تصحيح التصحيف في الحديث الشريف

التصحيف هو: الخطأ في القراءة من الصحيفة. فهو مشتق من الصحيفة. لأن كلّ من أخذ من الصحف (الكُتُب)، ولم يتلقّ النص سماعا من الشيوخ، فهو عُرضة للغلط في قراءته.

وكلنا أو جُلنا ذلك الرجل.

ومعرفة التصحيف في الحديث باب من أبواب علوم الحديث لا يَستغني طالب العلم عنه، لكثرة ما وقع في الأحاديث من التصحيف، إن كان في متونها، أو كان في أسماء رجال أسانيدها.

وكلامي في هذا البحث مختصٌّ بتصحيح بعض التصحيف في متون الحديث، مما سبق لي أن سمعته أو قرأته أو وقعتُ فيه.

وما يزال التصحيف في الحديث يزِلُّ عن ألسنة المتحدثين من الخطباء والوعاظ والمحاضرين، أو يتسرّب إلى أقلام الكُتّاب، أو القائمين على تحقيق الكتب الحديثيَّة، أو غير الحديثيَّة المشتملة على الأحاديث الشريفة في ثناياها، الذين يضبطون الكلمات الحديثيَّة على ما يظنونه صوابا، وقد لا يحالفهم الصواب في ذلك.

وأذكر أني حضرتُ مرة مجلسا عُقِد احتفاء بأحد المشايخ من طلبة العلم، فلما أُعطِيت الكلمة للشيخ المحتفَى به، ارتجل كلمة وعظية جرّه الكلام فيها إلى الاستشهاد بأحاديث، صحَّف في اثنين منها.

الأول: في قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء المصيبة الذي روته أم سلمة رضي الله عنها: (اللَّهُمَّ اؤجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا...) رواه مسلم. 

قرأه الشيخ: اللهم أَجِرني في مصيبتي... 

فحوّل معناها من طلب الأجر إلى طلب الجوار.

الثاني: في قول السيدة خديجة رضي الله عنها، في حديث بدء الوحي، وهو في الصحيحين: (إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ.... وَتَقْرِى الضَّيْفَ.... فقرأه: وتُقرِئُ الضيف.) فحولها من القِرى بمعنى الضيافة، إلى الإقراء بمعنى تعليم القراءة، كأنها من الفعل: أَقْرأَ يُقرئُ.

فلما انفض المجلس قمتُ إليه كالمسلِّم عليه، فأدنيت وجهي من وجهه، ونبَّهته إلى تصحيح ما وقع فيه من تصحيف.

والمحذور من التصحيف في الحديث الشريف أمران خطيران:

الأول: أن ذلك التصحيف قد يُخِلّ بالمعنى فيَحرِفه عن وجهه أو يقلبه أو يفسده فيجعل علمه جهلا.

الثاني: أنه تقوُّلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن المصَحِّف نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقله. 

والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم ليس ككذب على أحد، كما جاء في حديث الصحيحين.

قال الإمام الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح في مقدمته، في النَّوْع السَّادِس وَالْعِشْرينَ من علوم الحديث، فِي صِفَةِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ، وَشَرْطِ أَدَائِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ: 

يَنْبَغِي لِلْمُحَدِّثِ أَنْ لَا يَرْوِيَ حَدِيثَهُ بِقِرَاءَةِ لَحَّانٍ أَوْ مُصَحِّفٍ. ثم روى بسنده عَنْ أَبِي دَاوُدَ السِّنْجِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَصْمَعِيَّ يَقُولُ: إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ، إِذَا لَمْ يَعْرِفِ النَّحْوَ، أَنْ يَدْخُلَ فِي جُمْلَةِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ" لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَلْحَنُ، فَمَهْمَا رَوَيْتَ عَنْهُ وَلَحَنْتَ فِيهِ كَذَبْتَ عَلَيْهِ. اهـ

وقد جمعتُ في هذا البحث عشرة أحاديث مما يقع فيه التصحيف، أعرضها على النحو الآتي:

الحديث الأول: لا تقُلْ في الحديث: "قَيد شِبر" بفتح القاف. فإن صوابها بكسر القاف في حديث الصحيحين: «مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ»

فإنها بالفتح: ما يَضُمّ العضدين. وجمعه: قُيود.

وبالكسر: بمعنى القَدْر. 

قال في القاموس: والقِيدُ بالكسرِ: القَدْرُ. اهـ

الحديث الثاني: لا تقل في الحديث: "لا سبْق" بسكون الباء. فإن صوابها بفتحها في حديث أصحاب السنن الأربعة: «لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ فِي حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ»

فإنها بالسكون: مصدر الفعل: سَبَقَ يَسْبِق.

وبالفتح: الجائزة التي تُعطى للسابق. وهي المقصودة بالنَّهي في الحديث.

قَالَ الخطَّابي: الرِّوَاية الصحيحةُ بِفَتْحِ الباَءِ. اهـ

الحديث الثالث: لا تقل في الحديث: "لخَلوف فم الصائم" بفتح الخاء. فإن الرواية بضم الخاء في حديث الصحيحين:«لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ».

قال الزَّبيدي في تاج العروس، نقلا عن شيخه أبي عبد الله محمد بن الطَّيِّب الفاسيّ: الخُلُوفُ بالضَّمِّ بمعنَى تَغَيُّرِ الفَمِ، هو المَشْهُورُ الذي صّرَّحَ به أَئِمَّةُ اللُّغَةِ. وحكَى بعضُ الفُقَهاءِ والمُحَدِّثين فَتْحَهَا، واقْتَصَرَ عليه الدَّمِيرِيُّ في شَرْحِ الْمِنْهَاجِ، وأَظُّنُّه غَلَطاً كما صرَّح به جَمَاعَةٌ. وقال آخَرُونَ: الفَتْحُ لُغَةٌ رَدِيئَةٌ. واللهُ أَعلمُ. اهـ

الحديث الرابع: لا تقل في الحديث: "تُكفَى همُّك" بالرفع. فإن صوابها بالنصب في حديث الترمذي: «إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ، وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ»

والرفع هنا لا وجه له.

وأما النصب فلأنها مفعول به ثانٍ للفعل "تُكفى" وأما المفعول الأول فقد سدَّ مسدَّه ضمير المخاطب المستتر الذي يقع في محل رفع نائب الفاعل.

الحديث الخامس: لا تقل في الحديث: المِكحَلة. بكسر الميم وفتح الحاء. فإن صوابها بضمهما في حديث سنن أبي داود وصحيح ابن حبان، في قصة الرجل الذي شَهِدَ على نفسِه أربع مرات عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنه أصَابَ امرأةً حراماً، كلُّ ذلك يُعرِضُ عنه، حتى قال له صلى الله عليه وسلم: "حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ " قال: نعم: قَالَ: «كَمَا يَغِيبُ الْمِرْوَدُ فِي الْمُكْحُلَةِ؟.... الحديث.

قَالَ فِي الْقَامُوس: الْمُكْحُلَة مَا فِيهِ الْكُحْل. وَهُوَ أَحَد مَا جَاءَ مِنْ الْأَدَوَات بِالضَّمِّ. اهـ

الحديث السادس: لا تقل في الحديث: "حُلَّة سُيَراء" بضم السين، على وزن عُشَراء، ونُفَسَاء. فإن صوابها: بكسر السين وفتح الياء في حديث الصحيحين عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى حُلَّةً سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ فَلَبِسْتَهَا لِلنَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ».... الحديث.

قال الإمام النووي رحمه الله في شرح مسلم: هي بسين مهملة مكسورة، ثم ياء مثناة من تحت مفتوحة، ثم راء، ثم ألف ممدودة. وضبطوا الحلة هنا بالتنوين على أن سِيَراء صفة. وبغير تنوين على الإضافة. وهما وجهان مشهوران؛ والمحققون ومتقنو العربية يختارون الإضافة. قال سيبويه: لم تأت فِعَلاء صفة. وأكثر المحدثين ينونون. قال الخطابي: حُلةٌ سِيَراء. كما قالوا: ناقةٌ عُشَراء. قالوا: هي بُرودٌ يخالطها حرير، وهي مضلعة بالحرير. وكذا فسرها في الحديث في سنن أبي داود، وكذا قاله الخليل والأصمعي وآخرون؛ قالوا: كأنها شبهت خطوطها بالستور. وقال ابن شهاب: هي ثياب مضلعة بالقز. وقيل: هي مختلفة الألوان. وقال: هي وَشْيٌ من حرير. وقيل: إنها حرير محض. وقد ذكر مسلم في الرواية الأخرى: حلة من استبرق. وفي الأخرى: من ديباج أو حرير. وفي رواية: حلة سندس. فهذه الألفاظ تبيِّن أن هذه الحلة كانت حريرا محضا، وهو الصحيح الذي يتعين القول به في هذا الحديث، جمعًا بين الروايات، ولأنها هي المحرمة. أما المختلط من حرير وغيره فلا يَحرم، إلا أن يكون الحرير أكثر وزنا. والله أعلم. انتهى من شرح النووي على مسلم. [14 /37]

الحديث السابع: لا تقل في الحديث: "...وكُسِرَتْ رُباعيَّته" بضم الراء وتشديد الياء. فإنه صوابها فتح الراء وتخفيف الياء في حديث الصحيحين عن سَهْل بْنِ سَعْدٍ يُحدِّث عَنْ جُرْحِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ؛ فَقَالَ: جُرِحَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ.

قال النووي في شرح مسلم: (وكسرت رَباعِيَته) هي بتخفيف الياء؛ وهي السن التي تلي الثنية من كل جانب، وللإنسان أربع رَباعِيَات. اهـ من شرح النووي على مسلم. [12 /148]

وقال في القاموس: والرَّباعِيَةُ كثَمانِيَةٍ: السِّنُّ التي بينَ الثَّنِيَّةِ والنابِ، جمعه: رَباعِياتٌ. ويقالُ للذي يُلْقيها: رَباعٍ كثَمانٍ. فإذا نَصَبْتَ أتْمَمْتَ وقلتَ: رَكِبْتُ بِرْذَوْناً رَباعِياً.اهـ

ومن هذه المادة ما يأتي في الحديث التالي:

الحديث الثامن: لا تقل في الحديث: " رُبَاعِيًّا" بضم الراء وتشديد الياء. فإن صوابها: "رَبَاعِيًا" بفتح الراء وتخفيف الياء، في حديث مسلم عن أَبِي رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلاَّ خِيَارًا "رَبَاعِيًا". فَقَالَ: «أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً". 

قال ابن الأثير في (النهاية في غريب الحديث والأثر): [لم أجد إلا جملا خِيارا رَباعِياً] يقال للذَّكر من الإبل إذا طلعتْ رَباعيَته: رَباعٌ، والأنثَى رَبَاعِيَةٌ، بالتخفيف. وذلك إذا دخلا في السنة السابعة.

الحديث التاسع: لا تقل في الحديث: "أرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ" بقطع الهمزة وكسر الباء، كأنها من الرباعي "أربَعَ يُرْبِعُ". فإن صوابها "ارْبَعُوا" بوصل الهمزة وفتح الباء لأنها من الثلاثي "رَبَعَ يَرْبَع" كما في حديث الصحيحين عَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، إِنَّكُمْ لَيْسَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا".

قال النووي في شرح مسلم: اربَعوا: بهمزة وصل، وبفتح الباء الموحدة، معناه: ارفُقوا بأنفسكم واخفضوا أصواتكم، فان رفع الصوت إنما يفعله الإنسان لبعد من يخاطبه ليسمعه؛ وأنتم تدعون الله تعالى، وليس هو بأصم ولا غائب، بل هو سميع قريب، وهو معكم بالعلم والإحاطة. ففيه الندب إلى خفض الصوت بالذكر إذا لم تَدعُ حاجة إلى رفعه؛ فإنه إذا خفضه كان أبلغ في توقيره وتعظيمه، فإن دعت حاجة إلى الرفع رفع، كما جاءت به أحاديث. اهـ من شرح النووي على مسلم. [17 /26]

الحديث العاشر: لا تقل في الحديث: "لعَقَ أَصَابِعَهُ" بفتح العين من الفعل، كأنها من الباب الثالث من أبواب الثلاثي (فعَل يَفعَل) وليست كذلك، فإنها من الباب الرابع منه (فعِل يفعَل). فصوابها بكسر عين الفعل "لعِق" كما في حديث مسلم عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلاَثَ."

قال ابن الأثير في النهاية في مادة {لعِق} ... ومنه الحديث: [كان يَأكُل بثَلاثِ أصَابع فإذا فَرَغ لَعِقَها...] أي: لَطع ما عَلَيها من أثَرِ الطَّعام. وَقَدْ لَعِقَهُ يَلْعَقُهُ لَعْقاً. اهـ من النهاية في غريب الأثر.

قلت: قوله: لَطَعَ ما عليها. أي لَحِسَ. بكسر الحاء، على وزن لَعِق، ومعناها.

قال في القاموس: اللَّطْعُ : اللَّحْسُ. اهـ.

والله أعلم.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين