قراءة سورة الكهف يوم الجمعة أنموذج لفهم منهج العلماء

بسم الله والحمد لله وصلى الله على معلم الناس الخير سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته وبعد.

فقد كتب الدكتور محمد أكرم الندوي حفظه الله مقالا تناول فيه حكم قراءة سورة الكهف، وقد استهل مقاله بسؤال ورده بخصوص الأحاديث الواردة في فضائل السور فأجاب مشكورا:

"قلت: الصحيح منها قليل جدا، ومن أشهر الصحيح الثابت ما رواه الثقات في فضائل سور الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والإخلاص، والمعوذتين" ا ه.

وكلامه هذا حق لا ريب فيه عند أهل العلم والمعرفة بالحديث، ولولا أنه قال ومن أشهر وقيد كلامه بمن التبعيضية لقلت: كما قال الدكتور محمد أبو شهبة رحمه الله: " والسور التي صحت في فضائلها الأحاديث: الفاتحة، والزهراوان، والأنعام، والسبع الطوال مجملة، والكهف، ويس، والدخان، والملك، والزلزلة، والنصر، والكافرون، والإخلاص، والمعوذتان، وما عداها لم يصح فيها شيء، وأصح ما ورد في فضائل السور هو، ما ورد في سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد}. الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير (ص: 311).

ثم سئل عن الأحاديث الواردة في فضل سورة الكهف، فأجاب: " نعم، أخرج الشيخان البخاري ومسلم عن البراء رضي الله عنه قال: قرأ رجل سورة الكهف، وفي الدار دابة، فجعلت تنفر، فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته، فذكر ذلك للنبي ﷺ‬، قال: اقرأ فلان، فإنها السكينة تنزلت للقرآن".ا.ه.

وسئل بعدها: "قالوا: ما تقول فيما روي في غير الأصول الستة عن قيس بن عباد عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين؟ قلت: ضعيف، وقد اختلف – على ضعفه – في رفعه ووقفه، والراجح الوقف".

وإلى هذا الحد نوافق الدكتور محمد أكرم على كل ما قاله، ونشكره على نصحه وبيان، ولكن نلاحظ أن الدكتور سلك مسلكا خاطئا، عندما بنى على تلك المقدمات السابقة من تضعيف الأحاديث الواردة في فضل قراءة سورة الكهف يوم الجمعة نتيجةً غريبةً عن مسلك العلماء وهو أن قراءة سورة الكهف يوم الجمعة غير مسنون ولا مستحب.

وهذا مخالف لمنهج العلماء، ولست هنا أدافع عن استحباب قراءة سورة الكهف وأتكلم فيها بالذات، ولكن أود أخذها لبيان منهج أهل العلم في الأحكام والأصول، فأقول وبالله التوفيق:

إن أصول الشريعة كثيرة جدا وهي في مجملها راجعة إلى القرآن والسنة، وهي نوعان: منقول ومعقول، ومنها المتفق عليه ومنها المختلف فيه.

ومن المتفق عليه الحديث الصحيح، وأما الحديث الضعيف فهو من المختلف فيه، وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال بشروط معتبرة،

فهذا هو ابن النجار الفتوحي الحنبلي (972ه) يقول: " وَيُعْمَلُ بِـ" الْحَدِيثِ "الضَّعِيفِ فِي الْفَضَائِلِ" عِنْدَ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْمُوَفَّقِ وَالأَكْثَرِ.

قَالَ أَحْمَدُ: إذَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَلالِ وَالْحَرَامِ شَدَّدْنَا فِي الأَسَانِيدِ. وَإِذَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضَائِلِ الأَعْمَالِ، وَمَا لا يَضَعُ3 حُكْمًا وَلا يَرْفَعُهُ تَسَاهَلْنَا فِي الأَسَانِيد. وَاسْتَحَبَّ الإِمَامُ أَحْمَدُ الاجْتِمَاعَ لَيْلَةَ5 الْعِيدِ فِي رِوَايَةٍ. فَدَلَّ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ لَوْ كَانَ شِعَارًا.وَفِي "الْمُغْنِي (لابن قدامة)" فِي صَلاةِ التَّسْبِيحِ: "الْفَضَائِلُ لا يُشْتَرَطُ لَهَا صِحَّةُ الْخَبَرِ، وَاسْتَحَبَّهَا جَمَاعَةٌ لَيْلَةَ الْعِيدِ. فَدَلَّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الشِّعَارِ وَغَيْرِهِ. مختصر التحرير شرح الكوكب المنير (2/ 569).

فالعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال جائز عند أكثر العلماء، ومنه حديث قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، فإنه قد صح موقوفا على أبي الخدري رضي الله عنه، ومثله لا يقال بالرأي.

ولو أردنا أن نوافق الدكتور في مسلكه هذا لحذفنا عشرات بل مئات الأحكام التي استحبها الفقهاء في المذاهب الأربعة بناء على الحديث الضعيف، فليست قضيتنا هنا قضية سورة الكهف، بل قضية منهج نراه مخالفا لمنهج أكثر العلماء من الفقهاء والمحدثين والأصوليين.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عَنْ قَوْلِ أَحْمَدَ وَقَوْلِ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي فَضَائِلِ الأَعْمَالِ. قَالَ الْعَمَلُ بِهِ بِمَعْنَى أَنَّ النَّفْسَ تَرْجُو ذَلِكَ الثَّوَابَ، وَتَخَافُ ذَلِكَ الْعِقَابَ.

وَمِثَالُ ذَلِكَ: التَّرْغِيبُ وَالتَّرْهِيبُ بِالإِسْرَائِيلِيَّاتِ وَالْمَنَامَاتِ وَكَلِمَاتِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ وَوَقَائِعِ الْعَالِمِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لا يَجُوزُ بِمُجَرَّدِهِ إثْبَاتُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، لا اسْتِحْبَابٍ وَلا غَيْرِهِ. لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ فِيمَا عُلِمَ حُسْنُهُ أَوْ قُبْحُهُ بِأَدِلَّةِ الشَّرْعِ. فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُ وَلا يَضُرُّ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ4 فِي نَفْسِ الأَمْرِ حَقًّا أَوْ بَاطِلاً" مختصر التحرير شرح الكوكب المنير (2/ 571).

بل إن الإمام أحمد رضي الله عنه كان يقدم الحديث الضعيف على القياس، ويقول: " الحَدِيث الضَّعِيف أحب إِلَيّ من الرَّأْي".

والخطأ في مسلك الدكتور ربما كان سببه التأثر بنابتة ظهرت في هذا العصر، سوت بين الحديث الضعيف والموضوع، وهذه النابتة الغريبة عن أهل العلم، لا تعرف لأهل العلم قدرهم، ولا تسلك مسلكهم، وهي كثيرة الصخب واللجاج والصراخ والجدال في كل مسجد ومحفل، فكلما ذكر عندهم حكم شرعي، قالوا: أين الدليل من الكتاب والسنة على صحة ما تقول؟ وما علموا شيئا من الأدلة فلا هم عرفوا الأدلة ولا عرفوا طرق الاستدلال، فكيف يجاب هؤلاء؟!.

على العموم وباختصار، فإن مسلك أهل العلم العمل بالحديث الضعيف بشروط معتبرة: ولذلك ذهب الإمام النووي رحمه الله إلى أن الحديث الضعيف في فضائل الأعمال يعمل به بالإجماع. وشرح كلام ابن تيمية رحمه كما ":وذلك أن العمل إذا علم أنه مشروع بدليل شرعي، وروي في فضله حديث لا يعلم أنه كذب، جاز أن يكون الثواب حقاً، ولم يقل أحد من الأئمة: إنه يجوز أن يجعل الشيء واجباً أو مستحباً بحديث ضعيف، ومن قال هذا فقد خالف الإجماع. في مجموع الفتاوى "1/251 انتهى.

وقد لخص هذه المسألة الدكتور عبد الكريم النملة رحمه الله فقال: "

لقد اختلف العلماء في الاحتجاج بالحديث الضعيف.

والحق: أن الحديث الضعيف يحتج به في فضائل الأعمال

والترغيب والترهيب - ما لم يكن موضوعاً - ولا يحتج به إلا

بشروط هي كما يلي:

الشرط الأول: ألا يكون الضعف شديداً، فيخرج عن هذا: من انفرد من الكذابين، والمتهمين بالكذب، ومن فحش غلطه.

الشرط الثاني: أن يندرج تحت أصل معمول به.

الشرط الثالث: ألا يعتقد - عند العمل به - ثبوته؛ لئلا ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقله، بل يعتقد الاحتياط.

وأما الأحكام كالحلال، والحرام، والبيع، والنكاح، والطلاق،

ونحو ذلك، فلا يعمل فيها إلا بالحديث الصحيح، أو الحسن فقط" المهذب في علم أصول الفقه المقارن (2/ 839).

فنقول هل الأحاديث الواردة في قراءة سورة الكهف يوم الجمعة موضوعة ومكذوبة أم أن رواتها ربما أخطأوا؟ وهل عمل العلماء بهذا الأحاديث أم تركوها؟ الجواب: عملوا به، حتى أن الإمام الشافعي نص على استحباب قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، وهذا أمر يكاد يكون إجماعا بين الفقهاء، فهذا ابن القيم وهو من هو عند من يتشدق بالتمسك بمنهج السلف الصالح وأهل الحديث، يعد قراءة سورة الكهف من خواص يوم الجمعة كما جاء عنه في زاد المعاد فيقول رحمه الله تعالى: " الخاصة العاشرة: قراءة سورة الكهف في يومها، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء به يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين»

وذكره سعيد بن منصور من قول أبي سعيد الخدري وهو أشبه" زاد المعاد في هدي خير العباد (1/ 366).

وقبله شيخه ابن تيمية رحمه الله إذ سئل: (هل قراءة الكهف بعد عصر الجمعة جاء فيه حديث أم لا؟ فأجاب:

الحمد لله، قراءة سورة الكهف يوم الجمعة فيها آثار ذكرها أهل الحديث والفقه لكن هي مطلقة يوم الجمعة ما سمعت أنها مختصة بعد العصر والله أعلم) مجموع الفتاوى (24/ 215).

ونجد أن فقهاء المذاهب الأربعة أشاروا إلى استحباب قراءتها يوم الجمعة يقول شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله: " ويسن الإكثار من قراءتها فيهما نقله الأذرعي عن الشافعي والأصحاب قال وقراءتها نهارا آكد والحكمة في قراءتها يوم الجمعة أن الله تعالى ذكر فيها أهوال يوم القيامة والجمعة تشبهها لما فيها من اجتماع الخلق؛ ولأن القيامة تقوم يوم الجمعة كما ثبت في صحيح مسلم" أسنى المطالب في شرح روض الطالب (1/ 269).

فلماذا نخالف العلماء في مسالكهم وإلى أين سيوصلنا هذا المنهج الجديد؟ وهل هذا هو مسلك الصالح والخلف الصالح رضي الله عن الجميع، أليس هذا المنهج هو منهج مخالف لأكثر أهل العلم، وإن كان أحد من السلف قد قال بذلك، فعلام نترك الأكثر ونأتي إلى الشاذ النادر ونطرحه بين الناس؟ وما أجمل الكلمة التي قالها العالم الوزير ابن هبيرة الحنبلي رحمه الله إذ قال:" الفقيه المجتهد إذا أدى اجتهاده إلى خلاف فقيه يقدمه، ثم رأى أن في ذكر اجتهاده نوع فرقة أو إثارة شبهات؛ فإنه يمسك عن ذكر ما عنده، ويُجري الأمر على ما قد أفتى به غيره مع كونه يعتقد أن الصواب ضده!"الإفصاح 304/1.

وأحب أن أذكر ببعض الكتب تناولت هذه القضية المهمة ومنها: كتاب حكم العمل بالحديث الضعيف بين النظرية والتطبيق والدعوى للشيخ محمد عوامة عافاه الله وشفاه، وكتاب خطورة مساواة الحديث الضعيف بالموضوع للدكتور خليل بن إبراهيم ملا خاطر العزامي ومشروعية الانتفاع بالسنة الضعيفة في المجال التربوي للدكتور عدنان باحارث، وغيرها ولعل الدكتور وفقه الله يتكرم بالنظر فيها إن شاء الله. 

وختاما أشكر الله أن هيأ أمثال الدكتور محمد أكرم الندوي لتعليم الناس أمور دينهم والذب عن حياض الإسلام في بلاد الغرب والشرق، وأنا إذ أكتب هذا التعليق على مقال الدكتور فإني أشعر بصغري قدري أمامه، وقد ترددت كثيرا قبل كتابتي، وكاد يمنعني خجلي من الكتابة لولا تشجيع الشيخ المفضال مجد مكي وحرصي على النصيحة لدين الله تعالى لما كتبت، فأرجو من الدكتور أن يغفر لي ويسامحني إن بدا في التعليق شيء من الجفاء أو سوء الأدب مع جنابه الكريم. وأسأل الله لي وله التوفيق والسداد في القول والعمل إنه ولي ذلك والقادر عليه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين