الرد على تليمة في المسح على الجوارب الرقيقة دون طهارة وتحديد مدة (3/4) 

فصل

في الكلام على المقام الثاني في جواز المسح بلا وقت

وهو أن تليمة أطلق جواز المسح بلا وقت في الحضر، وتعلَّق بحديث ظنِّي عارض به المشهور الذي استقرَّ عليه عمل المسلمين في كافة الأعصار والأمصار، والآفة عند الرجل أنه لا يبحث على وفق الأصول منضبطا بالتيسير وإنما يبحث عمَّا يظن أنه الأيسر وإن عارض الأصول والمعقول، فيصح لنا أن نقول: ليس عند تليمة حرام ولا مكروه في مسألة تنازع فيها العلماء في تحريم أو كراهة أو إباحة، لأن مقتضى تصور تليمة عن الأيسر أنَّ الراجح دائما هو القول بالإباحة لأنه الأيسر بيقين، وبـهذا المنطق المعكوس يتعطل البحث ويبطل النظر، ويصحُّ لكل أحد أن يجتهد، وليس عليه إلا أن يرجِّح الإباحة والجواز حيث وجدا لأنه الأيسر.!

وقد ذكَّرني بمناقشة حضرتـها بالقاهرة عن التيسير في الفقه، فاعترض الدكتور المناقش الباحثَ بأنه لم يجد له في بحثه مسألة رجَّح فيها الكراهة أو المنع؟ فأجاب الباحث بأن التيسير يقتضي ترجيح الجواز! فرد الدكتور بقوله: وما فائدة البحث عندئذ؟ (نعزل ونقعد في بيوتنا أحسن).!

والواقع أن الأستاذ تليمة ومن ينحو نحو التمجهد الانتقائي أو إن شئت قلت: التلفيقي، لا شغل لهم بالدلائل والأصول والقواعد، وإنما همَّتهم أن يجد الواحد منهم قائلا اختار ما يميل هو إلى اختياره وإن كان قوله ومذهبه خطأ أو مخالفا للأصول والمعقول، فلهذا يقع لهم التناقض وتتضارب أصولهم، فتارة يرجح بقول الصحابي، وتارة يعطل الترجيح به، وتارة يحتج بالإجماع، وتارة يطرحه ويصرخ بقول الإمام أحمد: (من ادَّعى الإجماع فهو كاذب).!

وتجدهم يردُّون حديثا صحيحا بدعوى أن صاحبي الصحيح لم يخرجاه كما صنع تليمة في أحاديث النَّهي عن تعطر المرأة، ثم يحتج هنا بحديث انفرد به ابن ماجه عن صاحبي الصحيح والسنن! أعني خبر ترك التوقيت في المسح إن سلَّمنا له صحة الدلالة، وهذا لأن الأصل عندهم اعتقاد المسألة ثم البحث عن دليل لها، وهو خلاف الأصل (استدل ثم اعتقد).

وشيء آخر وهو اعتمادهم على القيل لا على الدليل، فهمَّتُه البحث عن قول وإن شذّ بقطع النظر عن دليله، والأصل عند العلماء على خلاف ذلك وهو أن أقوال العلماء يستدل لها ولا يستدل بـها، ولهذا يتناقضون في هذا الموضع بإنكارهم على أتباع المذاهب، وأتباع المذاهب خير منهم لأنـهم انضبطوا بأصول المذهب، وهؤلاء لا أصول لهم ولا ضوابط.

ووجه خطأ تليمة في توقيت المسح أنه اختار قول مالك في عدم التوقيت واحتجَّ له بدليل خارج عن قول مالك، فوقع له التلفيق القبيح، ولهذا لا يصح له التعلق بمذهب مالك لأن أصحابه صرحوا بأن أحاديث التوقيت لم تصح عنده، ويلزمه العمل بمذهب مالك في منع المسح في الحضر، وهو لا يقوله وإن لم يلتزمه كان تلفيقا قبيحا.

ومن العجب أن تليمة تعلَّق بخبر آحاد مظنون في ترك التوقيت في المسح وعارض به الأحاديث الثابتة المتواترة القطعيَّة في التوقيت، فإن أحاديث التوقيت متواترة كما صرح به الحافظ أبو جعفر الطحاوي ولهذا أدخلها العلامة محمد بن جعفر الكتاني في المتواتر من كتابه (نظم المتناثر).

وأعجب منه أن تليمة صدَّر بحثه بالاعتماد على مطلق الآثار في المسح على الجوربين، وزعم أنه لا مقيّد لها، وترك هنا الأحاديث الصريحة بتقييد مطلق أحاديث المسح في التوقيت، وهذا يدلك على تخبطه في البحث، وأن عمدته القول لا النقل، فعلى تسليم صحَّة أحاديث ترك التوقيت فغايتها أنـها مطلقة فيتعيَّن تقييدها بأخبار التوقيت، فكيف وهي أصح وأقوى دلالة وثبوتا.؟

أما ثبوتا فظاهر لا يحتاج إلى بحث ويكفي تواترها، وأما دلالة فحديث عقبة الذي تعلق به تليمة في ترك التوقيت فلا يسلَّم لأن النزاع في ترك التوقيت مطلقا، وحديث عقبة إنما هو في تركه في السفر، ومن هنا صح لأصحاب مالك أن يحتجوا به لأن مذهبهم لا مسح في الحضر، وأما تليمة فتخبَّط واحتجَّ بحديث خاصّ في ترك التوقيت في المسح في السفر على تركه في المسح في الحضر والسفر.

ولهذا كان من مذهب أبي العباس بن تيمية التوقيت في المسح في الحضر والسفر، وترك التوقيت في السفر للحاجة لا مطلقا، قال رحمه الله: (لما ذهبت على البريد وجدَّ بنا السير، وقد انقضت مدة المسح فلم يمكن النزع والوضوء إلا بانقطاع عن الرفقة أو حبسهم على وجه يتضررون بالوقوف، فغلب على ظني عدم التوقيت عند الحاجة كما قلنا في الجبيرة، ونزلت حديث عمر وقوله لعقبة بن عامر: أصبتَ السنة، على هذا توفيقاً بين الآثار، ثم رأيته مصرحاً به في مغازي ابن عائذ أنه كان قد ذهب على البريد كما ذهبت لما فتحت دمشق، ذهب بشيراً بالفتح من يوم الجمعة إلى يوم الجمعة، فقال له عمر: منذ كم لم تنزع خفيك؟ فقال: منذ يوم الجمعة، قال: أصبت، فحمدت الله على الموافقة). 

وقد حكى أبو بكر بن المنذر نحو قول شيخ الإسلام هذا في هذه المسألة عن الأوزاعي أنه سئل عن غازٍ صلَّى في خفَّيه أكثر من خمس عشرة صلاة لثلاث أيام ولياليهنّ لم ينزع خفيه؟ فقال: مضت صلاته لما جاء من القول في مثلهن.

وهذا القول يقتضيه أصل عموم المفهوم ويتوجه حديث عقبة عليها؛ لأن المفهوم لا يعم إذا كان المنطوق إثباتاً كلياً كما في حديث التوقيت؛ لأن نقيض الموجب الكلِّي سالب جزئي، فيقتضي سلب عموم مفهوم العدد في حديث التوقيت في بعض الأحوال دون بعض كما إذا احتاج إليه في سفر أو شقَّ عليه نزع الخفين لضرورة ونحوه.

وقال ابن تيمية موضع من (فتاويه): (أحاديث التوقيت فيها الأمر بالمسح يوماً وليلة، وثلاثة أيام ولياليهن، وليس فيها النهي عن الزيادة إلا بطريق المفهوم، والمفهوم لا عموم له، فإذا كان يخلع بعد الوقت عند إمكان ذلك عمل بـهذه الأحاديث).

وهذا الخبر عن عقبة حسن الإسناد، وهو من وقائع الأحوال فلا يعارض الأصل في التوقيت للمسافر، لأن وقائع الأحوال تعم بالنوع ولا تعم عموما شموليًّا، فيختص خبر عقبة بالحاجة في سفر القتال، أي يتقيد بقيدين هما: الحاجة والمشقة في نزع الخف، والثاني سفر الغزو والجهاد أو حال القتال.

فتكون الأخبار في المسح على ثلاثة أنواع: الأول: في الحضر يوم وليلة، والثاني: في السفر ثلاثة أيام ولياليهنّ، والثالث: في سفر البريد والغزو ونحوه مما يشقُّ معه نزع الخف والجورب، وفيه وجهان: أحدهما: يمسح أسبوعا على ظاهر خبر عقبة لما تقرر في الأصول أن قول الصحابي (من السنة) له حكم الرفع، والوجه الآخر: يمسح مطلقا وهو أصح لأن تقييده بأسبوع من التخصيص بموافق العام، ولا يخص به في أظهر الأقوال.

تنظر الحلقة الثانية هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين