القُبَيسيَّات .. الجذور الفكريّة والمواقف السّلوكيّة (2)‏

 

المقال الثّاني: منهجيّةُ الاستقطاب والشّرائح المُستَهدفة

 

 تولدُ أيّةُ جماعةٍ وعينُها على الأتباع؛ فهم عنوان وجودها الحقيقيّ ومقياسُ تأثيرها ‏ومؤشّرُ إنجازِها.‏

والجماعات الإسلاميّة تتشابه في آليّات الاستقطاب؛ والقبيسيّات اللّواتي انتشرن ‏انتشارًا واسعًا يفرضن علينا سبر أغوار منهجهنّ المتّبع في الاستقطاب لتكتمل ‏الصورة.‏

إنَّ أيّة جماعة تطمحُ أن تكون رقمًا صعبًا، فلذا تحدّد نوعيّة الأتباع، وعينها على ‏جيوب أهل الخير فالمال هو روح المشاريع، ويكون همّها تأمين الحماية لوجودها ‏ومنتسبيها؛ فالحماية هي العمود الفقريّ الذي يتيح لأيّة جماعة الوقوف على ‏قدميها، والقبيسيّات لم يخرجن عن هذا الإطار العام.‏

• عليكم بالنّخبة المثقّفة

لا تخطئ عين النّاظر بأنَّ دعوة القبيسيّات قامت بالدّرجة الأولى على استقطاب ‏الفتيات الجامعيّات.‏

فقد ركّزت الدّعوة على استهداف الطّالبات والخرّيجات الجامعيّات، ممّا ساهم في ‏طبع الجماعة بطابع العلم والفكر والثّقافة، وجعلها في التّصوّر الذّهني جماعةً ‏نخبويّة، وقد أسهم ذلك في إعطاء موثوقيّة في المحيط الاجتماعي فكان عامل ‏جذب إضافيّ.‏

وهذا الاستهدافُ النوعيّ لشريحة الجامعيّات كانت له إيجابيّات كبيرة على سمعة ‏الجماعة ونظرة المجتمع لها؛ غير أنّه انطوى في الوقت ذاته على سلبيّات عدّة من ‏أخطرها بروز شعورٍ واسعٍ بالنّخبويّة والأفضليّة أدّى إلى استعلاء بنات الجماعة ‏على غيرهنّ من المتديّنات الأخريات من منتسبات الطّرق الصّوفيّة أو منتسبات ‏حلقات المشايخ الآخرين،كما أدّى إلى حدوث فجوة اجتماعيّة بين القبيسيّات ‏وشرائح المجتمع من غير المتعلّمات.‏

• هل اقتصرت دعوة القبيسيّات على الطّبقة الثّريّة وبنات المسؤولين؟!‏

يزدادُ الانطباع بأنَّ القبيسيّات اقتصرن في دعوتهنّ على الطّبقة الثّريّة، وهذا ‏الانطباع له ما يبرّره، لكن التّمحيص والتّدقيق يجعلنا نعاينُ بأنّ القبيسيّات ‏استهدفن الشّرائح الاجتماعيّة المختلفة من ثريّات وفقيرات، ومن بنات الرّيف ‏وبنات المدينة بدعوتهنّ، وإنَّ أكثر مرتادات الحلقات هنّ من بنات الطبقة ‏المتوسّطة ماديًّا.‏

 

ولكنّ كلّ هذا لا ينفي مطلقًا بأنَّ الطبقة الثريّة كانت في عين الاستهداف ‏القبيسيّ، وهذا هو حال عموم الجماعات التي تريد أن تستمرّ وتبقى فهي ‏تبحث عن تمويلها عند أهل المال والتّجارة.‏

‏ ‏وإنَّ أهمّ أسباب تشكّل الانطباع عن القبيسيّات بأنّهنّ دعوة خاصّة بالأثرياء ‏أمران:‏

‏ الأوّل: كون مؤسِّسة الجماعة والغالبيّة العظمى من آنسات الطّبقة الأولى هنّ من ‏الثّريّات.‏

 

فالآنسة منيرة قبيسي تقيم الآنَ في حي الرّوضة الدّمشقيّ، وهو حيّ معروف ‏بالثّراء الكبير لساكنيه.‏

ومن هؤلاء الآنسات الثّريّات من رموز الجماعة على سبيل المثال؛ الآنسة سميرة ‏الزّايد صاحبة مؤلّفات السّيرة النبويّة، والآنسة خيريّة جحا المعروفة باسم الآنسة ‏خير، والآنسة نُهَيدة طرقجي، والآنسة رفيدة كزبري، وكذلك كانت أشهر ‏آنسات القبيسيّات في السّعوديّة الآنسة رجاء قلاجو أم إبراهيم رحمها الله مشهورة ‏بثرائها.‏

الثّاني: استقطاب عدد كبيرٍ من زوجات الأثرياء وبناتهم، وكذلك بنات المسؤولين ‏ذوي المناصب في الدّولة؛ ومن هؤلاء بنات محمود الأبرش رئيس مجلس الشّعب ‏السّوري السّابق ليكنّ طالبات في الحلقات، ووجودهنّ كان سببًا في تحقيق دعم ‏مالي للجماعة واستجلاب هامشٍ من الأمان.‏

والحرص على كسب هذه الشّريحة انعكس سلوكًا غير متوازن عندَ عددٍ من ‏الآنسات من خلال التّمييز بين الطّالبات داخل الحلقة بناء على الوضع الماديّ ‏والحالة الاجتماعيّة ممّا تسبّب بحساسيّات كبيرة طفا العديدُ منها على السّطح.‏

• "الزّيجات" السّلاحُ العابرُ للجماعات

من أهمّ الوسائل التي استثمرتها القبيسيّات في نشر الدّعوة وحشد الأصوات ‏المنافحة عنها واستجلاب التّمويل والدّعم الماليّ هو الزّواج الذي كان يجمع بين ‏القبيسيّات سواء كنّ آنساتٍ أو طالبات مع كبار الدّعاة وقادة العمل الإسلاميّ ‏والأثرياء والتّجّار.‏

والقبيسيّات عمومًا من الشّخصيّات الجاذبة للزّواج عند الشريحة المتديّنة؛ فهنّ ‏يجمعن بين متانة الالتزام، وحسن السّمت الظّاهريّ في الحجاب والمانطو، والثّقافة ‏الجامعيّة.‏

فمن العلماء الكبار الذين تزوجوا منهنّ الدّكتور "محمّد سعيد رمضان البوطي" إذ ‏كانت زوجته الثّانية "أميرة العرجا" من القبيسيّات، وقد تعلّق بها تعلُّقًا شديدًا ‏ورثاها بمقال يفيض عذوبةً وألمًا عنونَه باسمها "أميرة" ونشره في كتابه " من الفكر ‏والقلب".‏

وكذلك المستشار الشّيخ "فيصل مولوي" أبرز قيادات الإخوان المسلمين في لبنان ‏ومن أبرز علماء العالم الإسلاميّ كانت زوجته من القبيسيّات السّحريّات.‏

ومن قادة العمل الإسلامي الكبار الذين تزوجوا من قبيسيّات القيادي المصري ‏الأستاذ "يوسف ندا" أحد أبرز رموز جماعة الإخوان المسلمين وزوجته من ‏الآنسات القبيسيّات الدّمشقيّات واسمها "آمال الشّيشكلي" وهي شقيقة الآنسة ‏‏"دلال الشّيشكلي" التي تعدّ أهمّ آنسات القبيسيّات وقد توفيت قبل الثّورة ‏السّوريّة بعمر أربعة وخمسين عامًا، ودلال وآمال هما ابنتا أخ أديب الشيشكلي ‏الرّئيس السّوري السّابق.‏

ومن كبار التّجّار والأثرياء الذين تزوجوا من آنسات الطّبقة الأولى في القبيسيّات ‏‏"هيثم السّيوفي" الذي تزوّج من الآنسة "نُهَيدة طرقجي"، وأمّا أختها "رصينَة ‏طرقجي" فهي زوجة الدّكتور "إبراهيم الهوّاري" الذي توفّي في "آخن" في ألمانيا ‏عام 2015م وهو من أبرز قيادات العمل الإسلامي المقرّبين جدًّا من الأستاذ ‏عصام العطّار.‏

هذه "الزّيجات" حقّقت عبورًا قويًّا للقبيسيّات إلى الفضاءات الإسلاميّة الأخرى، ‏كما أنّها تعلِّلُ أحد أسباب التّعامل الإيجابيّ من كثيرٍ من أبناء الجماعات ‏الإسلاميّة مع القبيسيّات.‏

ومما تجدرُ ملاحظته بأنَّ غالبيّة القبيسيّات المتزوّجات من علماء أو مفكّرين أو ‏قادة رأي وعمل إسلاميّ لم يتغيرن أو يتأثر انتماؤهنّ بالمحيط الأسريّ الجديد، بل ‏كنّ هنّ المؤثّرات تأثيرًا يصبّ في نهاية المطاف في خدمة الجماعة. ‏

• الهبات والهدايا

القبيسيّات لسنَ متفرّدات في انتهاج هذه الآليّة في الاستقطاب التي يستخدمها ‏الجميع مسلمين وغير مسلمين، ولكنّ الواقع الذي عاشته القبيسيّات في بيئة ‏خاضعةٍ للسّطوة الأمنيّة من جهة، وفي خضمّ انتشارٍ واسع للمدارس والتيّارات ‏والجماعات المشيخيّة جعلهنّ يفعّلن هذه الآليّة بطريقة كبيرة.‏

فكانت تُستخدمُ الهدايا حيث يمكن ردّ أي استهداف لهنّ من الجماعات ‏المشيخيّة أو الجهات الرّسميّة.‏

كما كانت تقدَّم للشخصيّات المؤثّرة لتكون داعمًا لهنّ، ومثال ذلك د. محمّد ‏سعيد رمضان البوطي الذي أهدته الآنسة منيرة قبيسي بيتًا في حي ركن الدّين ‏الدّمشقي رغم أنّه كان لا يقبل أيّة هدايا من المسؤولين الرّسميّين.‏

وممّا تميّزت به القبيسيّات تعميم ثقافة الإهداء داخل الجماعة؛ فكانت الهدايا ‏تقدَّم للطالبات على نطاق واسع وفي مختلف مناسباتهنّ الشّخصيّة والاجتماعيّة ‏مهما كانت هذه المناسبات بسيطة.‏

• الانخراط في الوظائف الحكوميّة

كانت من الوصايا التي تشدّد عليها الآنسة منيرة ومن حولها من الآنسات هي ‏الطلب من الخرّيجات الجامعيّات الانخراط في الوظائف الحكوميّة. لا سيما سلك ‏التّعليم الذي كان يحظى باهتمام غير مسبوق من الجماعة.‏

وعندما كانت تعبّر إحداهنّ عن رغبتها بالعمل الخاص أو في شركة غير حكوميّة ‏يشدّدن عليها بضرورة وأهميّة العمل في مؤسسات الدّولة.‏

وهكذا نرى بأنّ القبيسيّات انتهجن في الاستقطاب استهداف الشرائحَ النّوعيّة، ‏والشخصيّات المفصليّة، والأصوات المؤثّرة، من أجل تأمين أرضية تنطلق من ‏خلالها دعوتهنّ باتّجاه النساء في المجتمع وهي محاطة بالحماية ومرتكزة على الدعم ‏المالي والمعنوي.‏

وبعدَ هذا، هل القبيسيّات "تنظيم" أم مجرّد جماعة دعوية، وما قصّة ألوان ‏الحجاب وما دلالتها، وماذا عن مأسسة الدّعوة القبيسيّة؟!‏

 الجواب عن هذا في المقال القادم بإذن الله تعالى

الحلقة الأولى هـــنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين