أطع .. وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك

بعد ساعة ونصف في السيارة وبفضل جهاز التوجيه الإلكتروني (جي بي اس) وجدت نفسي أمام بوابة "مشفى أورانج كلينك" الذي وافق على انضمامي إلى طاقمه الطبي .. نظرت في المكان فأسعدني أن أجد إلى يمين المشفى جامعاً كبيراً أثري التصميم تلمع قبته الذهبية تحت شمس الظهيرة ..

قالت لي الساعة حانت صلاة الظهر .. ومازال أمامك أربعون دقيقة لمقابلة إدارة المشفى .. فاذهب إلى الصلاة ..

دخلت الجامع، صليت الظهر جماعة، وعند خروجي، لفت نظري إعلان كبير عند الباب عن محاضرة للمفكر الكبير "عدنان جاد الله" ، موعدها مساء الليلة بعد صلاة العشاء، فحمدت الله على هذه المصادفة الكبيرة للقاء بهذا المفكر الإسلامي الذي طبقت أخباره الآفاق، أنهيت مقابلتي في المشفى وإجراءات التوظيف، وذهبت إلى الفندق القريب فحجزت غرفة أرتاح فيها من عناء اليوم، ريثما تمضي الساعات المتبقية حتى ميعاد المحاضرة ..

رن الهاتف .. فإذا بها عاملة الفندق توقظني في الثامنة مساء حسب طلبي، جهزت نفسي، وانطلقت إلى الجامع فإذا به يغص بالحضور، وإمام الجامع جالس على المنصة وحيداً عند المحراب، وما هي إلا لحظات حتى ظهر المحاضر فقام الإمام يرحب به ويقدمه للحضور تقديماً مرصعاً بأوصاف فخمة "المفكر الإسلامي العظيم" .. "مجدد القرن" .. "حجة العصر" .. شكره المحاضر، وتوجه إلى الجمهور وقد انتفش كالطاووس قائلاً دون المقدمات المعتادة من الخطباء التقليديين، قال : 

- أيها الإخوة .. لقد أنعم الله علينا بهذا "الربيع العربي" وثوراته التي تبشرنا بنهاية "نظرية السيف" أعني نظرية " شرعية المتغلب" التي قال بها الفقهاء قديماً، هذه النظرية التي لا يمكن لعقل سياسي على وجه الارض والمعمورة أن يتفتق عن نظرية سياسية أردأ .. ولا أسخف .. ولا أقبح .. ولا أوسخ .. منها، لأنها نظرية تعني أن الذي يصل إلى السلطة بأية طريقة ينبغي أن يطاع طاعة مطلقة، إلا أن يكفر، فإن لم يكفر يجب أن يطاع امتثالاً لحديث منسوب للنبي، أرفضه جملة وتفصيلاً، جاء فيه أن النبي سئل عن ولي الأمر الظالم، فأجاب : "أطع الأمير .. وإن جلد ظهرك وأخذ مالك" فهذا حديث مرفوض عندي بلا جدال، ولا يمكن أبداً أن أصدق أنه حديث نبوي، حتى وإن ورد في الصحيحين، فمن المستحيل أن يقول النبي هذا الكلام .. مستحيل أن يقوله نبي نزل عليه القرآن .. مستحيل أن يقوله وهو القائل : "سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" !

أيها الإخوة .. من المؤسف أن هذه النظرية التي توجب الطاعة المطلقة لمن ضرب ظهرك وأخذ مالك قد أسسها ومكن أركانها "الإمام أحمد بن حنبل" رغم أنها من فبركات "بني أمية" الذين أهلكوا الأمة كما جاء في حديث ورد في الصحيحين البخاري ومسلم، قال فيه النبي : "يهلك الناس هذا الحي من قريش" فمن هو هذا الحي ؟ لاشك عندي أن النبي قد سمى الحي، وأنه يعني "بني أمية" إلا أن الراوي خاف أن يذكر اسم الحي خوفاً من بطش الأمويين فغير الحديث وترك الأمر غامضاً!

ثم .. أيها الإخوة لاحظوا كيف سلط الفقهاء الضوء على جانب الطاعة من حديث السيف هذا، بينما غطوا عن الجانب الآخر الذي أجاب فيه النبي عندما سئل عن أمراء السوء : "فما تأمرنا يا رسول الله ؟" أجاب النبي : "الزم بيتك" فالنبي لم يأمر بطاعة أمراء السوء، وإنما أمر بالمقاومة "الزم بيتك" .. مقاومة سلبية .. أي "العصيان المدني" كما نعرفه اليوم، فلا طاعة، بل مقاومة سلبية تسقط الظالم دون سلاح ولا عنف، فيسقط كما تسقط الورقة اليابسة عن الشجرة !

لكن .. هذا الحديث عن العصيان المدني ضرب عليه الرواة بحديث "وإن ضرب ظهرك" .. يا جماعة .. هل يوجد مفكر سياسي أو منظر سياسي عاقل يوصي بطاعة الحاكم الظالم لمجرد أنه على ديننا ؟!! أبداً .. لا يمكن هذا مطلقاً.. وها نحن اليوم نرى المستبدين الظلمة كلهم على ديننا، لكنهم فعلوا بنا الأفاعيل ودمروا بيوتنا وشردونا في الآفاق .. فهل نطيع ؟ لا .. مستحيل .. ولا يمكن أن يوجد عاقل يقول بطاعة هؤلاء الذين يسلكون طريق معاوية والأمويين الذين كانوا على ديننا لكنهم ارتكبوا في حق الأمة أفظع الجرائم بذريعة هذا الحديث "وإن ضرب ظهرك.. وأخذ مالك" الذي شرعنه الفقهاء مرتكبين بهذا الفعل أكبر جريمة في تاريخ الفقه، طمعاً بحفنة من الدنانير، مما أعطى المبرر للفقهاء اللاحقين، ليقوموا بنفس الدور في التمكين للطواغيت عبر تاريخنا الإسلامي وحتى اليوم .. وسوف نبقى ضحايا لهذه الجريمة حتى أبد الآبدين ما دمنا نؤمن بكل ما ورد في السنة من روايات غير آبهين بنتائجها الكارثية !! فكيف نصدق أن هذا الحديث - وأمثاله كثير في السنة – صحيح ؟ وكيف نسكت ونسمع وإن ضرب هؤلاء الظلمة ظهورنا وأخذوا أموالنا .. بحجة هذا الحديث المدمر ؟!!

بلا طول سيرة .. أيها الإخوة .. لو ذهب أي واحد منكم بهذا الحديث إلى أوروبا أو عرضها هنا في أمريكا على أي مفكر أو منظر سياسي .. وقال له : إن الذي يغلب بالسيف يجب أن يطاع حتى وإن ذبح الناس أو سجنهم أو عذبهم أو شردهم .. فسوف يقول لك السياسي والمنظر : هذا أكبر إجرام في التاريخ ! فإن قلت له : لكن هذا كلام نبينا ! فيسألك : وهل تؤمن به ؟ فإن قلت : نعم . سيقول لك : أنت أحمق .. وهذا ليس نبي بل شيطان .. ولوعرف هذا السياسي تاريخنا لقال لك على الفور وهذا الشيطان هو معاوية وربعه من الأميين !

أيها الإخوة .. إن في هذا الحديث وأمثاله تسميم للدين .. وتدمير للأمة .. لأن الظلمة بحجة هذه الأحاديث ركبوا ظهورنا أربعة عشر قرن ومازالوا !!

أيها الإخوة .. أسأل الله أن تكون ثورات الربيع العربي نهاية هذه المسيرة الفقهية البائسة .. لكن .. يا جماعة .. لن تنتهي هذه المسيرة ما لم نشارك جميعاً في وضع نهاية لها .. وأنا بفضل الله أخذت على عاتقي إنهاءها بهذه المحاضرات .. فأنا في الحقيقة أشارك في صنع هذه الثورات بفكري .. ولا أقول هذا تبجحاً، فأنا لست الوحيد الذي أشارك في هذه الثورة، بل هناك اليوم آلاف من المفكرين الذين يشاركون بهذه "الثورة الثقافية" التي تشكل ضمانة حقيقية لنجاح ثوراتنا السياسية التي تحتاج أن ندعمها ونعززها ونرفدها بثورات فكرية علمية ثقافية منهجية، وإلا فسوف نعيد إنتاج دكتاتوريات جديدة بأسماء جديدة وشعارات جديدة.. والسلام !

ختم المحاضر كلامه، وفتح إمام الجامع باب المداخلات 

• فكان جوابي :

أشكر المحاضر الكريم لغيرته على مصير الأمة، وتحذيره من الدكتاتوريات وجرائمها، إلا أن محاضرنا الكريم قدم أطروحته مستنداً إلى أحاديث ضعيفة أو مكذوبة على النبي صلى الله عليه وسلم، كما استند إلى أحاديث صحيحة لكنه فسرها تفسيراً يخالف تفسير الفقهاء لها .. وبدل أن يورد المحاضر أقوال الفقهاء في هذه الأحاديث، اشتد في الحملة عليهم، ونسب لهم أخطاء لم يقعوا فيها !

فحديث نظرية السيف الذي بنى المحاضر عليه أطروحته الرئيسية هو حديث مرسل رفضه جمهور الفقهاء وقالوا بعدم الاحتجاج به، فكان حرياً بالمحاضر أن يبين هذا الجانب وأن يلقي باللوم على الذين يساندون الدكتاتورية بذريعة هذه الأحاديث غير الصحيحة، لا أن يتهم السنة النبوية والفقهاء الذين نقدوا هذا الحديث وأمثاله وبينوا ما فيها من ضعف !

ولقد فعل المحاضر خيراً لو أنه ألقى اللوم على "فقهاء السلاطين" الذين يستندون إلى هذه الأحاديث مع معرفتهم بضعفها، طمعاً بكسب المناصب والأموال من أمراء السوء والمستبدين !

وكان حرياً بالمحاضر الكريم كذلك إنصافاً للعلم والعلماء أن يذكر ما قاله فقهاؤنا الذين فندوا شرعية المتغلب، وذكروا أن الإسلام يضع شرطين أساسيين لصحة الإمامة الشرعية :

- الشرط الأول : قيام الإمام بحماية الدين وسياسة الدنيا؛ وهذه هي حقيقة الإمامة الشرعية وظيفتها .

- والشرط الثاني : أن تختار الأمة الخليفة اختياراً حراً؛ وهذا الشرط يمثل طريقة انعقاد الإمامة الشرعية أو آليتها .

وهكذا يظهر أن علمائنا قد وضعوا شروطاً دقيقة للإمامة الشرعية، وبينوا بطلان الغلبة، لكن المحاضر الكريم تجاهل هذه الحقائق .. لا أدري .. لماذا ؟! ولعله يقصد بعض الفقهاء الذين قالوا بتخفيف الشرط الثانى والقبول بإمامة المتغلب، فهؤلاء – وهم قلة بين الفقهاء – إنما قالوا بإمامة المتغلب "اضطراراً" للحفاظ على مصالح شرعية عليا، في مقدمتها : إغلاق باب الاقتتال الداخلي وحقن الدماء، فلهذا السبب رأى بعض الفقهاء القبول بإمامة المتغلب ليس قبولاً منهم بالاستبداد أو الدكتاتورية؛ بل للحفاظ على تحقيق الشرط الأول؛ وهؤلاء الذين أقروا إمامة ولاية المتغلب بالقهر؛ هم أنفسهم قالوا بإسقاط شرعية من يخل بشرط الاختيار والبيعة الحرة، وأذكر في هذا السياق أن الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين زنكي (1163م–1181م) عندما صالح "الصليبيين" على بعض المواقع والحصون، وباع لهم السلاح، امتنع "العز بن عبد السلام" عن الخطبة له على المنبر، وكان هذا فى زمانهم إعلان عن خلعه؛ وهكذا كان ديدن علمائنا تجاه الإمام الذي يخل بصيانة الدين وحماية بيضته .. وفعل هذا الإمام دليل على فقه هؤلاء الفقهاء الأعلام وموقفهم الواضح من الإمام الذي يخل بشروط الإمامة .

واسمحوا لي .. أيها الإخوة .. أن أذكر مثالاً آخر .. وهو أن دعوة الموحدين (1121م - 1269م) التي قامت فى المغرب، عندما لاحت عليها انحرفات عقدية تمس أصول الدين قاد "القاضي عياض" ثورة عليهم حتى خلعهم .. ففي هذه الأمثلة – التي عندي منها الكثير – دليل على رفض علمائنا للاستبداد والانحراف .. على غير الصورة التي حاول المحاضر الكريم تصويرها ! 

وأزيدكم من الشعر بيتين .. فأذكر أن الإمام ابن حزم الأندلسي (ت456هـ/1064م) قد سلك في تأويل حديث ( وإن ضرب ظهرك) مسلكاً آخر فقال رحمه الله تعالى : "أما أمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على أخذ المال وضرب الظهر، فإنما ذلك بلا شك إذا تولى الإمام ذلك بحق، وهذا ما لا شك فيه أنه فرض علينا الصبر له .. وأما إن كان ذلك بباطل فمعاذ الله أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر على ذلك، برهان هذا قول الله عز وجل : (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) .. فصح أن كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو وحي من عند الله عز وجل، ولا اختلاف فيه، ولا تعارض، ولا تناقض، فإذا كان هذا كذلك فلا شك بأن أخذ مال مسلم أو ذمي بغير حق، وضرب ظهره بغير حق إثم وعدوان وحرام؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم" ولا شك في هذا ولا اختلاف من أحد من المسلمين" أهـ .

وكلمة أخيرة .. أود من أخي المحاضر أن يتقبلها خالصة لوجه الله الكريم .. وهي تتعلق بحملاته المتكررة العنيفة ضد بني أمية عامة ومعاوية منهم خاصة، فنحن جميعاً نعلم من مآثر هؤلاء الكثير، فمن واجبنا أن نعترف لهم بهذا الفضل، وهذا لا يمنع من انتقاد أخطائهم إذا ثبتت .. ولكي لا أطيل عليكم أذكر أبرز مآثر القوم :

1. انتشار الفتوحات الإسلامية : بلغت هذه الفتوحات في عهد بني أمية ذروتها ، فقد انطلقوا يفتحون العالم في كل الجهات، حتى بلغت دولة الإسلام في عصرهم أقصى اتساع لها .. ولم يستطع أحد بعد بني أمية أن يسطر في الفتوحات تاريخاً مثل تاريخهم ولا يدانيه .

2. وحدة الدولة : فقد ظلت الدولة الإسلامية دولة واحدة في عهد الأمويين، وهو ما لم يتوافر لدولة من بعدهم أبداً؛ إذ كثر بعدهم استقلال الولايات والمناطق، وبدأ تفكك الخلافة وتنازع الأمة، فلم تقم من بعدهم للأمة قائمة !

3. التعريب : لقد كانت الدواوين الإدارية تكتب بلغة البلاد المفتوحة، إلى أن أمر الخليفة الأموي "عبد الملك بن مروان" بتحويل الدواوين إلى اللغة العربية، وقد كان لهذا القرار تأثير واسع في انتشار اللغة العربية في البلاد المفتوحة، كما ساهم التعريب في إقبال غير العرب على تعلمها واستيعابها، وهو ما أدى إلى النهضة باللغة العربية وجعلها لغة العلوم والحضارة فيما بعد، ويكفي للأمويين فخراً أن البلاد التي ثبتت فيها اللغة العربية لم يخرج منها الإسلام !

في هذا المقال للدكتور الفاضل أحمد كنعان استدراكات في مواضع عدة.
ففي مقاله أحكام منسوبة إلى علماء الإسلام. وليس فيه ذكر مرجع واحد تراجع فيه تلك الأقوال.
المقال مكتوب بأسلوب أدبي قصصي، وليس بأسلوب علمي ينتهج التدقيق والتحقيق.
وإلا فإنه ذكر حديث نظرية السيف، وأنه حديث مرسل. وأن جمهور الفقهاء رفضوه.
فما نص الحديث ؟ ومن الذي حكم بارساله؟
وهل جمهور الفقهاء قالوا بعدم قبول حكم المتغلب؟، وفي فتح الباري عند شرح حديث: (من كره من أميره شيئا فليصبر. فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية) متفق عليه.
قال الحافظ ابن حجر: "قال ابن بطال: في الحديث حجة على ترك الخروج على السلطان وإن جار، وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء، وحجتهم هذا الخبر وغيره مما يساعده، ولم يستثنوا من ذلك إلا إذا وقع من السلطان الكفر الصريح، فلا تجوز طاعته في ذلك بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها. اهـ انظر الفتح جـ 13 ص 7
فكيف يقول الأخ الكريم : إن الذين قالوا بقبول إمامة المتغلب هم قلة بين الفقهاء.
بعد أن نقل ابن حجر إجماع الفقهاء على قبولها؟!
وأما ما نقله الأخ الكريم عن الإمام ابن حزم الأندلسي في تأويل حديث ( وإن ضرب ظهرك) فهو مردود بنفس الحديث الذي يصف أولئك الائمة الذين يأخذون الأموال ويضربون الظهور بأنهم "أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي...."
أفيصح بعد هذا تأويل ابن حزم: (أخذ مالك بحق وضرب ظهرك بحق)؟!!
إذًا فهم على الهدى والسنة.
والحديث يقول: "أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي...."..
وينظر هذا الرابط في موقعنا
لا أسوأ من الإفراط إلا التفريط


جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين