ما صحيح البخاري؟ (3)

قالوا: لم نرك معجبا بإنتاج بشري إعجابك بصحيح البخاري، عالقًا به فؤادك وجدًا وهوى؟

قلت: صدقتم، فإني ولوع به مستهام، وكلف به مشغوف، وكلما تذكرته تمثل لي البيت الذي أنشده العلامة شبلي النعماني بالفارسية، معناه: "إن البارئ المصور الأزلي لما رسم شكلك الجميل البديع ما فتئ يتلمحه مستحسنا له ومبتهجا به"، يُخيل إلي أن الإمام البخاري عمل الصحيح وهو يلحظه وقد بهره واضح محياه، وبديع طلعته، ورائع سبكه، ومليح ظاهره، ووضيئ باطنه.

قالوا: متى وقع حبه في قلبك؟

قلت: في شوال سنة إحدى وأربعمائة وألف إذ استهللته في السنة الأولى من الدراسات العليا في دار العلوم لندوة العلماء، فكان أهنأ من المدام الخندريس، وأمرأ من معاطاة الكؤوس، وأشهى من قبلة العذارى، وأحلى من سكر السكارى، وسلام الله على الدار التي سباني بها هذا السفر الجليل، وسقت الغوادي تلك الأيام التي عكفت فيها عليه العكوف الطويل، والليالي التي سهرتها أرد معينه الصافي السلسبيل، فهذه أربعون سنة تقريبا، وأنا مفتون به مغرم، وما فارقته منذ وددته، وما ودعته منذ التقيته، له في قلبي محل لم يحله شيء من أعمال البشر، ودهشتي لا تنقضي لما له من أثر، سما إلى العلا وعلا وكأن النجم تحته يجري، فلا شيء يشبهه ولو كثر التجمل والكلام، ولا إنجاز يعجبني مهما أشاد به الأنام، استصغرتُ بين يديه كتابات الفلاسفة والحكماء القدامى والمحدثين، وتأليفات العلماء والأدباء الشرقيين والغربيين، ودواوين شعراء الأردية مير تقي مير، وأسد الله غالب، والدكتور إقبال، وشعراء الفارسية الشيخ السعدي، وحافظ الشيرازي، والرومي، وشعراء العربية الجاهليين والإسلاميين والمولدين، والأعمال المعمارية تاج محل وما دونه، والإمبراطوريات الرومية والفارسية والأموية والعباسية والتركية والمغولية، فإني بالصاحب الذي استأسر نفسي لمُنْعَم ممتَّع، وهو لي مَضْجَع مُمنَّع، ولا أرى ثوب مجد غير ثوب هذا الجامع على أحد إلا وهو بلؤم مرقَّع.

قالوا: ما أعجبك منه؟ 

قلت: كماله، وتمامه، وشموله، وجماله، فإليه تناهى كل تفوق وفخار، وكل شرف واعتزاز:

وتحيرتْ فيه الصفات لأنها

ألفَتْ طرائقه عليها تبعد

في شانه ولسانه وبنانه

وجنانه عجب لمن يتفقد

نظر العلوج فلم يروا من حولهم

لما رأوك وقيل هذا السيد

قالوا: فسِّر لنا الجوانب الأربعة تفسيرا.

قلت:فأما كماله، فهو كونه صحيحا، حائزا في الصحة أعلى الدرجات، فأحاديثه التي خرجها في الأصول متصلة الأسانيد، لا انقطاع فيها ولا تشوبها شبهة تدليس، ورواتها ثقات، أي متصفون بأسمى المراتب في الاستقامة والعدالة، وأرقى المنازل في الضبط والإتقان، خالية من الشذوذ، أي نقية من مخالفة تضرها في الإسناد أو المتن، وبريئة من اعتلال، أي نزيهة من علل وأسباب خفية تقدح في ثبوتها.

وهذا الكمال لازم للكتاب من أوله إلى آخره، وقد يُشكل على بعض من لم يبلغ في الإمامة مكانته، فيزيل إشكاله بمتابعات وشواهد تدل على تبحر شأنه وعلو كعبه.

وأما تمامه، فهو جامع للصحيح على شرطه ومانع لغيره، أي جمع كل ما توفرت فيه شروطه، لم يفته منها شيء، فليس ثمة حديث في عامة الكتب يبلغ في الصحة القدر الذي يُلزمه إدراجه في كتابه، وليس فيه حديث ينحط عن مكانته وينزل عن طبقته.

وأما شموله، فهو استيعابه لجميع الدين أصوله وفروعه، أحكامه ومسائله، ورغائبه وفضائله، ولجميع ما يتصل بكتاب الله تعالى من تعظيم وتفسير، ولجميع ما يرتبط بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والمرسلين ومناقب الصحابة، وما يتعلق بالساعة وأشراطها.

واستيعابه نوعان: استيعاب لجميع تلك الأمور والمواضيع، واستيعاب لحججها من كتاب الله تعالى والسنن والآثار، إما بنصوص واضحات، أو باستنباطات واستخراجات، أو إشارات واقتضاءات.

وأما جماله، فإن البخاري قد عني عناية بالغة بإضفاء الحسن والجمال على كتابه، وذلك في ترتيب كتبه وأبوابه، ووضع تراجمه وعناوينه، وتكرار أحاديثه وتنسيقها، واختصار متونه ونظمها.

قلت: يفنى حديثي ولا يحيط بمحاسنه، وأنى لأعجمي مثلي أن يحيط بوصف كتاب حوى كلام أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء؟ وأنى لطالب مثلي أن يستقصي أغوار إمام المحدثين والفقهاء، الذي سلمت له العرب والعجم بالسبق والتقدم، ودان له المتقدمون والمتأخرون بالتبريز والتفوق؟

قالوا: ما أكثر ما توصينا أن كل كلام لا يصحبه دليل وبيان فهو ادعاء فارغ، معادٍ للعلم وموالٍ للجهل، أو لا ترى أن ما سردت من مزايا الكتاب الأربع لا يعدو أن يكون دعوى؟

قلت: لا، فإن عندي لكل مزية منها شرحا مستوفى مدعوما بالأمثلة والشواهد، ومؤيدا بالدلائل والبراهين.

قالوا: فأت بها.

قلت: سأتناول كل خصلة منها في مقال مفرد إن شاء الله تعالى، مسبوقة بمقال عن جلالة الإمام البخاري وتقدمه في هذا الشأن، فتابعوها إن كنتم في التبصر بالصحيح راغبين، وعلى وعي مقامه وفقه مناهجه حريصين.

الحلقة السابقة هنا 

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين