تعريف بكتب الشيخ علي الطنطاوي: مع النّاس (2) 

يضم هذا الكتاب الجميل أربعين مقالة، بعضها من أوائل ما نشر علي الطنطاوي في الصحف في مطلع الثلاثينيات، ولكن أكثرها مما نُشر في أواخر الخمسينيات. ومعظم مقالات الكتاب تهتم -كما يوحي اسمه- بقضايا الناس وهمومهم ومشكلاتهم، فهي مقالات اجتماعية واقعية. ولما كان كثير منها مما أُذيع من إذاعة دمشق -حين كان للشيخ حديث أسبوعي يُذاع منها كل يوم جمعة- فإنها جاءت وصفاً لما في المجتمع من مشكلات وسعياً إلى المعالجة والإصلاح.

من مشكلاتنا المزمنة -على سبيل المثال- الاستهتار بالوقت وإخلاف المواعيد. وأنا عاشرت جدي زماناً طويلاً فما رأيته أخلف موعداً قط، وكان ذلك من أكثر ما يؤذيه من الناس. ولأنه أدرك مدى انتشار هذه العلة في المجتمع وتمكنها من أفراده فقد خصّها بعدد من أحاديثه ومقالاته التي جمعها هذا الكتاب، ومنها "لصوص الوقت" و"لا تؤجل" و"الوعد الشرقي" التي ساق فيها قصة إخلاف موعدٍ ثم عقّب عليها بقوله: "أليس عجيباً أن صار اسم "الوعد الشرقي" عَلَماً على الوعود الكاذبة واسم "الوعد الغربي" عَلَماً على الوعد الصادق؟ مَن علّم الغربيين هذه الفضائل إلا نحن؟ أوَلم يجعل الإسلام إخلاف الوعد من علامات النفاق وجعل المُخْلف ثلث منافق؟ فكيف نرى -بعد هذا- كثيراً من المسلمين لا يكادون يَفُون بموعد ولا يبالون بمن يخلف لهم وعداً، حتى صار التقيد بالوعد والحرص عليه نادرة يتحدث بها الناس؟... فمتى يجيء اليوم الذي نتكلم فيه كلام الشرف ونَعِد وعد الصدق؟... فابدؤوا بإصلاح الأخلاق؛ فإنها أول الطريق".

* * *

أما مقالة "شغّلوا الطلاب في عطلة الصيف" فليست دعوة لاستثمار الوقت الضائع لأكثر الطلاب في عطلة الصيف فحسب، بل هي أيضاً دعوة لتقدير العمل واحترامه وتعويد الطلاب عليه. لقد كان العمل اليدوي (وأحسبه ما يزال) نقصاً في نظر كثير من الناس الذين يصرفون عنه أبناءهم وينظرون إلى من يقوم به بعين الازدراء، لذلك جاء في تلك المقالة (وهي مما أذيع من أحاديث عام 1959): "إن العمل ليس عيباً، وفي أميركا يشتغل الطلاب، حتى الأغنياء منهم، في العطلة الصيفية بالخدمة في المطاعم والعمل في المصانع، فلماذا يبقى شبابنا مدة العطل (وهي ربع السنة أو ثلثها) بلا عمل فيتعودوا الكسل والبطالة أو يقرؤوا روايات أرسين لوبين أو يروا الأفلام الخبيثة؟ لماذا نقتبس من الغرب الضار ولا نقتبس النافع؟"

ثم نراه يخص الطلاب بالاهتمام مرة أخرى، ولكن بدراستهم وامتحاناتهم هذه المرة، وذلك في مقالة "إلى الطلاب" التي يعلّمهم فيها كيف يدرسون. فقد زار صديقاً له مساء فوجد ابنَه يسهر كل يوم إلى الساعة الثانية يستعد للامتحان، فقال: "أعوذ بالله، هذا أقصر طريق للوصول إلى السقوط في الامتحان... إن أول نصيحة أسديها لمن يدخل الامتحان من الطلاب والطالبات أن يحسن الغذاء وأن ينام ثماني ساعات". تلك الأولى من سبع نصائح، أما بقيتها فعودوا إلى الكتاب لقراءتها فيه.

* * *

وفي الكتاب دعوة إلى الخير والإنفاق في مقالة "أحسن كما أحسن الله إليك"، وإلى مثل ذلك وإلى الخلق الحسن في "رمضان" و"حديث العيد".

وفي مقالة "كل شيء للناس" أسلوب طريف في معالجة مشكلة عظيمة تنغّص على الناس -لا سيما الرجال- حياتهم، هي إقامة تصرفاتنا وأعمالنا على ما يحقق رضا الناس واعتبارُ هذا الرضا غايةً نبذل الكثير في سبيلها ونجهد في الوصول إليها. اقرؤوا هذه المقالة تجدوا فيها وصفاً طريفاً لهذه المشكلة، وفي آخرها: "الناس! دائماً الناس؟ فيا أيها الناس، متى نعيش لأنفسنا؟ ومتى نستطيع أن نقف عند حدِّ الشرع وحدِّ العقل؟ ومتى يخرج فينا العقلاء الأقوياء الذين يكسرون هذه القيود؟ أمّا أنا فوالله ما أبالي هذا كله ولا أدخلته يوماً في حسابي، ولكنْ أعظُ من شاء أن يتعظ... ولا تخشوا قول الناس ما دمتم لم ترتكبوا محرماً ولا ممنوعاً شرعياً. وهل عند الناس إلا أن يقولوا؟ لقد قالوا عن محمد صلى الله عليه وسلم وهو خاتم الأنبياء أنه مجنون، وقالوا ساحر، وقالوا كذّاب! فليقولوا عنكم ما شاؤوا، ولا تبالوا بسخط الناس إن كنتم قد أرضيتم رب الناس".

* * *

أما القضية التي شغلت أكبر مساحة من الكتاب فهي الدعوة إلى الفضيلة ومعالجةُ مشكلات الشباب والشابات. فمن ذلك إنذار وإعذار، كما في "هذا نذير للناس" و"إبراهيم هنانو قال لي" التي نشرها في مجلة الرسالة عام 1946، وفي أولها: "هذا إنذار أستحلفُ كل قارئ من قراء "الرسالة" في الشام أن يحدّث به وينشره ثم يحفظه، فإنه سيجيء يوم تَضطره أحداثُه أن يعود إليه فيقول: يا ليته قد نفعنا هذا الإنذار، يا ليتنا! ويومئذ لا تنفع شيئاً "ليت". إنها لا تردّ ما ذهب ولا ترجع ما فات! وهذا إعذار إلى الله ثم إلى كتّاب التاريخ، لئلاّ يقولوا إنها لم ترتفع في دمشق صيحةُ إنكار لهذا المنكر ولم يَعْلُ فيها صوتٌ ناطق بحق". وبعد هذا الإنذار يأتي تشخيصٌ وعلاجٌ في عدد كبير من المقالات: "مشكلة الزواج" و"أسباب المشكلة" و"الحب والزواج" و"في الزواج" و"السن المناسبة للزواج" و"هذا هو الدواء". 

الكتاب السابق صور وخواطر 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين