الإمام البخاري: تقدمه وجلالته في الحديث والفقه (4)

قالوا: أخبرنا عن جلالة الإمام البخاري وتقدمه في الحديث والفقه كما وعدتنا في مقالك السابق.

قلت: لقد أمليت عليكم مرارا ترجمته، وتفاصيل طلبه للحديث، ورحلاته، وشيوخه، وحفظه، وفقهه، وصلاحه، وتقواه، وورعه، وتحديثه، وتأليفه، وثناء الناس عليه، فلا أعيدها عليكم، ومن أراد البسط فليراجع ترجمته في سير أعلام النبلاء للذهبي، وتهذيب الكمال لأبي الحجاج المزي، وهدى الساري للحافظ ابن حجر العسقلاني، وسأقتصر في هذا المقال على ثلاثة أمور تنفعكم في إدراك عظمة هذا الإمام وجلالة قدره.

قالوا: ما هي؟

قلت: هي نظرته التاريخية، ونظرته الفلسفية، ونظرته الفقهية،

قالوا: ما نظرته التاريخية؟

قلت: شرحت لكم في مقال سابق أن الحديث تاريخ، والمحدثون هم مؤرخون، ومنهم من اشتغل بتلقي الأحاديث والأخبار وجمعها من دون أن يكون له نظرة تاريخية، فخلط بين الجيد والزيف والغث والسمين، وهذه الطبقة هي الغالبية العظمى من المؤرخين والأخباريين والمحدثين إلى يومنا هذا، ومنهم من آتاه الله نظرة تاريخية، فقسم المصادر إلى الموثوق بها وغير الموثوق بها، والأصلية منها والفرعية، ومصادر الحديث نقلته ورواته، وفرق بين الصحيح وغير الصحيح والثابت والمنحول، ومن كبارمن أوتي النظرة التاريخية مالك، وشعبة، والسفيانان، وحماد بن زيد، ويحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والبخاري، ومسلم، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والنسائي، رحمهم الله تعالى رحمة واسعة.

قالوا: اشرح لنا نظرة البخاري التاريخية.

قلت: عرف البخاري من بداية طلبه أن الحديث تاريخ، فعني بحفظه وضبطه ومعرفة رجاله: مدى استقامتهم وصدقهم وحفظهم وضبطهم، وتقصى كل ذلك تقصيا لا يوجد له نظير، قال العباس الدوري: "ما رأيت أحدًا يحسن طلب الحديث مثل محمد بن إسماعيل، كان لا يدع أصلا ولا فرعا إلا قلعه" (سير أعلام النبلاء 12/406). وقال البخاري: "لم تكن كتابتي للحديث كما كتب هؤلاء، كنت إذا كتبت عن رجل سألته عن اسمه وكنيته ونسبه وحمله للحديث إن كان الرجل فهما، فإن لم يكن سألته أن يخرج إلي أصله ونسخته، فأما الآخرون لا يبالون ما يكتبون وكيف يكتبون". (سير أعلام النبلاء 12/406)، وروى الترمذي عن البخاري، قال: "ابن أبي ليلى هو صدوق، ولا أروي عنه، لأنه لا يدري صحيح حديثه من سقيمه، وكل من كان مثل هذا فلا أروي عنه شيئا" (جامع الترمذي 364)، وروى الترمذي عن البخاري، قال: "زمعة بن صالح ذاهب الحديث، لا يدري صحيح حديثه من سقيمه، أنا لا أروي عنه، وكل من كان مثل هذا فلا أروي عنه شيئا" (العلل الكبير 389).

قالوا: ما نظرته الفلسفية؟

قلت: هي قدرته العجيبة على المقارنة بين الأخبار مكيها ومدنيها وكوفيها وبصريها وشاميها ومصريها، وتحليلها تحليلا علميا دقيقا يتوصل به إلى معرفة الأخطاء فيها والأوهام الظاهرة والخفية، والذي ساعد رؤوس أهل الحديث على هذه المقارنة وهذا التحليل هو سعة علمهم وكثرة حفظهم، قال عبد الله بن جعفر بن خاقان: سألت إبراهيم بن سعيد الجوهري عن حديث لأبي بكر الصديق، فقال لجاريته: أخرجي لي الجزء الثالث والعشرين من مسند أبي بكر، فقلت له: أبو بكر لا يصح له خمسون حديثا، من أين ثلاثة وعشرون جزءا؟ فقال: كل حديث لا يكون عندي من مائة وجه، فأنا فيه يتيم. (سير أعلام النبلاء 12/151)، وقال الإمام مسلم في كتاب التمييز (209) له: "فبجمع هذه الروايات ومقابلة بعضها ببعض يتميز صحيحها من سقيمها".

والقصة التالية تدل على عمق النظرة الفلسفية لدى البخاري، قال أبو داود في باب الجمع بين الصلاتين من سننه: حدثنا قتيبة بن سعيد أخبرنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عامر بن واثلة عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليهما جميعا وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب. قال أبو داود: ولم يرو هذا الحديث إلا قتيبة وحده، وأخرجه الترمذي وقال: حسن غريب، تفرد به قتيبة.

قال أبو عبد الله الحاكم: رواته أئمة ثقات، وهو شاذ الإسناد والمتن، ثم لا نعرف له علة نعلله بها، فلو كان الحديث عند الليث، عن أبي الزبير عن أبي الطفيل، لعللنا به الحديث، ولو كان عند يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الزبير، لعللنا به، فلما لم نجد له علة، خرج عن أن يكون معلولا. ثم نظرنا فلم نجد ليزيد عن أبي الطفيل رواية، ولا وجدنا هذا المتن بهذه السياقة عند أحد من أصحاب أبي الطفيل، ولا عند أحد ممن يرويه عن معاذ بن جبل غير أبي الطفيل،

فقلنا: هو شاذ، وأئمة الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجبا من إسناده ومتنه. ولم يبلغنا عن أحد منهم أنه ذكر له علة .

قال الحاكم: وقد قرأ علينا أبو علي الحافظ هذا، وحدثنا به عن النسائي، وهو إمام عصره، عن قتيبة. ولم يذكر أبو عبد الرحمن، ولا أبو علي للحديث علة، فنظرنا، فإذا هو موضوع. وقتيبة ثقة مأمون. فحدثني علي بن محمد بن عمران الفقيه، حدثنا ابن خزيمة، سمعت صالح بن حفصويه- نيسابوري صاحب حديث - يقول: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: قلت لقتيبة: مع من كتبت عن الليث حديث يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل؟ قال: مع خالد المدائني. قال البخاري: وكان خالد هذا يدخل على الشيوخ الأحاديث .

قالوا: ما نظرته الفقهية؟

قلت: ليس فقهه فقه المتأخرين، بل إمامته في في المعنى الذي استعمله المتقدمون، وهو فقه أصول الدين وفروعه، وأحكامه وحِكَمه، وكلياته وجزئياته، وقد بلغ في الفقه مبلغ أبي حنيفة ومالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد بن حنبل، واعترف الأئمة بتبريزه في الاجتهاد والاستنباط، وكتابه خير شاهد عليه، وأودع البخاري فقهه تراجم كتابه، قال الحافظ ابن حجر في هدي الساري: "استخرج بفهمه من المتون معاني كثيرة فرقها في أبواب الكتاب بحسب تناسبها، واعتنى فيه بآيات الأحكام؛ فانتزع منها الدلالات البديعة وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبل الوسيعة. قال الشيخ محيي الدين نفع الله به: ليس مقصود البخاري الاقتصار على الأحاديث فقط بل مراده الاستنباط منها والاستدلال لأبواب أرادها ولهذا المعنى أخلى كثيرا من الأبواب عن إسناد الحديث واقتصر فيه على قوله فيه: فلان عن النبي أو نحو ذلك وقد يذكر المتن بغير إسناد وقد يورده معلقا وإنما يفعل هذا لأنه أراد الاحتجاج للمسألة التي ترجم لها.". وقال كوكب الديار الهندية ولي الله الدهلوي: "أراد البخاري أن يفرغ جهده في الاستنباط من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستنبط من كل حديث مسائل كثيرة جدا، وهذا أمر لم يسبقه إليه غيره، غير أنه استحسن أن يفرق الأحاديث في الأبواب، ويودع في تراجم الأبواب سر الاستنباط"، وقال القسطلاني: "وبالجملة فتراجم البخاري حيرت الأفكار، وأدهشت العقول والأبصار".

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين