رفع الاشتباه عن مشكل حديث أُمِرتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى..وبعد:

ينتحل المنطقُ الدقعشي مذهب الدعوة إلى التوحيد والمقاتلة عليه حتى الإقرار به أو القتل، لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) وقد سمعنا هذا غير مرة من قادتـهم وطالعناه على مواقعهم، وصرح به المتحدث باسمهم في لقائه مع الصحفي الألماني الذي أمّنوه فدخل الموصل.!

وهذا مذهب فاسد، لأن الحديث من المقلوب كقوله تعالى (فأصبحوا نادمين، فأخذهم العذاب) معناه فأصبحوا نادمين لـما أخذهم العذاب وعاينوه، لأن العذاب متقدم على الندم في الوجود، والندم أثر له. 

وعليه فإن معنى هذا الحديث: أمرت أن أدعوَ الناس للتوحيد والإسلام حتى يقرّوه فأكفّ عنهم، أو يقاتلوني عليه فأُقاتلَهم، وليس فيه أنه يقاتل من كفّ عنه ولم يقبل التوحيد ويقر به، بل هذا مسكوت عنه، فلزم أن يُطلب حكمه من خارج. 

ومن الناس من يقول إنه على بابه لكنه خاص بقريش ومن بالجزيرة من كفار العرب، لحديث (لا يبقى في جزيرة العرب دينان) فيكون لفظ (الناس) من العام الذي أريد به الخصوص. 

وقد دلت سيرته عليه الصلاة والسلام في الكفّ عن أصحاب الصوامع والرهبان ونحوهم ممن لم يقبل الدعوة ولم يقاتل أهلها، على أن الحكم فيهم هو الكف عن مقاتلتهم، فإن الأصل هو الدعوة، والمقاتلة إنـما تقع لـمن اعترض سبيلها ونازعها وقاتل الدعاة إليها.

وأيضاً فإن كان قوله (أقاتل الناس) من العام الذي يراد به الخصوص، وأن الناس في هذا الحديث هم خصوص قريش وكفار الجزيرة، لزم أن لا يقاتل من كفار العالم إلا من قاتل لاعتراض الدعوة، لأن قريشا وكفار الجزيرة إنما قاتلوه لاعترض دعوته بالسيف، فشمول الحديث لغيرهم من كفار العالم إنـما هو بالمطابقة لسببه، أعني أن يعامل عامة الناس في تنزيل مقتضى هذا الحديث عليهم كما يعامل خصوص من ورد فيهم وهم قريش، فلا يقاتل منهم إلا من قاتل لاعتراض الدعوة والاعتداء عليها. 

وعليه فالأصل أنـهم يُدعون إلى الشرائع دون قتال، فإن أقروا بـها وإلا قوتل من قاتل منهم لصد سبيل الدعوة والاعتداء عليها وإلا فلا، وأما الصنف الثالث وهم من كف عن قتال الدعوة ولم يقر بـها فإنه لم يكن أصلاً موجوداً في قريش، فمن الغلط والظلم إدخالهم في عموم الحديث.

بل الموجود فيهم قوم عاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يتعرضوا له ولأصحابه، ولا يظاهروا عليه أحداً من المشركين، ويكف عنهم مثل هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك المدلجي وقومه، فأمر الله بالكف عمن ارتد ولحق بـهم لئلا ينتقض العهد معهم إذا قتلهم المسلمون، كما قال تعالى (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاقٌ أو جاؤكم حصرت صدورهم أن يُقاتلوكم أو يُقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلَّطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يُقاتلوكم وأَلْقَوْا إليكم السَّلَمَ فما جعل الله لكم عليهم سبيلا).

وأمر بالكف عن قوم يُظهرون الـمودّة للمسلمين ليأمنوا غزوهم، ويُظهرون الودّ لقومهم من الكفار ليأمنوا غائلتهم، فيُظهرون الإيمان ثم يرجعون إلى قومهم فيرتدّون إلى الكفر، وهم غطفان وأسد وبنو عبد الدار، فأمر الله المؤمنين بتركهم إذا تركوا المؤمنين وسالموهم، وقتالهم إذا ناصبوهم العداء، فقال (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما رُدُّوا إلى الفتنة أُركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويُلقوا إليكم السَّلَم ويكفّوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطاناً مُبينا).

فإن قيل: يلزم من هذا أن يبطل فرض الجهاد، والنصوص قد دلت على مضيه حتى قيام الساعة.؟

قيل: هذا من الخطأ الناشئ عن تكلف معاني النصوص الشرعية دون مراعاة السنن الكونية التي هي من قدر الله وإرادته، فإن الله قضى في سابق علمه استمرار وبقاء النزاع والتدافع بين أوليائه وأعدائه، وعليه يبنى بقاء الجهاد واستمراره، فهو إذن من تحصيل الحاصل، فيبقى معنى الحديث وارداً في قتال من صد عن سبيل الله بالاعتداء والقتال.

ويلزم من المنطق الدقعشي امتناع وجود الذميين في دار الإسلام، وهم لا يقولونه وإلا كيف أمنوا الصحفيَّ الألماني، على أنه ليس من مقصود حزب الله اصطلام حزب الشيطان بإفنائهم، ألا ترى أنه أخبر ببقائهم حتى قيام الساعة كما في (الصحيح) أن الساعة تقوم والروم أكثر عدداً، وأخبر أن الساعة تقوم وليس في الأرض من يقول (الله الله) وأخبر أنـها تقوم على شرار الناس، فالسعي لإفناء الكفار واستئصالهم من العبث الذي يُقطع بعدم حصوله، والساعي لتحصيله كالـمُحْتَاضِ على عَرْضِ السرابِ.!

يؤكده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخلفاءه الراشدين لم يتهيأ لهم ذلك، فكيف يتهيأ لمن بعدهم وهم دونـهم في العلم والفضل والدين، فمن العبث إذن سعي المنطق الدقعشي إلى اصطلام حزب الشيطان والشارع يُخبر ببقائهم، فدل على أن مقصود الشارع من القتال إنـما هو دفع من يعترض سبيل الدعوة إلى التوحيد والشرائع والعدوان عليها، وبه يُعلم أن خلاف العصريين في جهاد الطلب صوري محض.

والنصوص التي فيها بقاء الجهاد إلى قيام الساعة تتنزل على هذا المعنى لا غير، كقوله (لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو) فإنه متضمن الإخبارَ عن بقاء الجهاد لبقاء العدو الصاد لسبيل الدعوة، وهو يقتضي بقاء الهجرة من أرض الكفار الحربيين إلى أرض الإسلام، فهو من مجاز المراتب، وهو معنى اقتران الدين بالسيف، فإن الأمر وسط بين تطرف المنطق الدقعشي الذي لا يرى ديناً إلا بالسيف، وتفريط المنطق السلمي الذي يدعو إليه مثل الحبيب الجفري ونظرائه الذين لا يرون سيفاً في الدين.

والأرض التي فيها إسلام وكفر ليست من النوعيين على مقتضى ما قرره أبو العباس بن تيمية في (الفتيا الماردينية) كما في بلاد داغستان ونظرائها كالبلاد الأوربية وغيرها، وسيقول لك هؤلاء إنك مرجئ، ويقول لك أولئك أنت أصولي، ولن يضروك حتى الأذى، ولله الأمر.

وأيضا فإن من سنن الله في خلقه (المدافعة) وليس التدافع مقتصراً على الأنواع، بل يشمل تدافع الأديان لبقاء النزاع الذي اقتضت حكمة الله بقاءه واستمراه حتى يكون الله تعالى هو الذي يحكم بين المختلفين ويفصل بين المتنازعين، كما قال (فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) وقال (واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) وقال (الملك يومئذ لله يحكم بينهم) وقال (الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون) وغير ذلك.

فقد أخبر بأنه الحاكم الفاصل بين المتنازعين، فيلزم من دعوى الدقعشيين في قصدهم اصطلام المخالفين للإسلام وإفناءهم، إبطالُ سنة المدافعة التي يلزم من إبطالها عدم فائدة الحكم بين المختلفين والفصل بينهم في الآخرة، واللازم باطل بالنص فالملزوم مثله.

ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يبقى في جزيرة العرب دينان، ولا يبقى بـها إلا الإسلام وأهله، ولو كان استئصال المخالفين للإسلام مقصوداً للشارع لم يخص جزيرة العرب بـهذا الحكم كما هو ظاهر.

والتدافع من سنن الله الكونية وحكمته بقاء النوع في الأنواع، وبقاء الحق وظهور دلائله في الأديان، فإن الحق قد تدرس دلائله لضعف أهله، فينتدب من أهل الباطل من يغره ضعفُ أهل الحق، ويندفع لتزيين الباطل وزخرفته بدلائل واهية تروج على العامة، كما قيل:

في زخرف القول تزيين لباطله ... والحق قد يعتريه سوء تعبيرِ

وقيل:

تقول هذا مُجاج النحل تمدحه .... وإن تشأْ قلتَ ذا قيءُ الزنابيرِ

مدحا وذما وما جاوزتَ وصفهما ... والحقُ قد يعتريه سوء تعبيرِ

وهذا يستنهض همم أهل الحق فيدفعهم للرد وإظهار الحق وتوضيح دلائله وقمع الباطل بدامغ البراهين، كما قيل:

وإذا أراد الله نشر فضيلة .... طويت أتاح لها لسان حسودِ

فيحصل التدافع الذي به ظهور الحق وقمع الباطل، يحققه قوله تعالى (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) وقال (أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا) ولا ريب أن قصد استئصال المخالفين للإسلام من إجبارهم وإكراههم على الخروج من أديانـهم والدخول في الإسلام، وهو باطل بالنص في هذه الآية وفي مثل قوله تعالى (لا إكراه في الدين) وقوله (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).

لأنه لا يخلو قصد اصطلامهم واستئصالهم الذي يتوهمه الدقعشيون دينا، من أحد ثلاثة أشياء: إما أن يظهروا الإسلام كراهية وهو فاسد جداً لأنا نقلناهم من الكفر إلى صنوه وهو النفاق، وهذا عبث يتنزه عنه الشارع، أو أنـهم يُسلمون خوفا فيكون إكراها وهو مصادم للنص والإجماع، أو أنـهم يُقتلون وقد مر إبطاله، فإن قتل كل مشرك يختص بمن هو في جزيرة العرب في العهد النبوي بعد نقض العهد مع كفار قريش كما في آية السيف.

ولهذا قال العلامة ابن عاشور رحمه الله في قوله تعالى (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم): (لَو) تقتضي انتفاء جوابـها لانتفاء شرطها، فالمعنى: لو شاء لآمنوا كلهم لكنه لم يشأ ذلك، فاقتضت حكمتُه أن خلق عقولَ الناس متأثرة ومنفعلة بمؤثرات التفاوت في إدراك الحقائق فلم يتواطؤا على الإيمان، وما كان لنفس أن تؤمن إلا إذا استكملت خِلقة عقلها ما يُهيّئها للنظر الصحيح وحُسن الوعي لدعوة الخير ومُغالبة الهدى في الاعتراف بالحق. 

قال: وجملة: (أفأنت تُكره الناس) مُفرّعة على التي قبلها، لأنه لما تقرر أن الله لم تتعلّق مشيئتُه باتفاق الناس على الإيمان بالله، تفرّع على ذلك إنكار ما هو كالمحاولة لتحصيل إيمانـهم جميعا، والاستفهام في (أفأنتَ تُكره الناس) إنكاريٌّ، فنُزّل النبيُّ صلى الله عليه وسلم لحرصه على إيمان أهل مكة وحثيث سعيه لذلك بكل وسيلة صالحة، منزلةَ من يحاول إكراههم على الإيمان، حتى ترتّب على ذلك التنزيل إنكاره عليه.

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نُـهي بمقتضى هذه الآية عن إكراه غير المسلمين على الدخول في الإسلام بالقتال أو غيره، مع حرصه على إسلامهم رجاء نفعهم ورحمتهم، فكيف بمن يكرههم عليه ويقصد إلى استئصالهم حتى لا يبقى منهم أحد، كما يعتقده الدقعشيون.!؟

وأما استدلالهم بنحو حديث (أنا الضحوك القتّال) فهذا لا أصل له في شيء من كتب السنة، وإنما ذكره بعض العلماء كالقرطبي وابن تيمية وابن كثير بلا إسناد، وقد أخرج ابن فارس اللغوي عن ابن عباس أنه قال: (اسم النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة الضحوك القتّال).

ومعناه ضحوك لأوليائه قتّال لأعدائه الذين يصدونه عن إبلاغ الدعوة، وليس معناه قتل من ليس بمسلم كما يتوهمه هؤلاء، فإنه خرج مخرج التهديد لئلا يستخف المشركون بالنبي وأتباعه من شدة رأفته ورحمته بـهم.

وهكذا حديث (جئتكم بالذبح) وقد صححه ابن حبان، وهو موافق لما في صحف حبقوق (أن محمداً ترتوي السهام بأمره) فليس هو على ظاهره فإنه معارض لقوله تعالى (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وإنما خرج منه على سبيل المقابلة بالمثل، فإنه مرَّ بالمشركين فسخروا منه ثلاث مرات كل ذلك والنبي صلى الله عليه وسلم يُعرض عنهم ويحتمل منهم الأذى، فلما كان في الرابعة قال لهم ذلك، فهو نظير حديث نبي الملحمة وحديث (بُعثت بالسيف) محمول على صيانة الدعوة وحمايتـها من عدوان من يقابلها بالاعتداء والصد بالقتال.

ولا بد لكل نبي أو ذي سلطان من قوة ردع تحمي دعوته وهيبة دولته وهو من سياسة الملك والناس، والأنبياء ساسة كما هم دعاة رحمة وحق بالنبوة والشرائع، وبدون الشوكة والردع لا ينتظم أمر الملك والحكم كما قال الشاعر:

منعتْ مهابتُكَ النفوسَ حديثَها ....... بالأمر تكرهُهُ وإن لم تعلمِ

ونـهجتَ في سُبل السياسة مسلكا...ففهمتَ مذهبها الذي لم يُفهَمِ

لا يُصلِح السلطانَ إلا شدةٌ ... تغشى البريءَ بفضل ذنب المجرمِ

وقد ذكر ابن تيمية في كتاب (الرد على بولص الأنطاكي) أن من معاني كونه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، أن الله قطع ببعثته العذاب عن المخالفين للأنبياء والرسل بالاستئصال والعذاب الذي يقطع دابرهم فلا يبقى لهم نسل كما كان في الأمم الماضية مع أنبيائهم، مثل الذي وقع لعاد وثمود وقوم لوط وغيرهم كما قال تعالى (وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا)

وأما قوله (ويقطع دابر الكافرين) فيختص بالمشركين في بدر كما حكاه ابن جرير وغيره وقاله أهل التفسير، ولهذا كانت تشريعا يؤذن بقتالهم، ومن الناس من قال إن معناه أن ذات الشوكة خير لكم من العير لأن ذلك أقطع لدابر الكفار، ويحتمل في معناه قطع أصل الكفر واستئصاله بالقضاء على الشرك في جزيرة العرب لأنه أصل الكفر لشدة عنادهم.

ولهذا أمر بقتل المعاندين من المعتدين الصادين عن سبيل الله دون غيرهم ممن لم يتعرض للإسلام وأهله بالأذى، كما أمر بقتل ابن خطل وإن تعلق بأستار الكعبة، وعفا عن غيرهم فأمر من ينادي بالأمن لمن دخل داره وأغلق بابه، فأطلقهم وخلى سبيلهم فصار يقال لهم الطلقاء، فأسلموا لما رأوا من رحمته وكرمه ومَنّه، فهو صلى الله عليه وآله وسلم الرحمة المهداة للعالمين بحق، والحمد لله رب العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين