منهجُ صناعةِ القدوةِ الحسنةِ في الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ ( 3- 5)

المنهج النبوي في صناعة القدوة

ثانيًا: المنهج النبوي في صناعة القدوة:

لقد كان النبي صلى الله عليه يعتني بكل فرد من أصحابه عناية خاصة، فيرشده إلى عيوبه، ويشجعه فيما يحسن، ويشهره بين الناس بما فيه من خير، ويستر ما فيه من نقص إلا لمصلحة، مما جعلهم يستجيبون لكل نصائحه وتوجيهاته، وقد تخرج على يده مجموعة من خيرة القادة ورواد الحضارة والإنسانية في التاريخ البشري، وقد كانوا قَبلًا رعاة إبل وغنم أو محاربين بسطاء أو تجارًا محليين، ولم يكن ذلك عن تكلف أو تخطيط، بل بما فُطر عليه من أخلاق وصفات كاملة تفيض على العالم كله.

إن المتمعن في منهج النبي صلى الله عليه وسلم في صناعة الرجل القدوة يلحظ مجموعة من السبل الدقيقة والحكيمة التي توصل الإنسان إلى أن يكون قدوة حسنة وإنسانًا يتمتع بأعلى صفات الكمال، وسأعرض هنا لمجموعة من تلك السبل النبوية.

تهيئة البيئة والصحبة الصالحة:

كي تتم عملية إعداد القدوة لا بدَّ لذلك من بيئة خاصة تتم عملية التكوين فيها، ويتحصل فيها على المناعة الكافية، فلا يمرض أو يسقط عند أول هواء فاسد أو لقاء أو موقف سيئ أو امتحان عملي أو فتنة، وهذا ما فعله النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عندما جمع الرعيل الأول من المسلمين في أعظم بيئة حاضنة في تاريخنا الإسلامي، ألا وهي دار الأرقم بن أبي الأرقم، أعظم مدرسة للتنشئة التربوية لإعداد الرموز (1)، وقد تابع النبي صلى الله عليه وسلم عملية صناعة البيئة الصحية في المدينة المنورة بعد الهجرة النبوية من خلال ربط المهاجرين بالأنصار، ووضع قواعد المجتمع السليم الذي يتخذ من المسجد النبوي وقواعد الرسول الحكيم قانونًا يحتكمون إليه، ومن نصائحه معالمَ يهتدون بها، وقد عزل هذه البيئة عن المحيط الموبوء، من خلال نهيهم عن قراءة صحف اليهود أو تقليدهم للمشركين أو التواصل مع أقاربهم المحاربين للدعوة أو المشركين إلا ضمن ضوابط خاصة نزل القرآن بها وفصل النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فكانت البيئة شبه معزولة، وبقي التواصل خارج البيئة بمقدار ما يكتسب أفرادها المناعة من الأمراض الاجتماعية المحيطة بهم، وإلا فإن العزل التام للبيئة الحاضنة تصل بأفرادها إلى نتائج خطيرة ومدمرة لا حاجة لنا بها، وهذا ما على المربين والتربويين معرفته اليوم، إن العزلة الزائدة عن المجتمع وأمراضه تؤدي إلى نتيجة قريبة جدًا من الاختلاط التام به، فالحكمة مطلوبة في ذلك. 

الاهتمام بتنوع الأجيال في المجتمع الواحد:

من أسس صناعة القدوة الحسنة في المنهج النبوي الاهتمام بعدة أجيال من المؤمنين، ونستطيع أن نقسمها إلى ثلاثة أجيال: 

الأول: جيل الكهول والشيوخ، وقد أولى بهم النبي صلى الله عليه اهتمامًا لا بأس به، وكان فيهم نسبة قليلة من قادة الصحابة أمثال: سلمان الفارسي وأبي بكر الصديق وعمر وعثمان وسعد بن عبادة وأسعد بن زرارة وعثمان بن مظعون.

الثاني: جيل الشباب الذي يضم عليًّا وجعفرًا وبقية العشرة المبشرين بالجنة وجابر بن عبد الله ومعاذ بن جبل.

الثالث: جيل النشء الصغير، ويمثله أنس وعائشة والحسن والحسين وأسامة بن زيد وقد علمهم النبي صلى الله عليه وسلم القراءة والكتابة وأنواعًا شتى من العلوم.

بهذه الطريقة أنشأ النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجيال من القدوة، الأول منهم كان ركيزة الدولة، والثاني كان فيه مستقبل الدولة القريب وجنودها المخلصون وحملة رسالتها، وهم الذين نقلوا الدين والحضارة وحملوا الأمانة خمسين سنة أخرى، وجيل الناشئين الذي حملها إلى نهاية القرن، وقد خرَّج كلُّ جيلٍ من هذه الأجيال جيلًا لاحقًا قادرًا على حمل أمانة الدين الإسلامي التي شملت كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للأمة المسلمة.

وهذا ما يجب علينا اليوم في منهجنا لصناعة القدوة الحسنة، أن نهتم بكل من لديه القابلية لقدوة الناس سواء كان رجلًا كبيرًا أو شابًا في مقتبل العمر أو طفلًا ناشئًا، وإن كان الشباب هم أكثر فئة تستحوذ على الاهتمام لكثرة المهام الملقاة على عواتقهم، ونرى في سلوكنا الاجتماعي المعاصر مخالفة خطيرة في هذا المجال؛ إذ يتم الاهتمام بجيل الأطفال على حساب الشباب وهذا ما يُحدث خللًا متواصلا في نهضتنا المنشودة.

مدح أصحابه بخير ما فيهم:

من استراتيجيات صناعة القدوة التي نجدها في المنهج النبوي إشهار المتميزين والمؤهلين للقدوة والقيادة بخير ما فيهم، فقد كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يمدح كل صحابي بخير ما فيه ليعتني بما وهبه الله من مكارم وليكون قدوةً لغيره في هذه الخصال، قال بدر الدين العيني (2): (والنبي صلى الله عليه وسلم، خصَّ كل واحد من كبار الصحابة بفضيلة واحدة وصفهُ بها، فأشعرَ بقدْرٍ زائدٍ فيها على غيره) (3)، وإن الأحاديث التي تشير إلى هذا المنهج النبوي في صناعة القدوة الحسنة كثيرة، نذكر بعضًا منها:

- عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي دِينِ اللَّهُ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَقْضَاهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ) (4).

- عَنِ عبد الله بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي مِنْ أَصْحَابِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ مَسْعُودٍ) (5).

- عن أَبَي بَكْرَةَ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى المِنْبَرِ وَالحَسَنُ إِلَى جَنْبِهِ، يَنْظُرُ إِلَى النَّاسِ مَرَّةً وَإِلَيْهِ مَرَّةً، وَيَقُولُ: (ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ) (6).

الرفق بالنصح: 

مما تميز به منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تنشئة الجيل الرفق بالنصح، وحرصه على أن يعي المقابل ما يرشده إليه ليكون على قناعة تامة به، وهذا ما يكشف خطأنا في تعليم طلابنا بالقسوة والصراخ والضرب كما هو الحال في بعض المناطق الإسلامية.

إن الصراخ والضرب والتخويف لا يخرِّج قدوات للمجتمع، ولكن الفكر النظيف والرفق في التأديب هو ما ينتج القدوة الحسنة، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا بُنَيَّ، إِنْ قَدَرْتَ أَنْ تُصْبِحَ وَتُمْسِيَ لَيْسَ فِي قَلْبِكَ غِشٌّ لِأَحَدٍ فَافْعَلْ) ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا بُنَيَّ وَذَلِكَ مِنْ سُنَّتِي، وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الجَنَّةِ( (7) نعم إن هذا النصح الهادئ المليء بالعطف والشفقة هو الذي فَتَق العَظَمة المختبئةَ في قلب أنس وروحه رضي الله عنه.

وإن هذا لا يعني أبدًا أن نتخلى عن القسوة والعقوبة، ولكنه يعني ألا نجعل القسوة منهجًا تربويًّا، إن غضب المربي وترهيبه لطلابه في بعض الحالات قد يوجه المتعلم ويضبطه وينفعه، ولكن اعتماد هذا الأسلوب فقط ليس كافيا لينضج الإنسان ويجعل منه قدوة حسنة، بل قد ينقلب على ما تعلمه في أقرب فرصة، ويكون قدوة سيئة لمن بعده، وذلك لأنه تربى على أن يفعل الصواب خوفًا لا عن قناعة وإيمان بوجوب الاستقامة.

إرشاد المجتمع إلى تقدير أهل السيادة:

على المجتمع أن يعرف لأهل السيادة والفضل والقدوة قدرهم، وعلى المربين أن يعلموا الناس الحفاظ على هذا الاحترام لينتظم المجتمع ولا تسوده الفوضى، فقد يخطئ القدوة إذ هو بشر، ولكن لا ينبغي لهذا الخطأ أن يدفعنا لإغفال فضله، ففي حادثة خلاف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقتَ، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي؟)، فما أوذي بعدها (8).

وكان عبد الله بن مسعود قدوة في هذه الأمة، على الرغم من النقص الخَلقي الذي كان عليه من قصر في القامة وضعف في البنية، وقد حماه النبي صلى الله عليه وسلم من الاجتراء عليه عندما ضحك بعض الناس منه، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنت أجتني لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواكًا من الأراك، فكانت الريح تكْفؤُه، وكان في ساقه دقَّة، فضحك القومُ من دِقَّة سَاقي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما يضحككم؟) قالوا: من دقة ساقيه، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من أُحد) (9).

تعتاد المجتمعات المتخبطة على إسقاط القدوة عند ظهور أول نقص خلقي أو خلقي فيه، بينما تحافظ المجتمعات المنتظمة على قادتها وتحميهم، ولعل من أهم ما عانت منه الثورة السورية في سنواتها الماضية إسقاط القدوات بسبب أو بغير سبب أو عند أول خطأ، مما دفع كثيرين من أهل الخبرة والقدوة في كل ميدان إلى اعتزال العمل لأجل الشعب والوطن.

منحهم الثقة الكافية لينموا مهاراتهم:

من الاستراتيجيات التي نجدها في السنة النبوية منح المتميزين من الصحابة الثقة وفسح المجال لهم لتطوير مهاراتهم وخصالهم الحسنة التي سيورثونها للناس من بعدهم، ومن أشهر الأمثلة على ذلك عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم إمارة بعث الشام لأسامة بن زيد رضي الله عنه، وهو الجيش الذي جمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، وكان قبل ذلك قد أوكل إليه مهمات قتالية عدة ووجهه من خلالها إلى الصواب دائمًا.

ومن الحوادث الشهيرة في ذلك إرسال الصحابي الشاب معاذ بن جبل رضي الله عنه عاملًا على اليمن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: (كَيْفَ تَقْضِى إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟) قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: (فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟) قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟) قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلا آلُو، فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَدْرَهُ وَقَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِى رَسُولَ اللَّهِ) (10).

الاستماع لهم وتقدير آرائهم:

بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع قادة المجتمع وقدواته كان يستمع لآرائهم وأفكارهم حول المواضيع المختلفة، ويستشيرهم فيما يعرض لهم من الأمور، فكان دائمًا يقول: (أشيروا عليَّ أيها الناس) ينتظر منهم أن يفكروا ويعبروا عن أفكارهم بصراحة ووضوح، ليكون هذا الأمر منهجية حياة للمجتمع المسلم، ولا يكون مجتمعًا متمحورًا حول آراء شخص واحد مستبد في كل صغيرة وكبيرة فيما يحسن وما لا يحسن، لقد كان الرسول الخاتم قدوة لأصحابه في المرونة والاستشارة وعدم جبر الناس على ما لا يقبلون، وقد أورث هذه الصفات لكبار الصحابة من بعده، ولا أدل على ذلك من استشارتهم في غزوة بدر وأحد والخندق وغيرها، واستماعه لهم في اعتراضهم على توزيع الغنائم على المسلمين الجدد بعد فتح مكة.

لا نستطيع أن نصنع قدوة حسنة في ظل الخوف والاستبداد وتقزيم الإنسان والاعتداء على كرامته، إذ الإنسان القدوة يحتاج إلى الكرامة الإنسانية أولا حتى يستطيع تأدية مهمته في الحياة بمهنية وأخلاقية سامية.

في العقود الخمسة الماضية من تسلط حزب البعث على السلطة في بلادنا عمل الحزب على صناعة الرجال عبر الخوف والفساد والتدريب على الانتهازية، وطغيان كل ذي سلطة على من تحت يده، فأفسد المجتمع السوري وغير نظرته إلى الحياة، حتى غدا قادة الناس في الكثير من مجتمعاتنا السورية هم أصحاب المناصب والمال والقدرة على الظلم والفساد دون خوف، وكان من أخص صفاتهم السيئة إظهار القوة على من تحت أيديهم، والذلة والاستكانة لمن فوقهم، مما جعل أجيالًا عدة من شعبنا غير قادرة على الحوار أو الاجتماع إلا في ظل الخوف والسلاح، وعلى فرض أنهم اجتمعوا فإن نسبة ممن تخلقوا بأخلاق البعث يمنعون استمرار اجتماع الناس على الخير بما صُنعوا عليه من فساد أو انتهازية وقدرة على إسقاط المخلصين وصناعة المكائد للتخلص منهم، وقد عانى شعبنا الأمرَّين من هؤلاء، كما عانت الثورة في كثير من مؤسساتها الكثير الكثير من هذه المنتجات البعثية المصنعة في شعبه الحزبية ومؤسساته الموبوءة.

تحميلهم مسؤولية أخطائهم:

صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدر الرجال القدوة ويحميهم من تطاول المجتمع عليهم ويستمع لآرائهم ويمدحهم بخير ما فيهم، ولكنه في مقابل ذلك كان يحاسب المخطئ منهم ويحمله مسؤولية أفعاله؛ إذ الأمر يحتاج إلى الحكمة في الترغيب والتوجيه والمكافأة أو الترهيب والعقوبة لكي لا تغتر النفس الإنسانية وتنسى حدودها فتسقط.

كان أبو ذر رضي الله عنه قدوةً في المجتمع الإسلامي، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم غضب منه أشد الغضب عندما عير بلالًا بسواده وقال له: (يا أبا ذر، إنك امرؤ فيك جاهلية)، وغضب على الحبِّ بن الحب أسامة بن زيد عندما قتل رجلًا مشركًا نطق بالشهادة والسيف فوق رأسه، وغضب منه حينما شفع في إسقاط حد السرقة عن المرأة المخزومية حتى تمنى أسامة لو أسلم من جديد ليغفر الله له خطأه، وسحب الراية من يد سعد بن عبادة حينما قال في فتح مكة: (اليوم يوم الملحمة)، وقبل ذلك في غزوة أحد استمع لهم وخرج إلى المعركة تحت رغبتهم وحملهم مسؤولية اختياراتهم وكانت التكلفة قاسية لم ينسوها طوال حياتهم في السلم أو الحرب.

توجيههم إلى تحصيل أنواع من العلوم والمعارف:

إن من أهم ما يميز القدوة الحسنة إضافة لأخلاقه وحسن سلوكه العلم، فيكون قدوة لمن حوله وهاديًا لهم ومنقذًا من الجهالة، وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم أيما حرص على حث صحابته الكرام على التعلم، ليكونوا قدوة في العلم كما هم قدوة في الدين والأخلاق، فحرص من مطلع تأسيس الدولة المسلمة أن يتعلم الناس صغارًا وكبارًا، فجعل فداء الفقراء من أسرى بدر تعليم أطفال المسلمين القراءة والكتابة، وحث زيد بن ثابت على تعلم اللغة، وحث عائشة وغيرها من أمهات المؤمنين على تعلم كثير من الوصفات الطبية، وطلب عائشة لمشاهدة الأحباش في المسجد لتتسلى وتنقل لمن بعدها أساليب حربهم، ودربها على الفتيا حتى غدت مخزنًا من مخازن العلوم الإسلامية، ودعا لأبي هريرة بقوة الذاكرة فكان إذا سمع حديثًا لم ينسه، وكان حَثُّهُ على العلم شاملًا صحابته الكرام كلهم رضوان الله عليهم أجمعين.

أساليب نبوية أخرى في صناعة القدوة:

إن ما ذكرته آنفا من الأساليب النبوية في صناعة القدوة الحسنة يمثل أبرز معالم هذا الطريق الدقيق، ولدى البحث والتفتيش الدؤوب في السنة النبوية سنجد أساليب أخرى مهمة استخدمها النبي صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه وورثها للعلماء والمربين من أمته، من هذه الأساليب: تدريب صحابته الكرام على القيادة والتنظيم بتحميلهم بعض المسؤوليات كما فعل مع النقباء في بيعة العقبة، وكما كان يوجههم في كل سرية أو بعث يرسله، حتى غدا كل فرد من أمراء المسلمين في عصره قادرا على تأسيس دولة وصناعة جيش وقيادة أمة.

ومنها أيضا: تدريبهم على الطاعة والانتظام وتحمل المسؤولية في حال كانوا رؤساء، كما عودهم على الطاعة في حال كانوا مرؤوسين، وجعل همهم في كلا الحالين رضا الله، وفي هذا الباب كثير من الأحاديث التي تحث على طاعة الأمير في غير معصية الله ولو كان عبدًا أسود، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يولي القيادة بعض صغار السن بوجود الكبار تهذيبًا لنفوسهم، لتتعلم الطاعة والعمل لله ولخدمة دينه وعباده تحت كل الظروف والشروط، وهذا من أهم ما يجب أن يتوفر في القدوة الصالحة اليوم، ألا وهو العمل الصالح والاستقامة تحت كل الظروف والضغوط، لا أن يكون قدوة حسنة عندما يعطيه المجتمع ما يريده من جاه وقيادة، ويسوء حاله حينما يفقد منصبه، وكم في مجتمعنا من علماء وقادة قدموا خدمات جليلة عندما أُعطوا ما يتمنون من جاه واحترام، ولجؤوا إلى السلبية والانكفاء أو إلى تجاوز الحد واتهام الآخرين وتنقص جهودهم حينما فقدوا المناصب التي يشغلونها أو لم يحصلوا على ما كانوا يصبون إليه، والأنكى من ذلك كله أن يلجؤوا إلى الخيانة والعمل مع الأعداء، ولهذا الباب نماذج معروفة في ثورتنا السورية بين القيادات السياسية أو العسكرية أو المدنية، نسأل الله الإخلاص والثبات.

المصدر : العدد الرابع من مجلة مقاربات التي يصدرها المجلس الإسلامي السوري 

تنظر الحلقة الثانية هنا 

(1) محمد فتحي، "فنّ صناعة الرموز خطوة بخطوة"، ص: 21

(2) الإمام العيني محمود بن أحمد بن موسى، أبو محمد بدر الدين الحنفي: أصله من حلب، ولد في عينتاب وتوفي بالقاهرة، (762-855 هـ) انظر: [السيوطي، "نظم العقيان"، 1: 174].

(3) العيني، "عمدة القاري شرح صحيح البخاري". (بيروت: دار إحياء التراث العربي)، 16: 238

(4) رواه الإمام أحمد في المسند، رقم (12904)، وابن ماجه، رقم (154) والترمذي، رقم (3790) والحاكم في المستدرك، رقم (5784)، واللفظ لابن ماجه.

(5) رواه الترمذي، رقم الحديث (3805)، والحاكم في المستدرك، رقم الحديث (4456).

(6) رواه البخاري، رقم الحديث (3746).

(7) رواه مسلم والترمذي.

(8) البخاري.

(9) رواه أحمد وابن حبان.

(10) رواه أبو داود والترمذي وأحمد.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين