الهجرة وحاضر المسلمين(7- 15)

السَّعة التي يدركها المهاجر

ثم إن هذا الذي يتزلَّف للمهاجر في سبيل الله تعالى هو بعض ما يُستنكَه من قوله تعالى :[وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا] {النساء:100} ومن قوله تعالى : [وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ] {النحل:41}.قال القرطبي في تفسيره لمعنى السعة:

( أي في الرزق ، قاله ابن عباس رضي الله عنه والربيع والضحاك، وقال قتادة: المعنى سعة من الضلالة إلى الهدى، ومن العَيلة إلى الغنى، وقال مالك: السَّعة سَعَة البلاد، وهذا أشبه بفصاحة العرب، فإنَّ بسعة الأرض ، وكثرة المعاقل تكون السعة في الرزق، واتساع الصدر لهمومه وفِكره ، وغير ذلك من وجوه الفرج ، ونحو هذا قول الشاعر:

وكنت إذا خليلٌ رامَ قطعي=وجدت وَرايَ منفسِحاً عريضاً

وقال آخر: 

لكان لي مُضْطربٌ واسع=في الأرض ذات الطول والعرض)اهـ(1).

وقال الألوسي عند قوله: [وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ] [النساء: ١٠٠].

( ترغيب في المهاجَرة، وتأنيس لها، والمراد من المراغم: المتحوَّل والمهاجر، كما روي ذلك عن ابن عباس والضحاك وقتادة وغيرهم، فهو اسم مكان، وعبر عنه بذلك تأكيداً للترغيب ، لما فيه من الإشعار بكون ذلك المتحوَّل الذي يجده يصل فيه المهاجر ، إلى ما يكون سبباً لرغم أنف قومه، الذين هاجرهم. وعن مجاهد : إنَّ المعنى يجد فيه مُتزَحزحاً عما يكره ، وقيل: متَّسَعاً بما كان فيه من ضيق المشركين، وقيل: طريقاً يراغم بسلوكه قومه، أي : يفارقهم على رغم أنفوهم، والرغم: الذل والهوان. وأصله: لصوق الأنف بالرغام، وهو التراب) اهـ(2).

وهكذا يُنتضى أنْ قد أنجب إطلاق لفظ السَّعة ما دندنت حوله أقوال المفسرين ، وغير ذلك مما قد أشرنا إليه، إذ قد يدخل في إطاره مَعَانٍ كثيرة ، تتولَّد لدى المهاجر. 

أرض الله واسعة:

وأرض الله واسعة، فيها مَفارج جمَّة ، مما يبتغي المهاجر ، ويحقق متطلباته، وفيها قَسَمات وشذرات، مما أشرنا إليه، من الفكر والسلوك والعادات، واختلاف الأجواء ، قال تعالى:[قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ] {الزُّمر:10} وقال أيضاً: [يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] {العنكبوت:56}.

وقد نعى الله على القاعدين عن الهجرة قعودَهم عن اللحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم ، بقوله جلَّ شأنه:[إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] {النساء:97}.

قد يوظف كلاً حسبما تروَّجت له قريحته:

فعلى صعيد هذه السعة الموعود بها يتبلج كثير من التزلُّقات ، ويتدفق تيار الفهوم والمعاني والألوان، ويُستدرك مدى ما يدخره الله تعالى للمهاجِر من الأجر بمقدار معاناته ومكابدته.

إذ قد تغري به مناطاته، أن يُوَظف كلاً حسبما تروَّجت له قريحته.

فإيّاي فاعبدون:

وبذلك يتحقق معنى العبادة الوارد في قوله تعالى: [فإيّاي فاعبدون] [العنكبوت: ٥٦]. على أتمِّ وجه، حيث تؤمُّ بمفهومها الشامل، إلى تطبيق شرع الله تعالى ، والالتزام بما أمر، والانتهاء عما نهى، في أي أرض حلَّ بها، كلما وجد ملاذاًُ لذلك، حسب طاقته.

قال النسفي في هذا المرام، أي عند قوله تعالى:[يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ] {العنكبوت:56} :(إن المؤمن إذا لم يتسهَّلْ له العبادة في بلد هو فيه، ولم يتمشَّ له أمر دينه، فليهاجر عنه إلى بلد يقدِّر أنه فيه أسلم قلباً وأصحُّ ديناً وأكثر عبادة.) اهـ(3).

وقال الألوسي: ( نزلت ـ على ما روي عن مقاتل والكلبي ـ في المستضعفين من المؤمنين بمكة، أمروا بالهجرة عنها، وعلى هذا أكثر المفسرين، وعمَّم بعضهم الحكم ، في كل من لا يتمكن من إقامة أمور الدين، كما ينبغي في أرض ، لمُمانَعةٍ من جهة الكَفَرة أو غيرهم، فقال: تلزمه الهجرة، إلى أرض يتمكن فيها من ذلك، وروي هذا عن ابن جبير وعطاء ومجاهد، ومالك بن أنس)اهـ(4).

وكأيِّن من دابة لا تحمل رزقها:

وحين ظنَّ بعض المسلمين آنذاك أن مصدر الرزق قد لا يُنْجد في المهاجَر، ولا يسعف في مُتَحوَّلِهِم ، أبى الله جلَّ شأنه عليهم ذلك، وأنزل على إثرها، من السورة نفسها قوله الكريم: [وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ] {العنكبوت:60}.

أي: فما برحت هذه ـ وهي باحثة عن رزقها، على ضعفها وتوكلها ـ وإياكم ـ على قوتكم واجتهادكم ـ في منزلٍ سواءٍ: في أن رزقها وإياكم هو من عند الله عزَّ وجل ، لأن الكل مستمد أسباب رزقه من لدنه سبحانه ، فهو المسبب لها وحده ، فلا تأخذكم تباريح الخوف على المعاش بالمهاجرة(5).

لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله:

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تَغْدو خِماصاً وتروح بطاناً) أخرجه الترمذي ، وقال : حديث حسن. ومعناه: أنها تذهب أول النهار جياعاً ضامرة البطون، وتروح آخر النهار إلى أوكارها شباعاً، مُمتلئة البطون (6).

الحلقة السادسة هنا

* * *

=====-

(1) تفسير القرطبي ج3،ص348. 

(2) تفسير روح المعاني : ج5،ص127. 

(3) مجمع التفاسير: ج5،ص26. 

(4) تفسير روح المعاني ج21ص9. 

(5) روح المعاني : ج21،ص11، وتفسير البيضاوي من مجمع التفاسير، ج5،ص27. 

(6) تفسير الخازن من مجمع التفاسير : ج5،ص27.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين