إسهام المدرسة المالكية في الفكر التربوي الإسلامي (3)

التأسيس التربوي للمدرسة المالكية

إذا كان للفقه على وجه العموم، كما عرضنا في الجزء السابق إسهامات ملحوظة في حركة الفكر التربوي الإسلامي، فإنَّ المدرسة المالكية -بصفة خاصة- كانت لها بصماتها التي لا تخطئها عينُ بَاحث، وكانت لها ملامحها التي تختصُّ بها يستطيع المراقب أن يلاحظها بقليل من البحث والتأمل، وفي تصورنا فإنَّ حسن بيان ما قامت به المدرسة المالكية في الحقل التربوي يستوجب البدء بمرحلة التأسيس، ووضع اللبِنات الأولى على يد المؤسس: الإمام مالك المرجَّح مولده عام 93 للهجرة، وفي تناولنا لهذا الجزء، لا نقصد أن نتتبع مسيرة حياة، ولا أن نتوقَّف أمام ما تناوله من مسائل وقضايا فقهيَّة، فذلك يخرجنا من نطاق الدراسة، وإنما سوف نتوقَّف أمام ما يكون له من دلالة ومضامين وبذور في التأسيس للمدرسة المالكيَّة التربويَّة.

وأول ما يمكن أن يَلفت انتباهنا ذلك الرحم الأسري الذي وجد فيه مالك، فما من اتجاه في العلوم التربويَّة والنفسيَّة إلا ويضع (الأسرة) في المقام الأول من حيث قوة التأثير والقدرة على التشكيل والتربية والتنشئة، وإذا كان كثيرون، في تلك السنوات البعيدة قد نشأوا في بيئة فقيرة ثقافيّاً وعلميّاً فاعتمدوا على أنفسهم في التحصيل المعرفي، فإنَّ مالكاً كان محظوظاً حقّاً إذ اجتمع لديه العزم والإرادة والرغبة والقدرة على التحصيل المعرفي، وفي الوقت نفسه، توافرت له ظروف مُواتية تتَّسم بالإثراء المعرفي.

وعلى سبيل المثال، فقد كان جَدُّ مالك، مالك بن أبي عامر من كبار التابعين وعلمائهم، روى عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم. [محمد أبو زهرة: مالك، القاهرة، الأنجلو المصرية، 1952، ط2، ص28].

وإذا كان أنس أبو مالك رضي الله عنه لم يكن مشتغلاً كثيراً بالحديث، فإن أعمامه كان لهم قدر طيب من هذا.

ثم، ماذا نقول في المكان الذي نشأ فيه؟ إنَّه المدينة المنورة، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومقصد هجرته، وموطن الشرع، وهي المكان الذي شهد تأسيس البنية الأساسيَّة للأمَّة الإسلاميَّة ودولة الإسلام، وخلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، مما لابد أن يكون له أثره في التكوين الشخصي لإمامنا المؤسِّس.

وهو يبدأ خطوات تعلمه بتلك الخطوة التأسيسية التي أصبحت معلماً أساسيّاً قروناً عدة لكل مُتعلِّم مسلم، حيث الاختلاف إلى (كتاب) يتعلَّم فيه القرآن الكريم، قراءة وحفظاً، ويحدد الخولي الكتاب بأنَّه مَكتب (علقمة بن أبي علقمة المدني)، كانت أمه (مرجانة) مولاة لعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وهو من موالي التيميين، الذين حالفهم جد مالك ووالاهم، وكان مكتبه يعلم فيه أكثر من حفظ القرآن، إذ كان يعلم العربية، والنحو، والعروض. [أمين الخولي: مالك، ص 69].

ثم كان عليه بعد ذلك أن يستجيب لنداء أمه الواعية التي طلبت منه أن يتهيأ لطلب المرحلة التالية من العلم، استجابة للتوجه التعليمي العام في هذه الفترة بصفة خاصة، ألا وهي الإقبال على تعلم الفقه، بحيث يقرُّ في ذهنه منذ البدايات أن طلب العلم لابد أن يكون لنفع يحصل عليه ويفيء به على آخرين، وما غير الفقه يمكن أن يجد فيه هذا؟

كان المقصد الذي نصحت به الأم أن يطلب العلم عند ربيعة، تقصد ربيعة الرأي، ليتعلَّم من أدبه قبل علمه، فكأنها بذلك تضع يدها، منذ البداية على تلك القاعدة التربويَّة التي لا تبلى أبداً بمرور القرون، ولن تبلى ما بقيت تربية واستمرَّ تعليم، والتي نعبر عنها بقولنا (الأدب فضلوه على العلم)! [أمين الخولي: مالك، ص 79].

لقد كانت المدينة بالفعل مهد العلم حقَّاً وصدقاً، فكان بها في زمن مالك من التابعين عدد يجد فيهم مالك الناشئ المعين الذي لا ينضب، والمنهل العذب المستساغ الذي لا شائبة فيه، فكان أن تتلمذ على ابن هرمز عدة سنوات لازمه فيها يأخذ عنه العلم، مع التنبيه إلى أنَّ البعض يخلط بين ابن هرمز هذا (أبو بكر ابن يزيد المتوفى سنة 148هـ) الفقيه، وآخر يحمل الاسم نفسه كان نحويّاً.

لكن أي علم أخذه الإمام من ابن هرمز؟ لو تأملنا عبارة الإمام عن أستاذه فربما وضعنا أيدينا على الإجابة عن هذا السؤال، إجابة ترجيح لا إجابة توكيد، فقد قال عنه: (كان أعلم الناس بالردِّ على أهل الأهواء وما اختلف فيه الناس) [محمد أبو زهرة: مالك، ص 34]، فهذه العبارة تفيد أنَّه كان يتلقى عليه اختلاف الناس في الفتيا والفقه، ويتلقى عنه الرد على أهل الأهواء، ولعل هذا يفسر السبب الذي جعله لا ينشر كل علمه بين الناس، وقد ذكر ذلك، فإنَّ مالكاً كان يقتصر فيما يلقيه على تلاميذه على الحديث، والفتيا في المسائل الفقهية، ولا يعدو هذين الأمرين.

ويبدو أنَّ عناية ابن هرمز بالرد على الأهواء، وجده في ذلك، على ما قيل، وأنه كان يسد على أهل الأهواء، إنما كان ذلك كله منه صدى لشعوره الحي بالواجب الاجتماعي وخشيته من خطر تلك الأهواء والبدع على المجتمع الذي يعيش فيه، ويشعر بواجبه نحوه، ذلك الشعور الحي الذي نرجوه اليوم لكل ذي علم في مجتمعنا، ولا سيما أصحاب العلم الديني، الذين كان ابن هرمز في سلفهم مثلاً صالحاً، وأُسوة حسنة حقّاً.

ومن هنا فقد كان لا يحب الجدل فيما أثاره المعتزلة والجبرية والمرجئة والخوارج من أمور تتشابك فيها الآراء وتتحير فيها العقول، وتتنازع فيها الفرق، لا عن جهل بما كانوا يقولون، وإنما عن دراية وعلم؛ لأنه كان مُتيقناً أنَّ مثل هذه المسائل غالباً ما لا يستطيع المجادل فيها أن يصل إلى قول فصل يَأمن له ويطمئن قلبه.

والمبدأ التربوي الذي يتضمَّنه هذا هو أهمية الأخذ بكل ما يَقتضيه التفكير السليم من صرامة المنهج ودقَّة الأداة، والتحوط والحذر في الحكم، وهو الأمر الذي نشكو منه أشد ما تكون الشكوى، فكثرة الناس تميل إلى القفز على المقدمات لتصل إلى الحكم، لكن ما ورثه مالك عن ابن هرمز: أن يورث جلساءه قول: لا أدري، حتى يكون ذلك أصلاً في أيديهم يفزعون إليه، فإذا سئل أحدهم عما لا يدري قال: لا أدري، ومن المشهور قول: (من قال لا أدري فقد أفتى).

بل إننا نفتقد مثل هذه الدقة المنهجيَّة في حياتنا التعليميَّة إلى يَومنا هذا، فالتلاميذ كثيراً ما يتساءلون، ويتطرَّقون من موضوع إلى آخر، وأحياناً ما يُوجِّهون أسئلة إلى معلمهم (خارج المقرَّر) أو المساق، وهنا ينسى معلمون هذا المبدأ العظيم، ويسارعون بالإجابة حيث لا يعلمون؛ لأنهم ينطلقون من موقف يتصورون فيه أنهم وحدهم سلطة المعرفة ومصدرها، ويتصور الواحد منهم أن عدم الإجابة أمر يَشِينه أمام تلاميذه!.

ثم نجد أنفسنا أمام آية نادرة حقَّاً في أدب طالب العلم، وصبره على مشاق الطلب وحرصه عليه ودأبه، مهما كلَّفه هذا من جهد وعرق ونصب، فلنستمع إليه يقول عن موقف طلبه المعرفة النبوية على يد نافع مولى ابن عمر بن الخطاب: (كنت آتي نافعاً نصف النهار، وما تظلني الشجرة من الشمس أتحين خروجه، فإذا خرج أدعه ساعة، كأني لم أره، ثم أتعرَّض له فأسلم عليه، وأدعه، حتى إذا دخل أقول له: كيف قال ابن عمر في كذا وكذا، فيجيبني، ثم أحبس عنه، وكان فيه حدة) [محمد أبو زهرة: مالك، ص 35].

وهكذا، في تلك البلاد شديدة الحرارة، يخرج ظهراً حيث تبلغ الحرارة ذروتها، إلى منزل نافع، وهو في البقيع خارج المدينة يترقب خروجه من منزله، ثم يصحبه إلى المسجد، حتى إذا استقرَّ نافع واطمأن ألقى عليه أسئلة في الحديث والفقه، فأخذ عنه حديثاً كثيراً، وتلقى عليه فتاوى ابن عمر، وابن عمر هو من هو في فقه الأثر، والتخريج عليه، واستنباط الأحكام على ضوء الحديث النبوي الشريف.

ولأنَّ الكدح العلمي ليس حالاً عارضاً، وإنما هو (طبع) و(سجيَّة) نَرى مَواقف مماثلة، كلها تشير إلى مدى حرصه على طلب الحديث، فقد كان حريصاً على تلقي الأحاديث من ابنِ شهاب الزهري (توفي سنة 123 هـ على وجه التقريب) فيصل إلى بيته أيَّاً كانت حالة حرارة الجو، وهو لا يريد إزعاجه، فيظل منتظراً خروجه، يروى في ذلك: (شهدت العيد، فقلت: هذا يوم يخلو فيه ابن شهاب، فانصرفت من المصلى، حتى جلست على بابه، فسمعته يقول لجاريته: انظري من الباب، فنظرت، فسمعتها تقول: مولاك الأشقر مالك، قال: أدخليه، فدخلت، فقال: ما أراك انصرفت بعد إلى منزلك! قلت: لا، قال: هل أكلت؟ قلت: لا، قال: اطعم، قلت: لا حاجة لي فيه. قال: فما تريد؟ قلت: تحدثني، قال لي: هات، فأخرجت ألواحي، فحدثني بأربعين حديثاً، فقلت: زدني، قال: حسبك، إن كنت رويت هذه الأحاديث، فأنت من الحفاظ، قلت: قد رويتها، فأخذ الألواح من يدي، ثم قال: حدث، فحدثته بها فردَّها إليَّ، وقال: قم، فأنت من أوعية العلم)! [محمد أبو زهرة: مالك، ص 36].

وقد رسَّخت هذه المواقف التعليميَّة، والدروس التربويَّة في مالك، مهارة التحري الدقيق، ونقد الرجال، ومن هنا لم نكن نجده يأخذ الحديث عن كل من يحمله، وإنما كان يأخذه من الثقات العدول الضابطين، العارفين لما يحدثون به، المرضيين عنده علماً وديناً، حتى صار عند أئمَّة الحديث والجرح والتعديل ميزاناً فيمن روى عنه من الرجال، وفيما روى من الأحاديث، فمن ذلك:

قول عبد الرحمن بن مهدي: (ما أقدم على مالك في صحة الحديث أحداً)، وقال أيضاً: (ما بقي على وجه الأرض أحد آمن على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من مالك بن أنس).

وقول الإمام الشافعي: (إذا جاء الحديث عن مالك فاشدد يديك به).

وابن عيينة إذ يقول: (كان مالك ينتقي الرجال ولا يحدث عن كل أحد) [بدوي عبد الصمد الطاهر: منهج كتابة الفقه المالكي بين التجريد والتدليل، دبي، دار البحوث للدراسات الإسلاميَّة وإحياء التراث، 2002، ص44].

ومما يتصل بهذا أنَّ مالك عوَّد نفسه أن يكون مقلاًّ من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد، بحيث لا يستحب الإكثار منه، ولم يقتصر على إلزام نفسه بذلك، بل كان حريصاً على أن يربي تلاميذه على العادة نفسها، وما كان ذلك ليكون إلا لعوامل تتصل بنهجه التعليمي والتربوي، منها أنه كان يتخوَّف من الوقوع في الخطأ عند الإكثار من الحديث عن رسول الله، فقد روى عنه ابن وهب أنه قال: إذا كثر الكلام كان فيه الخطأ، وإذا أصيب الجواب قلَّ الخطاب، وقال ابن وهب أيضاً: قال لي مالك: إنَّه لم يكن يسلم رجل حدَّث بكل ما سمع، ولا يكون إماماً أبداً. ومنها رغبته في أن يتعلم السامعون منه القليل ويتفقَّهوا فيه؛ لأن الكثير ينسي بعضه بعضاً. [بدوي عبد الصمد الطاهر: منهج كتابة الفقه المالكي بين التجريد والتدليل، دبي، دار البحوث للدراسات الإسلاميَّة وإحياء التراث، 2002، ص58]

وقد تنبَّه عدد غير قليل من المربِّين في العصور الإسلاميَّة إلى هذا المبدأ، فشدَّدوا على ضرورة ألا يَنتقل المتعلم من مَوضوع إلى غيره إلا بعد أن يتأكد أنَّه قد أصبح مالكاً زمامه بإتقانه واستيعابه والإحاطة الواعية المتعمقة له، ووضح هذا لدى ابن خلدون بصفة خاصَّة [مقدمة ابن خلدون، طبعة الشعب، القاهرة، د. ت]، وابن خلدون -كما هو معروف- من علماء المغرب العربي حيث كان المناخ في مجمله مشبعاً بالمذهب المالكي.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم

الحلقة السابقة هـــنا

[وللبحث تتمة في الجزء التالي]

المصدر: مجلة المسلم المعاصر العدد 107، شوال، ذو القعدة، ذو الحجة 1423 هـ.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين