الطعن في صحيح البخاري

قالوا: قد تفشى هذه الأيام عيب بعض المتغطرسين المعجبين بأنفسهم لصحيح البخاري ووقوعهم فيه، واستشرى فسادهم، وهم من كل حدب ينسلون، وفي كل واد يهيمون.

قلت: أعَيْبُهم له من زمرة النقد أم هو من أذناب الطعن؟

قالوا: ما الفرق بين الأمرين؟

قلت: قد جلَّيتُه في مقال مفرد جلاء فاستعيدوه،

قالوا: لخِّصه هنا، قلت: هؤلاء المغرورون الذين ينتقصون من هذا السفر الجليل أرأيتموهم يعتمدون قواعد علمية أكاديمية ومناهج تحقيقية رصينة؟

قالوا: لا،

قلت: فإذن ليس عيبهم نقدا، وإنما هو حشو من كلام ساقط مرذول قذفته إليهم شياطين الإنس والجن، فلاكوه بألسنتهم ولفظته أفواههم، وزخرف من قول سخيف باطل موهوه تمويها، فاهجروه متلهين عنه ومستخفين به، واعلموا أن كل دعوى لا تستند إلى دليل علمي فهي باطلة لا قيام لها ولا تقدِّم شيئا ولا تؤخِّر، ولا تضر إلا صاحبها مزيحة الستار عن خفة عقله وسوء طينته، وما هو إلا كناطح صخرة يوما ليوهنها فأوهى قرنه، فلا يهمنكم سب السابين ولا شتم الشاتمين.

قالوا: يؤلمنا صنيع هؤلاء،

قلت: احتسبوا من ربكم أجرا فيما أصابكم من أذى في سبيله، ولا تقلقوا ولا تنزعجوا، إن سهام هؤلاء ترتد عليهم، وإن ضحك الأقزام على الأمجاد وسخرية اللئام من الكرام لمن أبين الحجج على دناءة الأقزام ولؤم اللئام.

قالوا: زعم بعضهم أن البخاري مسؤول عن تخلف المسلمين.

قلت: لم أسمع بكلمة أسمج منه قط ولا أبعد منه قبحا وجلفا، ولا أدل على جهل القائل به منه، وهل نظر هذا الرجل في تاريخ المسلمين؟ وهل تغابى عما حققه المسلمون من أمجاد في الحضارة البشرية وانتصارات عسكرية وسياسية مدهشة منذ عهد الإمام البخاري؟ وهل تعامى عن أن المسلمين وطدوا الإمبراطورية العثمانية العظمى التي حكمت آسيا وإفريقيا وأوربا طوال قرون؟ وهل أغفل أن المسلمين افتتحوا الهند فحكموها نحو ثمانية قرون.

قلت: وهل راجع ذلك الرجل تاريخ الشرق والغرب؟ لو راجعه لعرف مدى إسهام المسلمين في الحضارات العالمية، وهل من دالٍّ يدلُّه على كتابات الغربيين التي تنوِّه بمنة المسلمين وفضلهم على أوربا وسائر بلاد الغرب؟ وهل من منبِّه ينبِّهه على كتابات الهنود الواصفة مدى العطاء الإسلامي في الهند ودور المسلمين في تطويرها وتنميتها.

وسلُوا هذا المخرف ما سبب تخلف الهنود ولا قرآن لهم ولا سنة إذ حكمها الشعوب المسلمة شعبا إثر آخر طوال قرون؟ وسلوه: وهل المسلمون أول من تخلف من بين العالمين؟ فما سبب تخلف غيرهم وليس لديهم صحيح البخاري؟

وسلوا هذا المتعالم المتعاقل: قد أدركتَ سر تخلف المسلمين، فأتِهم بكتاب أهدى من صحيح البخاري تنقذهم به من التخلف المشين الذي لحقهم.

وقلت: إن هذا المسكين لا يعرف ما صحيح البخاري؟ ولا يعرف ما خصائصه وما مزاياه؟ بل لو أنه سئل أن يقرأ منه صفحة ويشرحها لجاء بألحان تضحك منها الولدان، ولجاء بتفاسير تكشف عن سفهه وما به من ذل وهوان.

قالوا: نخشى أن يسري كلام هؤلاء في نفوس الأغمار وضعاف النفوس والعقول من شبابنا ويتسرب إليهم تسربا.

قلت: لن تغني مثل هذه الخشية شيئا، بل عليكم أن تستيقظوا من سباتكم وتنتبهوا من غفلتكم.

قالوا: أرشدنا إلى ما يعيننا على تحذير ناشئتنا من شر هؤلاء.

قلت: هو أن تعلِّموهم جزءا من صحيح البخاري تعليما أكاديميا دقيقا مضبوطا، فيتعرفوا به على منهج الإمام البخاري في كتابه العديم النظير وخصائصه، وقد جربت بنفسي إذ رأيت بعض الطلاب المسلمين منخدعين بدسائس المستشرقين، فبدأت تدريس صحيح البخاري للطلاب والطالبات في أوكسفورد ولندن، فأعجبوا بمنهج البخاري وبعلوِّه على مناهج الغربيين في البحث والتحقيق، واعترف لي بعضهم أن دراسة صحيح البخاري طوَّرت عقولهم ونمَّت ملكاتهم العلمية وأثْرَتهم في طرق البحث والتحقيق.

قالوا: فأخبرنا بمنهج البخاري وخصائصه في صحيحه،

قلت: سأفعل إن شاء الله تعالى في عدة مقالات، فادعوا لي بالتوفيق من ربِّنا والتيسير.

انظر الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين