القومية ودورها في تفكيك وَحدة الأمة الإسلامية (1)

مَرَّت أمة الإسلام عبر تاريخها بفترات عرفت فيها فتوحات أنقذت العالم من مشكلاته ونشرت العدل بين الناس، وبفترات أخرى واجهت فيها هذه الأمةَ خلافاتٌ داخلية أو حروب خارجية؛ فتقلصت مساحتها أو قلَّ نفوذها العالمي لكنها بقيت محافظة على مقدساتها وشعائرها، وكانت أَزَماتها تزيد وحدة المسلمين ولا تنقصها، واستمرت هذه الحالة من بداية تأسيس الميثاق الذي كتبه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبَنى من خلاله مفهوم الأمة المسلمة التي تضم كلَّ من آمن بالله سبحانه ورسالة نبيه صلى الله عليه وسلم بغض النضر عن جنسه وقومه، مرورًا بعهد الراشدين الكرام فالأمويين ثم العباسيين ومن تلاهم من الأيوبيين الذين فتحوا بيت المقدس وحرروه من الصليبيين، ثم المماليك الذين أوقفوا الغزو المغولي، وكذا من عاصرهم وخلفهم من العثمانيين الذين حملوا راية الدين الشريف ودافعوا عن الأمة المسلمة بمختلف أعراقها حتى عام 1923م.

لقد كان الحكام المسلمون ومواطنوهم شيئًا واحدًا لا يميز بينهم عرق أو لون أو انتماء إذ الرابط بينهم الإسلام، وليس هناك خلاف جوهري بينهم على من يتولى الحكم عربيًّا كان أم عثمانيًّا أم أندلسيًّا أم كرديًّا إذ كان الجامع بينهم هو الانتماء للإسلام لا العرق أو الإثنية، ثم جدَّت في المجتمع الإسلامي خلال الحرب العالمية الأولى دواهٍ تغيرت فيها حالة الأمة الإسلامية، فتحولت من الصدارة وقيادة العالم في طريق العلم والسلام وحماية الضعفاء وإرساء العدل إلى أمة مُستَذَلَّة ضعيفة مفككة، وكان أبرز ما أدى إلى تفككها وتشرذمها في هذا العصر الدعوة القومية، فكيف ظهرت هذه الدعوة وكيف ساهمت في تفكيك الأمة وتشرذمها؟ هذا ما جاء البحث لبيانه، ويكمن جوهر البحث وأهميته بتحديد ما يأتي:

- الظروف الموضوعية التي لعبت دورها في إثارة مشاعر القوميات المتنوعة المختلفة في جسد الأمة، وتوظيفها توظيفًا سياسيًّا لغايات مدروسة في فكر من دعموا نشوء هذه القوميات أو أثاروا تلك النعرات.

- كيف أدت هذه المشاعر المتعصبة لجنس دون آخر إلى صدع بنيان الأمة الواحدة ثم تشكيل كيانات مستقلة متناحرة.

- وكيف أثرت هذه الدعوات على حضارة المسلمين التي كانت تقود العالم عبر نشر المبادئ الأخلاقية الفاضلة وتطبيقها في العالم حتى أصابتها بالتراجع، فغدت تُصَنَّف ضمن دول العالم الثالث الضعيف المتناحر.

- أصل نشأة القوميات في الغرب، لبيان أن ما يناسب شعبًا من الشعوب ليس بالضرورة أن يناسبنا، فنحن -المسلمين- لنا خصائصنا التي تختلف عن غيرنا.

مفاهيم البحث: القومية - وحدة الأمة الإسلامية

- تعريف القومية:

إن إيجاد مفهوم محدد للقومية صعب نسبيًّا؛ ذلك أن قومية كل مجتمع من المجتمعات قد عبرت عن نفسها بشكل يخالف الآخَر، لكن سنذكر بعض التعريفات السائدة التي توافق عليها أغلب المهتمين بهذا الشأن:

يعرف الإيطالي مانشيني Mancini القومية بأنها: مجتمع طبيعي من البشر، يرتبط بعضه ببعض بوحدة الأرض والأصل والعادات واللغة من جراء الاشتراك في الحياة وفي الشعور الاجتماعي(1). ويعد هذا التعريف من أهم تعريفات القومية وأشهر ها لأنه حدد السمات والعناصر الأساسية للقومية. وأما المفكرون العرب فقد حاول العديد منهم خصوصًا دعاة القومية العربية وضع مفهوم محدد للقومية يتناسب مع الحالة العربية ومعطياتها، ومن هذه التعريفات تعريف جورج حنا، فقد عرف القومية بأنها: عقد اجتماعي في شعب له لغة مشتركة وجغرافية مشتركة وتاريخ مشترك ومصير مشترك، ومصلحة اقتصادية مادية مشتركة وثقافة نفسية مشتركة، وهذا العقد يجب أن يكون فيه كل هذه المقومات مجتمعة(2).

وإذا ما تناولنا ما يسمى بالمفهومين الألماني والفرنسي في تعريف القومية نجد عدة فروقات، فالمفهوم الألماني يركز على اللغة وأهميتها في بناء القومية، بينما ترى القومية الفرنسية أن مشيئة العيش المشترك هي محور القومية ومعيارها، ويظهر من هذين المفهومين الهدف الذي يسعى إليه دعاة كل قومية من هاتين القوميتين، فالألمانية تسعى إلى ضم جميع المتكلمين باللغة الألمانية في أوروبا -ومنهم سكان "الإلزاس"- إلى الدولة الألمانية، بينما نرى أن القومية الفرنسية التي سبقت القومية الألمانية بقرن من الزمان قد أتمت وحدتها السياسية بالاستيلاء على بعض البلاد التي لا يتكلم أهلها الفرنسية، ومنها طبعا منطقة "الإلزاس"(3).

الأمة الإسلامية:

إن وحدة الأمة الإسلامية تعني اجتماع المنتسبين إلى الإسلام على أصول الدين وقواعده الكلية، وعملهم معًا لإعلاء كلمة الله ونشر دينه، وبذلك يحققون معنى الأمة كما قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران:110]، وقد وصف الله تعالى المسلمين في الآية الكريمة بأنهم خير أمة، وذكر موجبات تلك الخيرية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله تعالى، وأتى على جميعها بصيغة الجمع ليدل على وجوب اجتماعهم واتفاقهم(4).

المسلمون أمة واحدة لاتِّفاقهم على كليات العقيدة ودعائم الشريعة وإن اختلفوا في الفروع والجزئيات، فقد كوَّن الإسلام الأمة الواحدة من خلال جمعها على رابطة العقيدة، فقال سبحانه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء/92].

من خلال تتبعنا آيات القرآن الكريم نجد فرقًا في مفهوم الأمة وما يشبهه مثل "الشعب"، فالأمة مرتبطة بالإيمان وتطلق على جماعة ذات عقيدة دينية، أما الشعب فهو لفظ يجمع أفرادًا وجماعات يربط بينهم أي رابط لغوي أو جغرافي أو ثقافي، فنستطيع أن نقول: أمة المسلمين أو أمة النصارى وأمة اليهود، دليل ذلك قول الله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ، وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]. ولا نقول: أمة العرب أو أمة الترك وأمة الفرس، بل نقول: الشعب التركي والشعب العربي والشعب الفارسي، دليل ذلك أيضا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] فجعل لفظ الشعوب جمعًا ليدل على التنوع، وأفرَد لفظ الأمة ليدل على الوحدة.

يقول المناوي رحمه الله عن الأمة: هي (كلُّ جماعة يجمعها أمر إما دين أو زمن أو مكان واحد، سواء كان الأمر الجامع تسخيرًا أم اختيارًا)(5) فهو يميز بين أمتين: أمة تسخيرية وأمة اختيارية، مثال الأمة التسخيرية أمة الطير، قال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [سورة الأنعام: 38]، وكذلك أمة الكلاب، عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البهيم))(6) وأما الأمة الاختيارية فهي التي اجتمع أفرادها على دين أو مذهب كأمة اليهود وأمة النصارى وأمة الإسلام، قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدًا} [سورة النساء: 41]، وجاء في حديث الشفاعة قوله صلى الله عليه وسلم: ((فأرفع رأسي فأقول: يا رب أمتي أمتي))(7).

مجلة مقاربات، العدد السادس، المجلس الإسلامي السوري

(1) ساطع الحصر، ما هي القومية، بيروت، دار العلم للملايين 1963م، ص (40).

(2) جورج حنا، معنى القومية العربية، بيروت، دار الثقافة، ص (21).

(3) ساطع الحصري، آراء وأحاديث في القومية العربية، بيروت،1959م.

(4) موقع المسلم (وحدة الأمة الإسلامية فريضة وضرورة).

(5) عبد الرؤوف المناوي، التوقيف على مهمات التعاريف، تحقيق عبد الحميد صالح حمدان، عالم الكتب القاهرة، مصر 1900، ص (62).

(6) رواه أصحاب السنن الأربعة.

(7) رواه البخاري ومسلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين