لا أسوأ من الإفراط إلا التفريط.

كنت وقفت على تسجيل مصور لشيخ لم أكن أعرفه - ثم عرفت لاحقًا أن اسمه بشير بن حسن - يعلق على العبارة الحديثية الشهيرة في صحيح مسلم :"وإن ضُرب ظهرُك وأُخذ مالك"

وهذا رابط التسجيل:

https://youtu.be/eWLVOs_oUVo

فكتبتُ في التعقيب عليه:

لا أعرف المتكلم.

ولكن في كلامه تلبيسا ومغالطات وافتقارا الى الدقة في كلٍّ من الفهم والنقل.

ولئن كان هناك من غلا فأفرط في تفعيل الحديث المشار إليه - وهو في صحيح مسلم - ونزّله على غير منازله، وسوّغ به بطش الجبابرة، فإنه لا يصح أن يقابل ذلك الإفراط منهم، بالتفريط منّا في الحديث إلى حد الامتعاض منه والتشكيك في ثبوته، ومحاولة نقضه ومواجهته بأقوال أو أفعال الصحابة والتابعين.

وليس في كل ما واجهه به هذا المتحدث ما يناقضه أصلا، ولكنه التعجل في الفهم.

الأخ المتحدّث ينعى على أعوان الظلمة الذين يوظفون الحديث لصالح الطغاة اجتزاءهم الحديث والاحتجاج بطرف منه.

والنعي عليه بذاك أولى، فإنه فإنه لم يجاوز طرف الحديث الذي ذكروه في كل التسجيل الذي خصصه لهذه القضية، ولم يسلط الضوء على كامل الجملة الحديثية المكونة من شرط وجزاء. فاكتفى بالشرط دون الجزاء، واستمر يكرر الشرط: وان أخذ مالك وضرب ظهرك.

وان أخذ مالك وضرب ظهرك.

.........

طيب، فما جواب الشرط يا أخي؟ 

جواب الشرط جاء مكررا للتاكيد قبل الشرط وبعده كما في نص الحديث في صحيح مسلم:

تَسمع وتُطيع للأمير وإن ضُرب ظهرك وأُخِذ مالك فاسمع وأطع

إذًا جواب الشرط أمرٌ بالسمع والطاعة. وهذا لا يعني أبدا إقرارا للأمير على ظلم، كما لا يعني أبدا تعطيل نهيِ ذلك الأمير عن ذلك الظلم والمنكر، أو تعطيل أمره بالعدل والمعروف، فإن تلك لها أدلتها الصحيحة المشتهِرة. ولا تَنافيَ بينها وبين الطاعة المأمور بها في هذا الحديث.

والسؤال الآن: هل عندنا نص يقيّد السمع والطاعة المأمور بها في هذا الحديث؟ أم أنّ الامر فيها على إطلاقه؟

والجواب: أن عندنا حديثا صحيحا محكَما مقيِّدا لهذا الإطلاق يقول: "لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف" متفق عليه.

وهل هناك مشكلة في أن تكون للأمير الظالم طاعة في أمر هو من المعروف؟ أو في أمر هو من طاعة الله؟ أو في أمر ليس فيه معصية لله؟

لو أن الأمير الظالم الذي ضرب ظهرك أو أخذ مالك، أمرَك بإخراج زكاة مالك، أو أمرك بصلة رحمك، أو بر والديك، أو العدل بين أولادك، أو استنفر الناس إلى جهاد الكفار ..... أو نحو ذلك. فهل تجد مندوحة في عدم طاعته بحجة أنه ظالم.؟

أين المشكلة في ظاهر الحديث حتى يقول: إن ظاهره غير مراد؟!

أين المشكلة في هذه الجزء من الحديث التي تحمِل بعض الناس على التعامل معه بهذا التشنج والامتعاض ومحاولة إلغائه وتعطيله بذرائع تبدو علمية للتخلص من مشكلته الموهومة؟.

وليس فيه مشكلة. وإنما المشكلة في نظري هي في فهمه على غير وجهه، وتنزيله على أفجر وأحقر الجبابرة المتسلطين على رقاب المسلمين.

يا جماعة الخير، الحديث قال: وإن ضُرب ظهرك وأُخِذ مالك فاسمع وأطع

ولم يقل: وإن سفك دماءكم واغتصب نساءكم وفتنكم عن دينكم وقهركم على السجود لغير الله وأكرهكم على توحيد بشار إلهًا من دون الله جلّ جلاله.!

وإلحاقُ هذه العظائم الكفرية بضرب الظهر وأخذ المال في الحكم، كذبٌ مفضوح على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لم يقل به عالم، ولا يقول به عاقل.

ولذلك فإن التشكك في الحديث بذريعة أنه يمهد أو يؤسس لاغتصاب النساء وسفك الدماء والفتنة عن الدين كلام غير دقيق، وتحميل للحديث ما لا يحتمله، وإنما هو التسرع في الفهم، وربما الحماسة غير المنضبطة.

ثم الغريب في هذا الفيديو أن المتحدّث خصّصه كله لمناقشة علمية حول جملة حديثية، من حيث الرواية والدراية، ونقل أقوالا عن أهل العلم، ولكنه لم يذكر غالبا مراجع لتلك الأقوال، يمكن الرجوع إليها للتحقق من دقة تلك النقول.!

يقول: هذه القطعة من الحديث وصفها الدارقطني بأنها شاذة، وضعفها النووي...!

وأقول: الذي وجدته في شرح النووي على صحيح مسلم عند هذا الحديث قوله: قال الدارقطني: هذا عندي مرسل لأن أبا سلاّم لم يسمع حذيفة...

قلت: ويلاحظ هنا أن الدارقطني قد حكم على الحديث كله بالإرسال، وليس على القطعة المذكورة منه بأنها شاذة.! 

وأما ما نقله عن النووي من تضعيف تلك القطعة من الحديث فلم أجده، بل تتمة كلام النووي تدل على خلافه.

فقد قال النووي بعد نقل كلام الدارقطني أن الحديث عنده مرسل: وهو كما قال الدارقطني لكن المتن صحيح متصل بالطريق الأول، وإنما أتى مسلم بهذا متابعة كما ترى، وقد قدّمنا في الفصول وغيرها أنّ الحديث المرسل إذا روي من طريق آخر متصلا، تبيّنا به صحة المرسل، وجاز الاحتجاج به، ويصير في المسألة حديثان صحيحان اهـ.

فهذا نص النووي بتصحيحه الحديث. وصاحب الفيديو يقول: الإمام النووي ضعّف تلك القطعة من الحديث!!!

فليته عزا ذلك إلى مرجع لنتحقق من دعواه.

ثم إن التراجم التي وضعها الامام النووي لأحاديث صحيح مسلم لا تدل على تضعيفه القطعة المذكورة، بل تدل على العمل بها بلا تردد.

من مثل قوله:

باب الأمر بالصبر عند ظلمِ الولاة واستئثارِهم.

باب في طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق.

ثم إنَّ أهل الورع من العلماء عبر عصور الإسلام قد تلقوا هذا الحديث، أو تلك القطعة من الحديث بالقبول والإقرار العلمي والعملي، ولم يجاوزوه قِيد شعرة.

ومعلوم أن صفوة أئمة الأمة علمًا وعملا قد جُلدت ظهورهم ظلما وعدوانا على أيدي بعض أمراء الجور، ولكنهم لم ينزِعوا يدًا من طاعة، ولا حرّضوا الأمة على شيء من ذلك، مع أنهم كانوا في زمانهم أصحاب الكلمة المسموعة والقدوة المتبوعة.!

ضُرِب الإمام مالك ظلما، وجُذب حتى خُلِعتْ كتفه، وقبله سُجن الإمام أبو حنيفة حتى مات في سجن المنصور العباسي على ما صححه ابن خلكان، وبعده ضُرب الإمام أحمد بن حنبل حتى غاب عن الوعي في فتنة خلق القرآن المشهورة.

وضُرب من العلماء الأعلام عبدُ الرحمن بن أبي ليلى، وسعيد بن المسيّب، وأبو الزناد، وأبو عمرو بن العلاء، وربيعة الرأي، وعطية العَوفي، وثابت البُناني، وغيرهم كثير في عصور السلف الأولى، ذَكرَ طائفةً منهم الحافظُ ابن الجوزي في كتابه "مناقب الإمام أحمد" وكلهم بريء مظلوم، ضُربوا ظلما وعدوانا، فلم يجاوزا هذا الحديث الذي يشكك فيه صاحب الفيديو ولم يحملهم شيء من ذلك، رضي الله عنهم، على تضعيف الحديث أو تأويله تمهيدا للتحرر من رِبْقَتِه.

معاذ الله أن يفعلوه، وحاشاهم. 

ثم إنّ هذه الجملة من الحديث التي يحاول المتحدث في الفيديو التحرر منه ليست وحيدة في هذا المعنى، وإنما لها روافد من أحاديث صحيحة تصب في نفس معناها، كحديث الصحيحين عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ستكون أَثَرةٌ وأمور تنكرونها. قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم

وحديث الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.... بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويُسرنا وأَثَرَة علينا، إلا أن تروا كفرا بَواحا عندكم من الله فيه برهان.

وحديث مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنه يُستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون. فمن كره فقد برئ، ومن أنكر فقد سلِم، ولكنْ من رضي وتابع. قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلَّوا.

فما وجه التنكّر بعد كل هذا، لقوله صلى الله عليه وسلم: "تسمع وتطيع للأمير وإن ضُرب ظهرك وأُخذ مالك فاسمع وأطع" ؟!! وما وجه ركوب كل صعب لإبطاله؟!!

ومن الصعب الذي رَكِبَه المتحدث، أو رَكَّبَه، استدلالُه بما نسبه إلى صحيح مسلم فيما وقع بين عبد الله بن عمرو وبين عنبسة بن أبي سفيان.

وأصل الخبر في صحيح مسلم، ولكن ليس فيه ذكر للخليفة معاوية رضي الله عنه، ولا مبايعة ابن عمرو إياه، ولا أن عنبسة كان واليا لمعاوية، ولا قولهم لابن عمرو: كيف تصنع؟ هذا ولي أمر، عليك أن تطيعه. 

كل الذي في صحيح مسلم: ... أنه لَمّا كان بين عبد الله بن عمرو وبين عنبسة بن أبي سفيان ما كان، تيسّروا للقتال، فركب خالد بن العاص إلى عبد الله بن عمرو فوعظه خالد. فقال عبد الله بن عمرو: أما علمتَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قُتل دون ماله فهو شهيد.؟ اهـ.

قال الحافظ ابن حجر في الإصابة في ترجمة خالد بن العاص المذكور: ....أراد عنبسة أخذ شيء من مال عبد الله بن عمرو بالطائف، فركب خالد بن العاص.... الخ

أقول: فالقضية دفاع عن مال، وليست خروجا بالسلاح على الإمام، ولا نزع يد من طاعة بسبب الظلم، وليس فيها أن الذي ظلمه هو الخليفة معاوية.

فما أعجب استدلال المتكلم في الفيديو بحديث مسلم المذكور، على ما استدل به عليه!! 

ومن الصعب الذي ركِبه صاحب الفيديو، ما نسبه إلى ابن جرير الطبري في كتابه: "التبصير في معالم الدين" من أنه نقل الإجماع على أنه لو ظُلم فرد من الرعية يجب على كل أفراد الرعية أن ينصروه.

وهو نقل وتوظيف غير دقيق.

وأنا أنقل لكم نص كلام ابن جرير في التبصير لتروا أنه لا ذِكر فيه للإجماع، وأنه يشتمل على تفصيل أوسع مما وظفه له المتحدث في الفيديو.

قال ابن جرير في "التبصير" ص159: يجب على المسلمين إعانة إمامهم القرشي وقتال الخارج عليه إذا لم يكن هناك أمر دعاه إلى الخروج عليه إلا ادعاؤه بأنه أحق بالإمارة منه من أجل أنه من غير قريش، إلا أن يكون خروجه عليه بظلم ركب منه في نفس أو أهل أو مال، فطلب الإنصاف فلم يُنصَف، فيجب على المسلمين حينئذ الأخذ على يد إمامهم المرضية إمرته عليهم، لإنصافه من نفسه إن كان هو الذي ناله بالظلم، أو أخذ عامِلِه بإنصافه إن كان الذي ناله بالظلم عاملا له، ثم يكون على الخارج عليه لما وصفنا أن يفيء إلى الطاعة طاعة إمامه بعد إنصافه إياه من نفسه أو من عامله. فإن لم يفئ الى طاعته حينئذ كان على المسلمين هنالك معونة إمامهم العادل عليه حتى يؤوب إلى طاعته. اهـ. 

وأصعب وأسوأ ما ركِبه المتحدث في الفيديو لذلك الغرض عبارته الغليظة المؤذية التي يَقِفُّ لها الشَّعر، ويتأذى منها الشعور، حين قال في سياق استدلاله على مشروعية انتقاد أولي الأمر على أخطائهم : انتُقد النبي صلى الله عليه وسلم على بعض الاختيارات !!!

أقول: لا أدل على حجب البصيرة بغاشية الهوى من هذه العبارة. غفر الله لنا وله.

ألم يبق في الأدلة على مشروعية انتقاد أخطاء الولاة وإنكار منكراتهم إلا هذه العبارة الباطلة المنكرة؟!

إنَّ هذه العبارة تُذكَر في سياق التحذير من نواقض الإيمان، وليس في سياق الاستدلال على مشروعية انتقاد الولاة والأمراء.

كأنه يقول: لا بأس عليكم من انتقاد الأمراء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد انتُقد على بعض الاختيارات، مع أنه ما عذّبَ ولا سَجن ولا ضرب ولا جلد...!!

يا سبحان الله! ثم يا سبحان الله!

يعني أنه صلى الله عليه وسلم لو عذّب أو سَجن أو جَلد لكان أولى بمزيد الانتقاد!! 

ألم يسأل هذا المتحدث نفسه: ما وجه الشبه بين أفعال الأمراء وأفعاله صلى الله عليه وسلم حتى يجعله قدوة لهم في الانتقاد؟

ألا يعلم هذا المتحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم لو عَذّب أو سَجن أو جَلد لكان ذلك دِينا وشريعة ماضية يجب اتباعه في نظائرها. وليس انتقاده والاعتراض عليه، فَدَته نفسي.

ثم من هذا الذي انتقد النبي صلى الله عليه وسلم على بعض اختياراته فكان حجة لهذا المتحدث؟!

لعله يقصد ابن سلول رأس المنافقين أصحاب الدرك الأسفل من النار، عندما انتقد على النبي صلى الله عليه وسلم خروجه من المدينة إلى أحد، فرجع بثلث الجيش.

أو لعله يقصد ذا الخويصرة التميمي "حرقوص بن زهير" رأس الخوارج كلاب أهل النار، الذي انتقد على النبي صلى الله عليه وسلم قسمة قسمها، واتهمه بعدم العدل فيها.!

أما إن كان يقصد مراجعات بعض الصحابة رضي الله عنهم، كمراجعة الحباب بن المنذر رضي الله عنه، النبي صلى الله عليه وسلم في المنزل يوم بدر، ومراجعة الفاروق رضي الله عنه في شأن صلح الحديبية، فمعاذ الله أن يكون هذا من النقد في شيء.

كيف وهم يقرؤون قوله تعالى: (... وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ? وَاتَّقُوا اللَّهَ ? إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)؟

وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)

معاذ الله أن يكون هذا من قبيل نقد اختياراته صلى الله عليه وسلم. وإنما هو من باب استجلاء الحكمة أو بذل المشورة الداخلة في قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى? بَيْنَهُمْ)

ومع أن مراجعة عمر رضي الله عنه يوم الحديبية كانت طلبا لكشف ما خفي عليه، وحثّا على إذلال الكفار، إلا أنه ندم أشد الندم على ذلك، وخاف أبلغ الخوف من نزول الوحي بهَلَكَة في حقه، حتى لقد نقل البخاري عن الزهري في تلك المناسبة أن عمر قال: فعملتُ لذلك أعمالا

وفي رواية ابن إسحاق: وكان عمر يقول: ما زلتُ أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به.

وعند الواقدي: قال عمر: لقد أعتقتُ بسبب ذلك رقابا وصمت دهرًا. انظر فتح الباري جـ 5 ص346 ط دار المعرفة.

فهل يُتَصور بعد هذا انتقادُ النبي صلى الله عليه وسلم، من عمر أو غير عمر؟!

إن رعاية حرمة النصوص لا تَقِل أهمية عن رعاية حرمة الدماء والأموال.

فلا يصح أن يدفعنا الحرص على هذه إلى التفريط بتلك، فإنه لا أسوأ من الإفراط إلا التفريط.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين