الرد على تليمة في المسح على الجوارب الرقيقة دون طهارة وتحديد مدة (2/4) 

فصل في الكلام على المقام الأول

في إطلاقه المسح على كل جورب دون قيد أو ضابط

ومن تأمَّل كلام تليمة في مسألة المسح على الجوربين لم يجده اعتمد أصلا ولا ضابطا، بل ليس معه إلا انتقاء ظواهر الآثار الواردة في الباب مع غلطه في فهمها، وتخبَّط وتكلَّف في ادِّعاء مراعاة الواقع العصري.

والرجل لم يزد على أن ساق أقوال المانعين والمجوِّزين، ثم أطلق انتقاء قول من يقول بالجواز وتحكّم فيه بلا نقل ولا قياس، ولم ينصف في بحثه من يقول بالمنع مع أنـهم الجمهور وفيهم أئمة لا يندفع قولهم ونظرهم بمثل هذه المحاكاة الساذجة التي صوَّرها تليمة.! 

وليس من غرضنا البحث في هذا، وإنما القصد محاكمته في إطلاق جواز المسح بقوله: (والراجح جواز المسح على الجوربين مهما كان وصفهما ثخينين أو شفافين أو رقيقين، ترى منهما البشرة أم لا ترى، لأن النصوص وردت بمطلق المسح) هذا كلامه.

وتعلقه بالإطلاق ضعيف جداً لأنَّ مقيّدات المطلق لا تنحصر في النص، فإن النص المطلق قد يتقيَّد بالعقل والحال وغير ذلك، وقد علم من حال الجوارب في وقتهم أنـها كانت ثخينة من صوف أو وبر أو شعر، فالواجب تقييد الجورب بالثخانة لأنه المعهود وقت خطاب الشارع، وهذا أمر متقرِّر في دواوين الأصول لا يحتاج إلى بسط وتطويل. 

ولا يصح تعلقه بالآثار الواردة عن السلف في المسح على الجورب لأنـها مجملة لا تفيد إلا أصل جواز المسح على الجورب، فالواجب أن يُرجع في تفصيل هذا الإجمال وبيانه إلى واقع حالهم إن لم يرد عنهم ما يبيِّنه. 

ولهذا لا نعلم قائلا بظواهر هذه الآثار من الفقهاء إلا ابن حزم، وقوله محدَث مخالف لاتفاق الناس على قولين قبله، وقد تقرر في الأصول منع إحداث قول ثالث ينقض أصلا متفقا عليه بين القولين، وقد تأملنا قول ابن حزم فوجدناه يناقض الأصل الذي اتفق عليه من يقول بجواز المسح على الجوربين ومن يمنع منه، وهو الثخانة.

وابن حزم على أصله في إبطال تعليل الأحكام والتعلق بظواهر الآثار، وهو باطل لأن القول بأن من روي عنهم المسح على الجورب لا يشترطون ثخانته تحكُّم وتقوُّل عليهم، ضرورة أنه لم يرِدْ عنهم عدم اشتراط ذلك، ولم يرِدْ عنهم إلا إطلاق المسح، لا يقال: ولم يرِدْ عنهم اشتراط الثخانة أيضا، لأنا لا نسلمه من جهة حمل مجمل كلامهم على مفصَّله، ومن جهة النقل عنهم، والمفصل عنهم ينقسم إلى قسمين: 

أحدهما: حالهم وواقعهم الذي أبان عن صفة جواربـهم وأنـها لم تكن إلا مجلدة أو ثخينة لا تشف مثل الجراميق واللبود ونحوها، والثاني: عملهم، فإنه لم ينقل عنهم المسح على الجوارب الرقيقة الشفيفة بتقدير وجودها، بل الذي نقل عنهم خلافه، فهذا أنس وهو ممن صحَّ عنه المسح على الجوربين، ونقل عنه أنه أخذ دلالة المسح عليهما من طريق اللغة والقياس، قد صحَّ عنه أنه مسح على جوربين أسودين مرعَّزين، كما في المصنَّفَين والبيهقي.

أي: ذهب الشعر والوبر عنهما من كثرة اللبس حتى أصبحا رقيقين، ولهذا أنكر السلف عليه لأنَّ المسح على الجورب الرقيق خلاف المعهود عندهم فتوهموا أنه لا يجوز المسح عليهما لأجل عدم ثخانتهما إذ الأصل المتقرر عندهم عدم جواز المسح على الجورب الرقيق، فبيَّن لهم أنس أنـهما ثخينان كالخف، كما في رواية الأزرق بن قيس قال: رأيت أنس بن مالك أحدث، فغسل وجهه ويديه، ومسح على جوربين من صوف، فقلت: أتمسح عليهما؟ فقال: إنهما خفَّان، ولكن من صوف، صحَّحه العلامة شاكر.

وهذا من أنس رضي الله عنه تمسك بإلغاء الفارق وهو قياس صحيح، أو هو قياس اقتراني حملي عند أهل الميزان، احتجَّ به على من أنكر عليه ترك الأصل إذ الأصل عندهم منع المسح على ما ليس بثخين ولا يسخن القدم ولا يطلب به الدفء من البرد. 

ولهذا قال الحسن وابن المسيب وهما من أصحاب أنس: (يمسح على الجوربين إذا كانا صفيقين) كما رواه عبد الرزاق، وروى عن عقبة بن عمرو أنه مسح على جوربين من شعر، وعند ابن أبي شيبة عن أبي مسعود نحوه، وهذه علامة الثخانة، فإنَّ الشعر كالصوف ثخين لا يشف، فإن الغالب على نعال الشعر أن تكون مجلَّدة لم ينزع عن شعرها جلدُه. 

فعند ابن أبي شيبة عن عبيد بن جريج قال: قلت لابن عمر: رأيتك تلبس هذه النعال السِّبْتِيَّة قال: (إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسها ويتوضأ فيها) قلنا لأبي بكر: ما السِّبْتِيَّة؟ قال: (نعال ليس فيها شعر من جلود البقر) قلنا: لعل ذلك من قِدمها يذهب شعرها قال: (لا، إلا أنـها تدبغ كذلك بلا شعر كهيئة الرِّكاء) وما نزع عنه جلده منها بقي ثخينًا كما هو معلوم.

وأيضًا فمن تأمل في كثير من الآثار عنهم في هذا المعنى وجد أن أكثر من مسح على جوربيه إنما مسح عليهما مع النَّعلين، ولم يمسح على الجوربين بمجردهما، وقد بوَّب عبد الرزاق بما ينبه على هذا، فمن الخطأ الاستدلال به في الاقتصار على المسح على الجورب. 

ولهذا قال الحافظ أبو بكر البيهقي في (السنن الكبير): وكان الأستاذ أبو الوليد رحمه الله تعالى (هو الفقيه حسان بن محمد النيسابوري شارح الرسالة للشافعي) يؤِّول حديث المسح على الجوربين والنَّعلين على أنه مسح على جوربين مُنعّلين لا أنه جورب على الانفراد ونعل على الانفراد، أخبرنا بذلك عنه أبو عبد الله الحافظ (هو الحاكم) وقد وجدت لأنس بن مالك أثراً يدل على ذلك. 

ثم ساق بإسناده من طريق عاصم الأحول، عن راشد بن نجيح قال: (رأيتُ أنس بن مالك دخل الخلاء وعليه جوربان أسفلهما جلود وأعلاهما خَزٌّ فمسح عليهما).

وهذا لا يسلم للأستاذ الكبير أبي الوليد النيسابوري لأنه يخالف ما تقدَّم عن أنس من استنباطه المسح على جورب الصوف والشعر من دلالة القياس واللغة، ولو كانا مجلَّدين لم يحتج إلى ذلك ولا أنكر عليه الناس فاحتاج إلى بيان وجه استنباطه لهم، وإنما اضطر إلى القياس لأنه لم يصح في المسح على الجورب حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وما روي عن المغيرة فيه فهو خطأ كما قاله الحفاظ سفيان الثوري وأحمد وابن المديني وغيرهم، وأنكره ابن مهدي وغيره، وأعلُّوه بتفرد هزيل بن شرحبيل به بلفظ (الجوربين) وعامة أهل الأمصار يروونه بلفظ (الخفين) حتى قال الإمام مسلم: (لا نترك ظاهر القرآن بمثل هزيل).!

والمقصود أن المسح على الجوارب الرقيقة التي يقال لها في عصرنا (اللحمية) لا يشهد له نقل ولا أصل، لأنه غير معقول المعنى أصلا؛ إذ العلة من تسويغ المسح على الجورب قياسا على الخف، ما يجمعهما من الاستدفاء بـهما كما عند أحمد وأبي داود عَنْ ثوبان قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريَّة فأصابـهم البرد، فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم شكوا إليه ما أصابـهم من البرد فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين). 

إن قيل: إن التساخين كل ما يسخن به القدم على عمومه، وإلا فقد قيل إنه معرّب عن (تشكن) وهو الخف بالفارسية، والمقصود أن هذه الجوارب الرقيقة لا يحصل بـها تسخين القدم، بل لا تلبس في الشتاء أصلا، ولا يستطاع المشي بمجردها كالخفين، وهاتان هما علتا المسح على الخف، فإلحاقها بالأصل قياس فاسد جداً لعدم تحقُّق مناطه.

ومن غرائب أوهام تليمة أنه ظنَّ أن نفس التيسير علَّة لجواز المسح على الجوربين والقياس على الخفَّين فتراه يعلّق الحكم به، وهذا خطأ ظاهر فإن التيسير حكمة المسح لا علَّته، وإنما يصار إلى تعليق الحكم بحكمته حيث خفيت العلَّة كما تقرر في الأصول، فقياسه منكسر بعدم تحقق العلة في الفرع، وعدم إفضائها إلى الحكم، وبالفارق. 

وأيضا فحاصل قياسه أن يقول: المسح على الجورب مسح فيجوز كالخف، فنقلبه بقولنا: مسح فلا يجوز على الرقيق كالخف المتخرق أكثره، ثم هو يقيس على رخصة وفيه نزاع على أقوال ثالثها القياس بشرط فهم العلة، وهذه الجوارب غير معقولة المعنى في المسح فلا هي مما يقي من برد أو حر ولا مما يحمي القدم من كسر أو مرض كالجبائر، ولا مما يستطاع المشي بـها فالمسح عليها لا وجه له. 

ولا يسوغ قياسه على الجورب الثخين والخف لعدم معقوليته ومنع وجود المعنى في الفرع فلا يتعدى حكم الأصل إليه، فاعجب من قياس ينتقض من كل وجوهه، وهذا يذكرنا بقول الإمام الأعظم رحمه الله: (البول في المسجد أحسن من بعض قياسهم).!

ومن عجائب أوهام تليمة: اعتراضه على شرط منع وصول الماء للقدم للمسح على الجورب بأنه ما من جورب إلا ويتسرَّب منه الماء مهما كان ثخينًا، وهذا اعتراض لا موقع له لأن الواقع يدفعه وهو ضرب من المكابرة، لا يُسمع في الجدل والمناظرة، لأنه مخالف لأصول الشارع باغتفار يسير البلل كاغتفار يسير النجاسة فما ذكره فرق منكسر لا يضر. 

ولهذا ناقض تليمة نفسه في هذا الاعتراض فعاد وقرَّر في جواب من يقول: إن العلة في المسح هي البرد، فأجاب هو بأن (الجوارب درجة دفئها لم تعد كما كانت من قبل تعتمد على المادة المكون منها الجورب، وهو ما اتجهت إليه الصناعات الحديثة الآن، فقد يكون الجورب شفافا لكنه يحتوي على مواد تشعر الجسد بالدفء وقد يكون ثخينا ويزيد من برودة الإنسان).!

فإذا كانت الجوارب كذلك اليوم فحاصل التقسيم الذي أبداه تليمة يفضي إلى أن ما يتسرَّب منه الماء لا يمسح عليه وإن كان ثخينا كالجورب الرقيق، وما لا يتسرَّب مُسح عليه وإن كان شفافا كالخف، فعاد تقسيمه حجة عليه، وهذه الجوارب التي وصفها لا وجود لها إلا في خياله، وبتقدير صنعها فعامة الناس وأغلبهم لا يلبسها بل لم يسمع بـها ولم يرها أصلا، والحكم لا يناط بالنادر القليل ولا يعلَّل به ولا يصح الاعتراض به على الغالب الكثير. 

وإذا كان كما يقول لزم بطلان قياسه بعدم انضباط علته، وأيضا فإذا لم تكن العلة هي البرد فما هي؟ وكيف ساغ لك القياس من غير استخراج علَّة الأصل، بل كيف ساغ لك التعلق بالآثار وهي صريحة في أن السلف إنما مسحوا على الجورب قياسا على الخف بعلة الدفء من البرد أو تمكُّن المشي فيهما فأشبها الخف؟ ولعمري إنَّ من يخرج منه هذا الهذيان البارد حريٌّ بأن يُحلب بالساعد الأشد، ويُمنع من الفتيا بأغلال القد.!

وهنا نكتة في اشتراط الجمهور تتابع المشي في الخفّ يهجم من لا يدري النظر على إنكاره عليهم جزافا كالأستاذ تليمة، وهو أن العلة عندهم في استباحة المسح إما البرد، وهي تقتضي اشتراط الثخانة في الجوربين، أو العلة المشي في الخفين وهي تقتضي اشتراط تتابع المشي في الجوربين كالخفين، وهذا مقتضى القياس والنظر، ومن أنكره لا يدري ما يقول.

ومن هنا لم يجوز مالك وأصحابه في المشهور عندهم المسح لمن لبس الخف لأجل نفس المسح، وإنما يجوز عندهم المسح على الخف ونحوه إذا لبس لأجل الدفء أو المشي، حكاه الباجي في (المنتقى) فاعتماد تليمة على قول مالك في ترك التوقيت كما يأتي الكلام معه فيه، تلفيق قبيح.

فائدة: ومما يدلك على اشتراط ثخانة الجورب لاستباحة المسح، وأنه لا قائل بالمسح على الجوارب الرقيقة من السلف والأئمة، ما قاله الإمام الحافظ أبو الحسن بن القطان في كتابه الذي صنفه في الإجماع وهو أوعب ما صنف في هذا المعنى، قال رحمه الله: (وأجمع الجميع أن الجوربين إذا لم يكونا كثيفين لم يجز المسح عليهما).

وبه تعلم أن بحث تليمة هذا في المسح على الجوربين بحث إعلامي لا علمي، فإنه لا يرجع إلى نقل ولا أصل ولا قياس ولا نظر ولا أثر ولا تعليل ولا اعتبار ولا استقصاء، وليس معه إلا الشذوذ الذي توهمه تيسيراً، وهذا يقدر عليه كل أحد حتى خريج الفنون الجميلة فضلا عن خريج شريعة أزهري.!

يتبع 

الحلقة الأولى هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين