجلاه في الخفين؟ قال: (نعم إذا أدخلهما وهما طاهرتان) وهذه نصوص ظاهرة في اشتراط طهر الحدث للمسح، لأن لفظ الطهر متعين فيه في هذا الموضع لا في النجاسة، وهو قاض بشذوذ ما رجَّحه تليمة وأنه يرجح جُزافا بلا أصل.

والقياس والنظر يقتضي بطلان ما رجَّحه تليمة من الشذوذ، لأنه إذا لبس الخفَّ مُحدثا لبسه مع قيام فرض الغسل بالرجل فأشبه ما لو لم يغسلهما حتى أحدث، ولا يقال النزع واللبس عبث، بل هو تحقيق لشرط الإباحة كما أن من ابتاع طعاما بالكيل ثم باعه فإنه يكيله ثانيا، قاله ابن تيمية في (شرح العمدة).

وأيضا فإن الحدث تعلّق بالرجل في حال ظهورها فصار فرضها الغسل، لأنه لا مشقَّة فيه حينئذ فلا يجوز أن ينوب عنه المسح؛ لأنه أخف منه، كمن نسي صلاة حضر فذكرها في السفر فقد استقرَّت في ذمته تامَّة فلا يجوز قصرها بخلاف ما إذا لبس طاهراً ثم أحدث فإنه تعلّق بـها على صفة يشق غسلها فكان الفرض فيها على أحد الأمرين إما الغسل أو المسح، قاله ابن تيمية أيضا.

خاتمة

وقد ذكر الأستاذ عصام تليمة في خاتمة بحثه أنه انتزع هذا من كتاب يعمل على وضعه في تقرير الأيسر في الفقه، وأنا أقرع سمعه بما وقع للإمام الحافظ الفقيه أبي بكر البيهقي فإنه انتهى إلى سمعه أنَّ الفقيه المجتهد أبا محمد الجويني والد إمام الحرمين، يصنف كتابا في الأحكام سمَّاه (المحيط) عزم فيه على عدم التقيد بمذهب، وأنه يقف على مورد الأحاديث لا يعدوها ويتجنب جانب العصبية للمذاهب. 

فوقع إلى الحافظ أبي بكر البيهقي منه ثلاثة أجزاء، فانتقد عليه أوهاما حديثيَّة وبيّن أن الآخذ بالحديث الواقف عنده هو الشافعي رضي الله تعالى عنه، وأن رغبته عن الأحاديث التي أوردها الشيخ أبو محمد إنما هي لعلل فيها يعرفها من يتقن صناعة المحدثين. 

فلمَّا وصلت الرسالة إلى الشيخ أبي محمد قال: (هذه بركة العلم)، ودعا للبيهقي وترك إتمام التصنيف، فرضي الله عنهما لم يكن قصدهما غير الحق والنصيحة للمسلمين.

هذا كلام العلامة ابن السبكي، وهكذا القول في علل مذاهب الأئمة وأصولها فإنـهم هم الآخذون بالتيسير المنضبط بالمنقول والمعقول على مقتضى صناعة النظر والأصول، وغيرهم يأخذ بالتيسير الأهوج المبني على غير أصول الشارع.

ولو كان عند الأستاذ تليمة ورع أو نُصح لله ورسوله وعامَّة المسلمين- ونرجو أن يكون كذلك- لكفَّ وأمسك عن هذا التأليف. أما يكفينا "فقه السنة " حتى يقال: فقه الأيسر، وغداً يخرج متمجهد آخر يدَّعي وضع فقه المباحات، أما يكفينا الاجتهاد الانتقائي حتى يطلع علينا تليمة بالاجتهاد التَّلفيقي غير المنضبط ، وهنا يتعطَّل الفقه والنظر، ويصير كل عامِّي مجتهداً بمقتضى صنيع تليمة، وبمثل هذا العبث خرج علينا شحرور ونظراؤه من العوام يتمجهدون جزافا بلا أصل ولا عقل ولا نقل، ولله تعالى الأمر.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.

تنظر الحلقة الثالثة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين