كتاب المدلسين ومروياتهم في صحيح البخاري بين سوء الفهم وتصحيح الوهم (1-2)

(تصحيح البخاري): في هذا الكتاب الذي تتبع البخاري ورواياته يقسم المؤلف المدلسين في البخاري الى ثلاثة أقسام ويحصي عدد مجموع المدلسين عن شيوخهم في البخاري44 مدلساً. ويحصي مجموع رواياتهم في البخاري بعدد 4233 رواية...، فكيف يكون البخاري صحيحاً، ويجزمون أن الرسول قال وفعل كل ما موجود فيه وعدد الروايات الكاذبة والمدلسة فيه بلغ 4233 رواية مفبركة..؟ عن أي سنة يتحدث هؤلاء..؟

وكيف يصنف البخاري هؤلاء الرواة على أنهم عدول وثقة وهم مجموعة من المفبركين والمزورين والكذابين..؟

المنشور باللون الأحمر أعلاه، أرسله صاحبه مع غلاف الكتاب(1) الذي في العنوان، ويبدو أنه فرح ومسرور، ومتشفٍّ وناقم لوجدانه هذا العدد الكبير من الأحاديث التي رواها مدلسون، فلم يتريث ليسأل أهل العلم بالحديث عن المقصود بالتدليس، ولم يبحث في داخل الكتاب ليعلم الحقيقة، وطار بظنه الواهم، وفهمه الخاطئ، فأظهر جهله في فهم الموضوع من أساسه، ولم يعلم أن هذا الكتاب لا يحقق غرضه الذي يريده، ويجهد في سبيل إثبات أكبر من الأخطاء في صحيح البخاري، وبالتالي هدمه وإلغاؤه.

وهذا الشخص مَثَل فاقع للذين جعلوا همهم تخطئة البخاري ومسلم، وسائر أئمة الحديث، وينطبق عليهم المثل العربي: (أساء سمعاً.. فأساء جابة)(2)، فهؤلاء القوم ليسوا يسيئون سمعاً فقط، ولكنهم يسيئون فهماً أيضاً، ويسيئون قصداً أيضاً، ومن يتتبع منشوراتهم ير كيف يتجاوزون الأدلة التي لا توافق ما يريدون، ويقتصرون على ما يرون أنه يؤيد فهمهم، أو يجتزئون الأدلة، وليس هنا بسط ذلك.

• في الطريق إلى كتاب المدلسين ومروياتهم في صحيح البخاري:

جاءني هذا المنشور من أحد الأصدقاء ليلاً، فلما قرأت كلماته ضاق صدري، ووضعت في ذهني بعض الاحتمالات، ليس منها أن يكون في البخاري مثل هذا العدد من الأحاديث غير الصحيحة، ولكن لم أقل شيئاً، حتى أتبين كما أرشدتنا آية سورة الحجرات، وعزمت على البحث عن الكتاب، ومعرفة سيرة مؤلفه، وناشره.

وجاءني المنشور من شخص آخر قبل الاطلاع على الكتاب، وهو طالب علم، فأشعرني كلامه هاتفياً أن المسألة صحيحة، وأنه نصح كاتب المنشور نصائح عامة في أن أهل العلم الذين أصلوا هذه العلوم هم أدرى بالروايات والرواة، وأنه ليس بمقدور شخص اليوم أن يلغي ما أسسه السابقون من علم انقطع وسائل بحثه إلا من طريقهم. وهذا الكلام مع وجاهته عامة، لكنه لا يكفي في لجم هؤلاء الذين أصيبوا بما يشبه السعار في كسب هذا العار في صحائف أعمالهم.

في الصباح بحثت عن عنوان الكتاب، فظهرت لي روابط كثيرة، ولكني علمت أن الكتاب نشرته دار الكتب العلمية في بيروت، وصاحبه محمد علي بيضون، وهذه الدار معروفة، وهذا يعني أن المسألة جدٌّ، وأن الكتاب موجود في السوق منذ عام 1433هـ، الموافق 2012م. 

وهذا دعاني إلى البحث عن مؤلفه، فظهرت لي حياة حافلة بالعلم، ورجل له باع في هذا الطريق، وأن رسالته في الماجستير كانت عن صحيح الإمام مسلم وهو (فهمي أحمد عبد الرحمن القزاز) من العراق، وأنه قدم رسالته هذه إلى مجلس كلية العلوم الإسلامية في جامعة بغداد، ونالت درجة الامتياز العالي مع التوصية بالطبع في كلية الشريعة.

اطمأنت نفسي لما حصلت من معلومات أولية عن الكتاب، وأنه كتاب علمي، وليس كتاب هوى، فبحث عن نسخة من الكتاب للقراءة، فتوصلت إلى نسخة (بي دي إف) الجزء الأول، فقرأت مقدمته التي هي مفتاح الرسائل الجامعية، ثم بحثت عن الجزء الثاني، فقرأت خاتمته التي فيها نتاج البحث وتوصيات الباحث، فعلمت أني وقعت على كنز، وأن الباحث الدكتور فهمي القزاز قد قام بعمل عظيم، في بيان حقيقة ثقة المسلمين منذ عصر البخاري إلى اليوم في كتابه، وإثبات صحة صحيح البخاري بالدليل العملي التطبيقي، وليس بالعاطفة وحسن النية فحسب.

فاتصلت بزميلي طالب العلم، فطمأنته بحقيقة الكتاب، وكتبت رداً موجزاً يكفي لطمأنة من وصل إليهم هذا المنشور (السيئ)، وضمنته خلاصة البحث من خلال الجدول الذي وضعه المؤلف الباحث في النتائج (2/369).

ولكن الرد المختصر لم يكن كافياً في عرض الكتاب، والتعريف بهذا الجهد الكبير، لأني نشرته في الواتساب فقط نشراً محدوداً، فكتبت إلى اخي الشيخ مجد مكي إن كان قد نشر في موقع رابطة علماء سورية تعرف بالكتاب، واطلعته على الموجز الذي كتبته، فأفادني فائدتين: الأولى أنه لم ينشر تعريف بالكتاب، والأخرى أن مؤلف الكتاب صديقه، وهنا أعلمته أن الرقم المنشور (4233) في نتائج البحث غير متطابق في مجموعه العام مع الرقم المذكور في صفحة سابقة (4244)، فما هو الصواب؟ فأفادنا المؤلف حفظه الله د.فهمي القزاز بوقوع خطأ في الجدول المنشور في طبعة دار الكتب العلمية، وارسل الجدول الأساس من رسالة الدكتوراه قبل النشر، فاعتمدته هنا، وعزمت مستعيناً بالله، أن أكتب هذا العرض المفصل من خلال مقدمة الكتاب (الرسالة) ونتائجه وتوصياته.

• يقول الباحث د.فهمي القزاز في مقدمة كتابه (1/7-10) مقرراً مكانة علم الحديث في الدين:

"فإن علم الحديث من أشرف العلوم وأجلها، والاشتغال به لمن صلحت نيته من أفضل القربات وأحسن الطاعات، وكيف لا يكون كذلك وهو مشتمل على نقل أقوال النبي وأفعاله وتقريراته وصفاته الخَلْقية والخُلُقية. الذي أمرنا ربنا بطاعته واتباعه في محكم كتابه فقال: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولَ فَحُدُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا الله إنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَاب)".

• ويقول عن الأصلين الأساسين للدين:

"فأساس الدين: كتاب الله، وسنة نبيه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، والسنة منها ما هو صحيح وحسن وضعيف، والسبيل إلى معرفة ذلك النظرُ في الإسناد الذي خص المولى سبحانه وتعالى به هذه الأمة من دون سائر الأمم، لذا قال العلماء: (الإسناد من الدين)، وأهم ما يبحث عنه بعد ثقة الرواة اتصال السند".

• ويقول عن مسائل الاتصال في السند:

"ومن أهم مسائل اتصال السند مسألة: (الاحتجاج بعنعنة المدلس) أتعد متصلة أم

منقطعة؟ وهي مسألة اختلف فيها المحدثون قديماً وحديثاً، ومع اختلافهم هذا استثنوا

ما وقع من عنعنة المدلس في الصحيح، وقالوا: تحمل على السماع عموماً لأن صاحب الصحيح قد اطلع على طرق أخرى لهذا الإسناد مما يجعل هذه العنعنة متصلة، أو غير ذلك من الإجابات التي ذُكرت في كتبهم". 

• ويقول عن موقف العلماء من عنعنة الرواية في صحيح البخاري:

"وتناقل العلماء ذلك إلى يومنا هذا من غير أن يجرؤ أحد على اقتحام هذا الموضوع فيجري عملية استقرائية لهذا الخضم المبارك، فيقف على الحقيقة العلمية الناصعة المقترنة بالدليل العلمي الرصين، بل إن بعض العلماء عندما سئل عن هذا الموضوع يوصي الأمة أن تحسّن الظن بصاحب الصحيح قبل أن يبين لها بدراسة عملية أن صاحب الصحيح قد احتاط ولم يخرج هذه الرواية من هذه الطريق فقط، بل أخرجها من طرق أخرى زيادة على أنه قد صرّح بها في باقي الكتب، والتي لم ترد إلا من هذه الطريق المدلسة كانت في غير باب الاحتجاج كالمعلقات والشواهد والمتابعات، أو أنها جاءت في أبواب الرقائق أو فضائل الأعمال أو في باب المناقب، وغير ذلك من الأمور التي يُتساهل فيها."

• ويعطي الباحث د.فهمي القزاز مثالاً من موقف العلماء فيقول:

"ففي أسئلة الإمام تقي الدين السبكي للحافظ أبي الحجاج المزي قال: (وسألته

عما وقع في الصحيحين من حديث المدلس معنعناً هل نقول: إنهما اطلعا على

اتصالها..؟ فقال: كذا يقولون، وما فيه إلا تحسين الظن بهما، وإلا ففيه أحاديث من رواية المدلسين ما توجد من غير تلك الطرق التي في الصحيحين)". 

• ويعبر الباحث عن موقفه من جواب المزي للسبكي فيقول:

"فكنت أقول في نفسي: رحم الله الإمام المزِّي لو تفرغ لهذا الموضوع وهو عالم

الرجال، وفارس ميدانه لكفى الأمة هذا العناء، ولسد هذه الثغرة على الطاعنين بدل أن يقول: (وما فيه إلا تحسين الظن)؛ مما دعاني للتفكير في هذا الموضوع ملياً."

• وعن عمله في مرحلة الماجستير في صحيح مسلم في هذا الباب يقول:

"ومن فضل الله علي أني أتممت الموضوع المتعلق بصحيح مسلم في مرحلة

الماجستير ضمن رسالتي الموسومة بـ(العنعنة والأنأنة وحكمهما في صحيح مسلم)."

• ويقول عن توجهه للعمل في صحيح البخاري عملَهُ في صحيح مسلم في مرحلة الدكتوراه يقول الباحث:

"وبقي الموضوع المتعلق بصحيح البخاري غائباً عن البحث، وعندما يسر الله لي

القبول في مرحلة الدكتوراه قدمت هذا الموضوع للجنة الدراسات العليا فوافقت عليه

بفضل الله ورحمته، مما دعاني لجمع كلام المحدثين في هذا الموضوع من ثنايا كتبهم، إذ لم يبحث هذا الموضوع بحثاً مستقلاً، فمنهم من يذكره في سياق كلامه عن صحيح البخاري، ومنهم من يذكره في الإسناد المعنعن، ومنهم من يذكره في التدليس، ومنهم من يذكره في أثناء كلامه على الموازنة بين الصحيحين، وغير ذلك من مباحث علم الحديث، مما يصعب على الباحث جمعه، إذ لم يجمع سابقاً في بحث أو كتاب أو رسالة علمية في حدود علمي.

مما توجب علي جمع هذا الشتات من كتب الحديث بشكل إجابات عامة تحدد

السبب الذي من أجله أخرج صاحب الصحيح عن هؤلاء المدلسين في كتابه وهو

يصفهم بالتدليس في كتبه الأخرى، ومع ذلك أخرج عنهم المرويات في صحيحه، ومع جمعي هذا احتاج البحث إلى تطبيق عملي لهذه الإجابات من خلال حصر عدد الذين رُموا بالتدليس في صحيح البخاري، ومن ثم عرض مروياتهم كلٍّ على حدة، ودراستها دراسة تفصيلية دقيقة للوصول إلى الحقيقة العلمية التفصيلية المعززة بالدليل".

• هذه الرسالة دليل صحة ما ذهب إليه علماء الإسلام بخصوص الصحيحين:

"فهذه الرسالة تعد دليلاً عملياً يثبت ما قاله علماء الحديث سابقاً لسد هذه

الثغرة على الطاعنين. وتكمن مشكلة البحث في أنه يتعرض لمسألة لها مساس بالصحيح، وتحديد منهج الإمام البخاري فيها، مع قلة المصادر التي تتعرض لهذا الموضوع في وقت

تتوجه فيه الاتهامات لصاحب الصحيح بغية إسقاط السنة النبوية المطهرة."

• خطة البحث وفصول الرسالة:

"واقتضت خطة البحث تقسيم الرسالة بعد هذه المقدمة؛ إلى تمهيد، وأربعة فصول،

وخاتمة. تضمن التمهيد التعريف بالإمام البخاري وكتابه الصحيح.

أما الفصل الأول: فتضمن التعريف بالتدليس وأقسامه وأنواعه وحكمه وأسبابه، ومفاسده والمصنفين فيه.

وأما الفصل الثاني: فقد تضمن التعريف بالمرتبة الثانية من طبقات المدلسين

وذكر عددهم وشيوخهم في صحيح البخاري، ومن ثم دراسة مروياتهم كلٍّ على حدة.

وأما الفصل الثالث: فقد تضمن التعريف بالمرتبة الثالثة من طبقات المدلسين،

وذكر عددهم وشيوخهم في صحيح البخاري، ومن ثم دراسة مروياتهم كلٍّ على حدة.

والفصل الرابع: تضمن التعريف بالمرتبة الرابعة من طبقات المدلسين، وذكر

عددهم وشيوخهم في صحيح البخاري، ومن ثم دراسة مروياتهم كلٍّ على حدة، ثم خاتمة بينت فيها أهم النتائج التي توصلت إليها من خلال بحثي هذا". ا.هـ.

هذه هي مقدمة هذه الرسالة العلمية العظيمة التي ظنها هواة الباطل؛ تخدم هواهم في هدم البخاري وصحيحه، وبالتالي سائر عمل المحدثين وكتبهم، لأن أهل السنة والجماعة من المسلمين يعدون كتاب البخاري في صحيحه الجامع أصح كتب الحديث، فإذا انهدم؛ سقط سائر كتب الحديث.

وما أليق قولَ الشاعر العربي(3) في وصف حال هؤلاء القوم، إذ يقول:

إن يسمعوا ريبةً طاروا بها فرحاً ... مني، وما سمعوا من صالحٍ دفنوا

صُمٌّ إذا سمعوا خيراً ذُكِرْتُ به ... وإن ذُكِرْتُ بسوء عندهم أَذِنوا

جهلاً عليَّ، وجُبْناً عن عدوِّهمُ ... لَبِئْسَتِ الخلتان الجهلُ والجُبْنُ

فتراهم ينشرون أي كلام سوء عن الأحاديث عامة، وعن الصحيحين خاصة، ويشتغلون بذلك ويشغلون من حولهم به، ويدخلون في قلوب العامة الشك والريب في الدِّين وأهله، بدلاً من أن يشتغلوا بما يرونه أنه صحيح، وما هم ببالغين غايته أعمارهم كله".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) http://www.alsunan.com/wp-content/uploads/2017/11/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%84%D8%B3%D9%8A%D9%86-%D9%88%D9%85%D8%B1%D9%88%D9%8A%D8%A7%D8%AA%D9%87%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%B5%D8%AD%D9%8A%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AE%D8%A7%D8%B1%D9%8A-1.pdf رابط الجزء الأول.

(2) الأمثال لابن سلَّام ص53، دار المأمون للتراث، تحقيق: عبد المجيد قطامش، ط 1400هـ، ولسان العرب لابن منظور (1/ 283)، دار صادر. من موقع ملتقى أهل الحديث:

https://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=235504

وفي قصة المثل قال أبو عُبيد: قال الزبير- بن بكَّار-: وأصلُ هذا فيما أخبرني به محمد بن سلَّام قال: كان لسهيلِ بنِ عَمْرو ابنٌ مضعوف، قال: فقال إنسانٌ يوماً: أين أَمُّكَ؟ يريد: أين تَؤُمُّ؟ فظن أنه يقول: أين أُمُّك؟ قال: فحسبته قال: ذهبت تشتري دقيقاً، فقال سهيل: "أساء سمعاً فأساءَ جَابةً" فأرسلها مثلاً، فلما انصرف إلى زوجته أخبرها بما قال ابنها فقالت: أنت تبغضه! فقال: أشْبَهَ امرؤٌ بَعْضَ بَزِّهِ.

(3) شعر قعنب بن أمّ صاحبٍ من بني عبد الله بن غطفان، الكتاب: لباب الآداب، المؤلف : أسامة بن منقذ، مصدر الكتاب: موقع الوراق: http://www.alwarraq.com، [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع]

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين