الديمقراطية، المدنية..وتوظيف الدين

قرأت منشورا يتداوله بعض الأحباب في الترهيب من بعض القيم والأفكار، ويستند في ذلك لأصل شرعي لا يماري فيه مؤمن، وكانت الأفكار التي ينقضها هي: الديمقراطية والليبرالية والتنوير والعلمانية والدولة المدنية، وقدّم لذلك بقوله: (أجمع قوم لوط على ممارسة الشذوذ). ثم بدأ يفسّر منكر هؤلاء بتنزيله على فهمه من هذه القيم والمبادئ، فقال:

ديموقراطياً : 

يجب على نبي الله لوط عليه السلام أن يرضى بفعلتهم تلك ، لأنهم أغلبية ..!!

ليبرالياً : 

لا يحق له أن ينهاهم ، لأن الناس أحرار فيما يفعلون طالما لم يضروا الآخرين ..!!

علمانياً :

ما دخل الدين في ممارسات جنسية تتم برضا الطرفين ..؟!

تنويرياً :

هؤلاء مساكين معذورين وعندهم خلل جيني يبرر ما يفعلون ..!!

الدولة المدنية :

الشواذ فئة من الشعب يجب احترامها وإعطاؤها حقوقها وتمثيلها في البرلمان ..!!

انتهى المنشور، ولكن مسحة المنطقية في الطرح لم تخل من مغالطات فجّة أوقعته بهذه الأحكام التي تسوقه ومن يقنع بكلامه لمجازفات في ردّ هذه الأفكار لوهم مناقضتها للشريعة الإسلامية، وهو تصور يستقر في تفكير بعض المؤمنين فيتفرع عنه ردّهم لهذه الأفكار!

كما أنه في الجانب المقابل تصوّر بعض العلمانيين يجعلهم في موقف حرج مع الدين نفسه، فيتوهمون أنه يحارب هذه الفضائل والحقائق الواقعية، لذلك تجدهم يتحمسون لفكرة فصل الدين عن الحياة! وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.

والحقيقة أنه ساءني في الطرح ذلك التشويه المقزز للدولة المدنية والديمقراطية والليبرالية والتنوير، وساءني أكثر توظيف الدين بهذه الطريقة وهو سلوك أليم كثيرا ما يسلكه بعض المتحمسين في التعصّب لأفكارهم، في محاولة لحشر مخالفهم في دائرة التسليم المطلق لفهمهم بدعوى أنه الحقّ الذي أنزله ربهم، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون الظالمون الفاسقون!

كتبت تعليقا على المنشور ومغالطاته (المنطقية)، فقلت:

ديمقراطيا ثمة خلل في فهم الديمقراطية يوقع في هذا الإشكال وغيره، فهي ليست أن ترضى بما رضي به الآخرون، وليست ألا يكون لك رأي مخالف، ولا ألا تعترض على ما تراه مخالفا وتعارض، وكيف تسمى ديمقراطية دون أن يكون فيها أحزاب معارضة؟!

بل الديمقراطية أن تملك حق قول لا، وتعارض حيث بدا لك خلاف ما سُنّ من قوانين، فهي ليست ضد الاعتراض، ولا تقول للناس أن الخروج باللسان أنكر من الخروج بالسنان، ولا تدعو للسمع والطاعة وإن جلد ظهرك وأخذ مالك، وإنما أن تؤطّر طريقة اعتراضك من خلال آليات محددة وفق دستور وقانون يمثل القاسم المشترك الأدنى مما يمكن التراضي عليه ليكون أرضية قيم وأعراف وسياسات وقوانين يمكنك أن تغيرها سلبا أو إيجابا بذات الآلية.. فقبل عام ٢٠١٥ مثلا كانت المثلية الجنسية شذوذا مرفوضا في أمريكا، وبعده صارت حرية توجه جنسي يجرّم القانون من يعتدي عليها، والاعتداء غير الاعتراض.

ليبراليا لم يقيد لوط عليه السلام حرية قومه مع شذوذها، وإنما دعاهم بالحكمة: (هؤلاء بناتي هنّ أطهر لكم، فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي)، وجادلهم بالتي هي أحسن: (أتأتون الذكران من العالمين، وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم، بل أنتم قوم عادون).

فأصروا على منكرهم حدّ التهديد: (أولم ننهك عن العالمين؟!) فمن الذي اعتدى على حرية من؟ ومن الذي هدّد وتوعد؟

ثم إن لبّ الليبرالية تكريس حرية الفرد بأنواعها، بما فيه حق المعارضة والاعتراض أيضا ولو كان فرديا، ومن هنا اهتمت الليبرالية بحماية الأقليات، بخلاف الديمقراطية التي تعطي السلطة للشعب وبالتالي يمكن للحكومة أن تحد من حريات الفرد بحسب ظروف المجتمع.. وفكرة الدمج بين الديمقراطية والليبرالية لم تستقر في الممارسة كثيرا، ومن هنا تكررت مرارا صورا من الديمقراطيات اللاليبرالية، وهو مصطلح معروف.

تنويريا كانت دعوة لوط عليه السلام بالحكمة وجداله بالتي هي أحسن كما ذكرته أعلاه نماذج لبرهان العقل الذي أشهره لوط عليه السلام في وجه الفجرة من قومه، وكانت حجته دامغة حدّ أنهم لم يعارضوها بحجة بل بتهديد! وكان طغيان نزقهم وشهوتهم بلغ بهم مدى السكر وغياب العقل، حتى واسى الله نبيّه ﷺ: (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون).

أما موضوع الدولة المدنية فلا أدري ما محلّه؟ هل كان لوط عليه السلام ملكا حتى يطالب بإعطائهم حقوقهم وتمثيلها في البرلمان؟! وهل فيما سردناه من قصتهم ماينبي على أنه أقام حدود الشريعة وحده، وأوقع فيهم عقوبة سلطانية ما غير تغيير المنكر بلسانه بألطف العبارات، وبخطاب عقلاني رشيد، وغاية ما طولب به والمؤمنون معه مما هو تحت سلطانهم: (فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون)، وهو سلوك غير عدواني يتسق مع طلبهم السابق: (أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون)، فكان عذاب الله ربانيا، وما يقول قائل أن حكم الله وفصله بين عباده يوم الفصل سيكون ديمقراطيا ولا ليبراليا ولا تنويريا ولا مدنيا، سبحانه!

فسبحانك سبحانك.. نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين