القُبيسيَّات.. الجذور الفكريّة والمواقف السُّلوكيّة (1)‏

المقال الأوّل: التّأسيس والتّسميات

حارَ النّاسُ في "القبيسيّات"، توصيفًا وتقييمًا؛ فهل هنّ حركةٌ دينيّة نسويّة، أم جماعةٌ ‏دعويّة، أم تنظيمٌ سرّي، أم كيانٌ مغلق، أم ولادةٌ طبيعيّةٌ لطبقة اجتماعيّة جديدةٍ ‏تفرضها حركة تدافعُ المجتمعات؟!‏

وكأيّ ناشئٍ في الظلّ متواريًا عن الأنظار؛ ينسجُ النّاسُ حولَه الحكايات والأساطير، ‏ويستحضرونَ المؤامرةَ ومكر الأعداء؛ غدا النّاس في الحديث عن القبيسيّات يخلطون ‏القليل الواقعي بالكثيرِ المُتَخيَّل.‏

وهنا تغدو الحاجةُ مُلحّةً إلى دراسة شاملةٍ معمّقةٍ تنحاز للحقيقة بعيدًا عن الأحكام ‏المتعجّلة، غير خاضعةٍ لعينِ الرّضا الكليلة عن كلّ عيبٍ ولا لعين السُّخط التي لا ‏تبدي إلّا المَساويا.‏

• الآنسة منيرة .. البدايةُ من هنا.‏

منيرة قبيسي؛ الفلسطينيّةُ الدّمشقيّة، كان والدُها يتنقّلُ بين فلسطين وحوران تاجرًا؛ ‏غير أنّ استقرارَه وبعض إخوانه كان في دمشق مع بدايات القرن الماضي.‏

وفي دمشق رزق عشرة من الأبناء؛ ستّة ذكورِ وأربع بنات منهنّ منيرة التي ولدت عام ‏‏1933م

نشأ الأبناء في بيئة علم وتجارة، فكانوا كفاءاتٍ علميّةً وتجّارًا على نهج والدهم، فمنهم ‏على سبيل المثال د. محمّد بهجت قبيسي المولود عام 1940م ويشغل موقع نائب ‏رئيس اتّحاد المؤرّخين العرب وله عشرات المؤلّفات في التّاريخ والآثار.‏

اللّافتُ في الأمر كان إرسال الأب ابنته منيرة إلى مدرسة حكوميّة في الوقت الذي كان ‏فيه أبناء الطبقة المتديّنة يرفضون إرسال أبنائهم ذكورًا وإناثًا إليها ويرسلونهم إلى المدارس ‏الشّرعيّة في زمنٍ كان صراع الهويّات في المجتمع السّوريّ صريحًا وواضحًا.‏

دخلت منيرة بعد ذلك كليّة العلوم في جامعة دمشق في بيئةٍ كان التّعليم الجامعيّ عزيزًا ‏مضنونًا به على الذّكور فكيف على الإناث؟! لتبدأ عقب تخرّجها التّدريس في حيّ ‏المهاجرين ممّا ساهم في وصولها إلى شرائح مجتمعيّة عريضة.‏

• في رحاب "كفتارو"‏

كان جامع أبي النّور المعقل الرّئيس للطّريقة النقشبنديّة حيث يمارس الشّيخ أحمد ‏كفتارو نشاطه قريبًا من محلّ سكنى وتدريس الشّابّة منيرة، وكان أحد أعمامها قريبًا من ‏الشّيخ كفتارو ففتح لها الطّريق لالتزام دروسه وتلقّي التربيّة على يديه.‏

أعجبت منيرة بالشّيخ أحمد وهو بدوره أولاها عنايةً خاصّة فكان من الطّبيعيّ أن تثور ‏نوازع الحسد عند قريناتِها لما يرين من تميّز لافت فيها.‏

غير أنّ لحظة المفاصلة بينها وبين جماعة كفتارو بدأت حين غدت تلميذتها التي ‏تصغرها بزمن غير يسير تزاحمها على الصّدارة، كانت هذه التّلميذة "وفاء" بنت الشّيخ ‏أحمد كفتارو، وكانَ هذا كافيًا لترى نفسها الأحقّ بصدارة عمل النّساء الدّعوي في ‏الجماعة ولو كان المنافسُ لها هو آنستها.‏

انسحبت الآنسة منيرة من جماعة كفتارو دون أن تدخل أيّة معركةٍ معهم، بل حرصت ‏على بقاء الصّلة الإيجابيّة بالشّيخ كفتارو وعموم الجماعة حتّى حين.‏

• مشاربُ جديدة

تحوّلت الآنسة منيرة لحضور مجالس الشّيخ عبد الكريم الرّفاعي الذي تُنسب له النّهضة ‏المسجديّة في دمشق في القرن الماضي، وتوطّدت علاقتها مع "جماعة زيد" التّابعة له.‏

وخلال هذه الفترة التحقت الآنسة منيرة بكليّة الشّريعة في جامعة دمشق، وهناك نهلت ‏العلم من العديد من العلماء الأكاديميين المنحدرين من مشارب فكريّة متعدّدة.‏

واحتكّت عن قرب بالإخوان المسلمين الذين كان علماؤهم في كليّة الشّريعة وأبرزهم د. ‏مصطفى السّباعي ود. محمّد المبارك، وكذلك الأستاذ عصام العطّار الذي كان ‏خطيب مسجد الجامعة المتربّع في حديقة كليّة الشّريعة.‏

• أثرُ تعدُّد المشارب

إنَّ تعدُّد المشارب الفكريّة وتنوّعها ساهم في تشكيل الآنسة منيرة فكريًّا وتربويًّا بطريقة ‏انعكست على منهجها في العمل الدّعوي.‏

فهي ذات مشربٍ "صوفيّ طُرُقيّ" بانتمائها المؤقّت لجماعة كفتارو

ومشرب "صوفيّ علميّ" بالتزامها مجالس الشّيخ عبد الكريم الرّفاعيّ

ومشرب "أكاديميّ حركيّ" بدراستها في كليّة الشّريعة.‏

وبناءً على ذلك يمكننا التّأكيد على أنَّ المقولة التي تردّدها غالبيّة الدّراسات والمقالات ‏بأنَّ "القبيسيّات" خرجن من رحم جماعة كفتارو؛ غير صحيح البتّة.‏

وكذلك فإنَّ القول بأنَّ القبيسيّات امتدادٌ لجماعة زيد أو انعكاسٌ لفكر جماعة الإخوان ‏المسلمين أيضًا قول غير صحيحٍ على الإطلاق.‏

• الظّروف المحيطة بالنَّشأة

مع انقلاب حزب البعث في ستينات القرن الماضي في سورية؛ بدأت تتبلور مدارس ‏العمل الدّعوي وتزيد من نشاطها على وقع استشعار تهديد وجوديّ إذ اقتنع العلماء ‏بأنّ حزب البعث يهدف إلى سلخ المجتمع عن هويّته وانتمائه الإسلاميّ.‏

كانت معاقل العمل الدّعوي والإسلاميّ الرّئيسة في دمشق هي جماعة زيد التّابعة ‏للشيخ عبد الكريم الرّفاعي، وجماعة الميدان التّابعة للشّيخ حسن حبنَّكة وجماعة الفتح ‏التّابعة للشّيخ صالح فرفور وجماعة الشّيخ أحمد كفتارو وجماعة الإخوان المسلمين.‏

حرصت الآنسة منيرة على الصّلة الجيّدة مع هذه المدارس وغيرها وعدم إحداث أيّ ‏صدام مع أيّة جماعة، وهذا يؤكّد امتلاكها مؤهّلات قياديّة جعلتها قادرة على إحداث ‏تأثيرٍ في المجتمع.‏

وهكذا بدأت الآنسة منيرة تنشط بشكلٍ فاعلٍ في فضاء المجتمع النسائيّ بحركة دائبةٍ ‏ساعدها في ذلك رفضها الزّواج وعدم إثقالها بأيّة ارتباطات معيقة.‏

‏ كما ساعدها بشكلٍ كبيرٍ وجود الفراغ الذي لم يملأه غيرها في الواقع النّسويّ ممّا ساهم ‏في الإقبال الكبير عليها كونها تتصدّى لمحاولات محو الهويّة في واقع المرأة المسلمة في ‏سورية.‏

وهكذا بدأت تتشكّل ملامح جماعةٍ جديدةٍ في دمشق متخصّصة بالدّعوة في الوسط ‏النّسائيّ وتلقى دعمًا من مختلف الجماعات الفاعلة، ولها منهجها الخاصّ وآليّات ‏عملها المختلفة.‏

• الانتشار والتّسميات

بدأت الدّعوة القبيسيّة تنتشر ببطء في بعض المحافظات السّوريّة وبقيت حلب عصيّةً ‏على الاختراق القبيسيّ بسبب سطوة الكيانات الصّوفيّة وإحكام قبضتها على المشهد.‏

و"القبيسيّات" هو الاسم الذي تعارف النّاس على إطلاقه عليهنّ وهو نسبة إلى الآنسة ‏المؤسِّسة منيرة قبيسي.‏

غير أنَّ عموم القبيسيّات يرفضن هذه التسمية، ويؤكّدن في كلّ محفل على تسمية ‏‏"الدّعوة" للدلالة عليهنّ فهنّ بنات "الدّعوة" وأخوات "الدّعوة".‏

وتنتشرُ القبيسيّات في عددٍ من الدّول بأسماء مختلفة وهذا لا يغيّر من حقيقة انتمائهنّ

ففي لبنان كان وصول القبيسيّات على يدي أميرة جبريل وهي فلسطينيّة تقيم في ‏دمشق وشقيقة أحمد جبريل قائد الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين "القيادة العامّة" الذي ‏يدين بالولاء المطلق للأسد الأب والابن.‏

غير أنّ أميرة جبريل انسحبت من المشهد وأخلَت السّاحة للدّاعية اللبنانيّة سحر حلبي ‏لتتصدّر المشهد القبيسي في لبنان، وأصبحت القبيسيّات في لبنان ينسبن لها ويطلق ‏عليهنّ "السّحريّات"‏

وإلى الأردن نقلت الدّاعية الدّمشقيّة "فادية الطّبّاع" الدّعوة القبيسيّة، فصار يطلق ‏عليهنّ في الأردن "الطّبّاعيّات"‏

أمّا الكويت فجاءتها أميرة جبريل عقب مغادرتها لبنان لتكون لها اليد الطّولى في نقل ‏نشاط القبيسيّات؛ حيثُ أسَّست "جمعيّة بيادر السّلام النّسائيّة" التي تعدّ المظلّة التي ‏تعمل القبيسيّات تحتها ويطلق عليهنّ في الكويت "بنات البيادر"‏

كما انتشر نشاط القبيسيّات فوصل فلسطين ومصر وكندا والولايات المتحدة وبريطانيا ‏وفرنسا، ومع موجات اللجوء الجديدة بدأ الانتشار في تركيا والدّول الاسكندنافيّة.‏

ورغم هذا الانتشار الواسع إلّا أنّ العمل القبيسيّ ما يزال ينتمي للمنهجيّة الدّعويّة ‏والتربويّة والسّلوكيّة التي أرست دعائمها الآنسة منيرة قبيسي.‏

ولكن ما هي منهجيّة التّأثير وآليّات الاستقطاب التي تتبعها القبيسيّات؟

الجواب عن هذا في المقال القادم بإذن الله تعالى.‏

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين