مَنْهَجِيَّةُ التَّعامُلِ مَعَ أَحادِيثِ الفِتَنِ (3)

المناهج المخطئة في التعامل مع أحاديث الفتن (3)

نجد لدى قلة من الأقدمين وكثير من المحدثين نماذج للخطأ في التعامل مع أحاديث الفتن وعلامات الساعة؛ ذلك أنهم استندوا في ذلك إلى قواعد خاطئة، أو حكَّموا العقل فيما لا حكم له فيه أحيانًا، وسأذكر صورًا من تلك الأخطاء ونماذج لها، فمن تلك الأخطاء:

1- تكذيب النصوص الصحيحة أو إنكارها.

مثال ذلك ما فعله ابن خلدون ومن تبعه من المعاصرين من إنكاره لأحاديث المهدي مع أنها صحيحة رواها ما يزيد على ثلاثين صحابيًّا، وهي مرويَّة في صحيحي ابن حبان وابن خزيمة ومستدرك الحاكم، وفي سنن أبي داود وابن ماجة والترمذي والنسائي والدارقطني، وفي المسانيد كمسند أحمد والبزار وأبي يعلى وعبد بن حميد وأبي عوانة، وفي مصنفي ابن أبي شيبة وعبدالرزاق الصنعاني ومعاجم الطبراني الثلاثة، وفي كتب الرجال والسير والتاريخ كتاريخ ابن عساكر وابن الجوزي وطبقات ابن سعد ودلائل النبوة للبيهقي، ورواها ابن جرير الطبري في تهذيب الآثار، واحتج بها كبار الأئمة من الفقهاء والمحدثين والمفسرين والمؤرخين، بل أفردها بعضهم بالتصنيف كنعيم بن حماد وأبي داود السجستاني وأبي نعيم الأصبهاني وابن كثير وأبي زرعة العراقي والسخاوي والسيوطي وابن حجر الهيتمي والملا علي القاري والبرزنجي والصنعاني والسفاريني والشوكاني ومحمد صديق خان وغيرهم، بل جزم بصحتها كثير منهم كابن تيمية في (منهاج السنة النبوية)، ومثله القاضي عياض في (الشفا)، والقرطبي المفسر وابن حجر في (فتح الباري)، وجزم الشوكاني والبرزنجي والسفاريني والكتاني بتواترها (التواتر المعنوي)، قال الشوكاني: (والأحاديث الواردة في المهدي التي أمكن الوقوف عليها منها خمسون حديثًا، فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر، وهي متواترة بلا شك ولا شبهة، بل يصدق وصف التواتر على ما دونها على جميع الاصطلاحات المحررة في الأصول)([50]) وقال المحدث صديق حسن خان القنوجي: (والأحاديث الواردة في المهدي -على اختلاف رواياتها- كثيرة جدًّا تبلغ حدَّ التَّواتر)([51]) ويقول المحدث الكتاني: (الأحاديث الواردة في المهدي المنتظر متواترة)([52]) وليس المجال هنا لسرد هذه الأحاديث ومناقشة المخالفين وبيان الفرق بين مهدي السنة ومهدي الشيعة فهذا يحتاج إلى بحث خاصّ.

2- رد بعض الأحاديث الصحيحة بدعاوى مختلفة.

من ذلك رد حديث الزبير بن عدي: أتينا أنس بن مالك رضي الله عنه فشكونا إليه ما نلقى من الحجاج فقال: ((اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شرٌّ منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيّكم صلى الله عليه وسلم))([53]) فمع أنه حديث صحيح ردَّه بعضهم بحجة أنه يوقع في اليأس والإحباط، وكذلك احتجوا بأنّ الواقع التاريخي يخالفه؛ فقد كان عهد عمر بن عبد العزيز خيرًا من العهد الذي قبله باتّفاق، وسيأتي عهد عيسى عليه السلام والمهدي فيكون خيرًا من زمن الدجال والذي قبله، ولقد أورد هذا الإشكال ابن حجر([54])، فبين أن المقصود بالزمان المذكور عصر الصحابة لأنهم هم المخاطبون بهذا اللفظ ((لا يأتي عليكم))، وهذا ما حمل ابن حبان على القول في صحيحه: إن هذا ليس على عمومه بل هو من العام المخصوص، وحمله الحسن البصري على الأغلب، أو يحمل على المجموع لا الجميع؛ فقد كان في عهد الحجاج جماعة من الصحابة.

3- مصادمة القطعي من النصوص.

من الصور الخاطئة للتعامل مع أحاديث الفتن وأشراط الساعة الاعتماد على روايات تخالف القطعي من أمور ديننا، مثال ذلك حديث أناسٍ عن عمر الدنيا وميعاد قيام الساعة، سواء أكان اعتمادهم على الأحاديث الواهية أو حساب الجمّل أو الرؤى أو التأويل، فهذا البحث مرفوض من أصله لأنه يناقض القطعيّات في الكتاب والسنة ثبوتًا ودلالةً؛ ذلك أن الله استأثر بعلم الساعة ولم يُطلع عليها ملكًا مقرّبًا ولا نبيًّا مرسلًا، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [سورة الأعراف: آية 187] وقد استدل البعض لتعيين وقت قيام الساعة بما روي على أنه حديث ((الدنيا سبعة آلاف سنة))، وهو ما بين موضوع وشديد الضعف بلا شك، حتى إن من رواه من المحدثين كالحاكم وغيره نقله على أنه من كلام اليهود وليس من كلامه عليه الصلاة والسلام، ولا تصح مقولتهم تلك لمصادمة القطعيِّ من نصوصنا، وقد وقع بعض أفاضل العلماء في هذا الخطأ كالإمام السيوطي في كتابه (الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف)([55]) فتحدث عن تواريخ لقيام الساعة، وإن مصادمة هكذا مرويّات لقطعيّات الدين من علامات الحُكمِ الظاهر على الرواية بالوضع أو الضعف عند أهل السنة.

4- الاعتماد على الأحاديث الواهية أو الموضوعة.

من الصور الخاطئة لإثبات الفتن وأشراط الساعة الاعتماد على المرويات الواهية والموضوعة في ذلك، ومنها كتاب الفتن للإمام نُعيم بن حمّاد المروزي 229هـ؛ فقد تكلم في ذلك كثير من أهل العلم، قال الإمام الذهبي: (نُعيم من كبار أوعية العلم لكن لا تركن النفس إلى رواياته)([56]) ثم قال: (وقد صنف في الفتن، فأتى بعجائب ومناكير)([57])، وهذا ما حمل كبار المحدثين كالخطيب البغدادي على التحفظ على الكثير مما ورد في الفتن والملاحم وأشراط الساعة فقال: (وليس يصح في ذكر الملاحم المرتقبة والفتن المنتظرة غير أحاديث يسيرة اتصلت أسانيدها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من وجوه مرضيّة وطرق واضحة جليّة)([58]).

5- تحريف دلالات النصوص بالتأويلات البعيدة الفاسدة.

جاء في الحديث الذي ذكره ابن القيم وصححه لتعدد طرقه، ونقل تصحيح أحمد له عن إبراهيم بن عبدالرحمن العذري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين)) قال ابن القيم: (فأخبر أن الغالين يحرفون ما جاء به، والمبطلون ينتحلون بباطلهم غير ما كان عليه، والجاهلون يتأوّلونه على غير تأويله، وفساد الإسلام من هذه الطوائف الثلاثة)([59]) فمن أوّله على وجهه فهو الحقّ، ومن أوّله على غير تأويله فقد افترى على الله ورسوله، فكيف إذا اجتمع مع سوء الفهم والتأويل سوء القصد؟

ومن تلك التفسيرات الفاسدة تأويل الأحاديث التي جاءت في الأعور الدجال بأن المقصود بها المدنية الغربية؛ فهي تنظر إلى الإنسان بعين المادة وتغفل الجانب الروحي فيه، فهي حضارة عمياء...، هذا التأويل مخالف لما أثبتته الأحاديث التي يُحكم عليها بالتواتر المعنويِّ بمجموعها من أن الدجال رجل فرد يغدو ويروح، ويتكلم ويفعل، ويرغِّب ويرهب، ويجادل ويماري، ثم يُقتل بحربة نبيِّ الله عيسى عليه السلام.

ونرى اليوم عشرات من الكتب المعاصرة للحداثيين والعلمانيين التي تَكلَّف أصحابها تنزيل النصوص على الوقائع بتأويلات فاسدة بعيدة، يدفعهم لهذا حبّ الظهور وإشغال الأمة والكسب الماديّ المحرم؛ والمؤسِف أن الكتب التي يؤلفها هؤلاء السفهاء تجد رواجـًا كبيـرًا عند العوام.

ومما يدخل في هذا الباب ما يراه الباحث المسلم في كتب الملاحم والفتن من عجائب الإسرائيليات المنقولة عن كتب اليهود والنصارى، فقد توسع بعض المشتغلين بأخبار الفتن في رواياتها ولم ينضبطوا بضوابط التحديث بها فجمعوا ما هبّ ودبّ، ولم يقف الأمر عند مجرد الاستئناس بها بل صارت مجالًا للاستدلال بها كذلك عند قوم، وهذه آفة قديمة ذمها الخطيب البغدادي فقال: (ونظير ما ذكرناه آنفًا أحاديث الملاحم وما يكون من الحوادث، فإن أكثرها موضوع وجلّها مصنوع كالكتاب المنسوب إلى دانيال)([60]) وبعضهم يعوّل كثيرًا على أسفار كتب النصارى والعهد القديم، ومن الإسرائيليات تفسير دانيال وتفسير أشعيا وتفسير حزقيال.

6- الاعتماد على طرق ليس لها قيمة علمية.

من ذلك الاعتماد على حروف (أبي جاد)، والمراد بها (أبجد هوز...إلخ)، وكانت تستخدم طريقة حسابية للعد، ولو بقي الأمر هكذا فلا غضاضة فيه، فهو عدٌّ اصطلاحي، واستعمله الآراميون والأنباط واليهود، وقد استعمله المسلمون في نظمهم ونثرهم كما قال ابن الجزري في منظومته في التجويد: (أبياتها قاف وزاي في العدد) أي عدد أبياتها مائة وسبعة، فالقاف مائة والزاي سبعة، لكنْ أن تفسر النصوص الدينية بانتقاء بعض كلماتها وعدها على هذا النحو فهذا عدوان على النصوص لا مستند له ولا دليل، وهو من قبيل التفسير الباطني المرفوض، ومنه ما ورد في (الجفر) الذي ينسب زورًا لجعفر الصادق، وهو من وضع هارون بن سعيد العجلي، وهو مشحون بالغيبيات التي يقوم كثير منها على هذه الطريقة الفاسدة، ورووا في ذلك أحاديث منكرة موضوعة في الحث على تعلم طريقة (أبي جاد) واعتمادها في التفسير، وفي ذلك يقول ابن حجر: (هو باطل لا يعتمد عليه، ولا أصل له في الشريعة)([61])، ومنهم من زعم أن الساعة تقوم سنة (1407هـ) بناء على قوله تعالى: {لا تأتيكم إلا بغتة} بناء على حساب حروف كلمة {بغتة} بطريقة عدّ أبي جاد، ومن ذلك تخرص رشاد خليفة (البهائي) باعتباره عام (1710هـ) هو عام قيام الساعة بناء على حساب الجمّل.

وكذلك من الوسائل التي لا تُعد من قواعد العلم ما سلكه بعض الباحثين في الأحاديث التي جاءت لضرب المثل، ومنها الحديث الذي جاء فيه ((إنما أجلكم فيما خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود كمثل رجل استأجر أجراء فقال: من يعمل من غدوة إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين قيراطين؟ فأنتم هم))([62])، فأخذ يعمل حسابيًّا على عمر أمة اليهود وعمر أمة النصارى، فتبين له أن عمر أمة الإسلام بناء على هذا الحديث (900سنة)؛ ذلك أنه عدَّ عمر أمة اليهود يعادل مجموع عمر أمتي النصارى والإسلام، فيكون (1500سنة) عمر أمة اليهود - (600سنة) عمر أمة النصارى= (900سنة) عمر أمة الإسلام، ولما لم يتم له ذلك في الواقع أضاف إليه (500 سنة) مستدلًا بما رواه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إني لأرجو ألا تعجز أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم، فقيل لسعد: كم نصف يوم؟ قال: خمسمائة سنة))([63]) فيكون المجموع (1400سنة) وهذا ما يكذبه الواقع أيضًا، علمًا أن الخطأ وقع في منهج الاستدلال، فقد جزم إمام الحرمين الجويني فقال: (إن الأحكام لا تؤخذ من الأحاديث التي تأتي لضرب الأمثال)([64])، وقال ابن رجب: (وهذا الحديث إنما ساقه النبيُّ صلى الله عليه وسلم مساق ضرب الأمثال، والأمثال مظنة التوسع فيها)([65])، فلا يلزم من التمثيل والتشبيه التسوية من كل جهة، فالمراد هنا كثرة العمل لا المدة الزمنية كما قال ابن حجر: (لا يلزم من كونهم أكثر عملًا أن يكونوا أكثر زمانًا)([66]).

7- التوسع في مسألة الرؤى والمنامات.

من الأخطاء في تفسير أحاديث الفتن وأشراط الساعة اعتماد الرؤى فيها، فقد عوّل كثيرون على المنامات في تنزيل النصوص على الوقائع حتى أخرجوا الرؤى عن الحد الذي حدّها بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ألا وهو البِشارة أو النِّذارة، فأدخلوها في تفسير النصوص وإسقاطها على الواقع، ونتج عن ذلك الإقحام الذي لا يقبله الشرع سفكُ الدماء واستباحةُ الأموال، ولم يعد هناك عند كثيرين ضوابط ولا معايير، فسوَّغوا الظلم والطغيان وخالفوا النصوص القطعيَّة في الأخذ على يد الظالم لرؤيا رأَوْها، ومن جملة ذلك أن كثيرًا ممن زعم المهديَّة في التَّاريخ كان ادعاؤه لها لرؤيا رآها كالمهديِّ السودانيّ.

الحلقة الثانية هـــنا 

=======

([51]) الإذاعة لما كان وما يكون بين يدي الساعة ( 112).

([52]) نظم المتناثر من الحديث المتواتر ( 147).

([53]) أخرجه البخاري عن الزبير بن عدي في كتاب الفتن - باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه، رقم (6657).

([54]) انظر فتح الباري ( 13/21).

([55]) أورده السيوطي في الحاوي للفتاوى ( 2/86).

([56]) سير أعلام النبلاء ( 10/600).

([57]) سير أعلام النبلاء ( 10/609).

([58]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: الخطيب البغدادي ( 1/162).

([59]) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان: ابن القيم ( 1/159).

([60]) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع: الخطيب البغدادي ( 2/161).

([61]) فتح الباري ( 8/211).

([62]) أخرجه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما في كتاب الأنبياء - باب ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم (3272).

([63]) أخرجه أحمد في مسند العشرة المبشرين بالجنة - مسند سعد بن أبي وقاص، رقم (1464)، وأبو داود في كتاب الملاحم - باب قيام الساعة، رقم (4350).

([64]) نقله عنه ابن حجر في فتح الباري ( 2/39).

([65]) فتح الباري لابن رجب ( 4/341).

([66]) فتح الباري لابن حجر ( 2/40).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين