بين الصانع والمصنوع:كيف نحافظ على مؤسسة

اليوم تساوت المدّتان، وانتصف الزمانان..

بعد عَبرة وعِبرة، نضجت الفكرة، وآن أوان مشاركة الخبرة..

اليوم تساوت المدة التي قضيتها في كنف والديّ "أُصنع على عينهما"، مع المدة التي قضيتها مع شريك حياتي "نصنع مؤسستنا وأولادنا"، ونُنشِأها على "كلمة الله"، التي جعلتنا حلّاً لبعض..

إثنان وعشرون عاماً أمضيتها تحت سقف "بيت" قاده أبي, وقامت على رعايته أمي..

إثنان وعشرون عاماً نضجت بينهما، وأنا أراهما يتفقان ويختلفان، ويغضبان ويتراضيان، ويفرحان ويحزنان.. وعيت على اختلاف بينهما في الطبع وطريقة التفكير، لكنه اختلاف كان يزيد أبي مسؤولية وعظمة وتفانياً، ويزيد أمي حباً وشفقة وتضحية..

كلّ يوم معهما كان يعطيني درساً جديداً في مادة الحياة، ويصبّ في ذاكرتي فيض علم وفهم، ويفتح أمامي نوافذ إدراك، لم تكن أرقى الجامعات لتعلّمني إياها!

ذقتُ حلو اثنين وعشرين عاماً بينهما، لا أنسى طعمها..

وخبُرتُ مُرّاً مرّ فيها، لولاهما لما استطعت أن أنسى..

رضيت وسخطت، وسالمت وعارضت، واستسلمت وانتفضت، وقبلت ورفضت، وضحكت وبكيت، وامتننت وأنكرت..وأحببت وأبغضت.. 

نعم، شعرت بكلّ ذلك يا أبنائي وبناتي، مثلكم، لكنني وقتها كنت في موقع "البنوّة" كما أنتم الآن، وبعد أن انتقلت إلى موقع "الأمومة"، علمتُ أن ليس للبغض مكان في "قلبَيْ العائلة"، فكيف أسمح له أن يعشش في قلبي.. واكتشفت أنني قد التبس عليّ شعور " البغض" بسلوك "الغضب"، فقد كنتُ آنذاك منقادة بأشواقي الكبيرة وخبرتي البسيطة ، ولم أكن أعرف أنّ الوالدين ينظران من زاوية "المصالح البعيدة"، ومعهما زاد كبير من "خبرة الحياة" المغموسة بالحب والرحمة..

سكنتُ بينهما إثنان وعشرون عاماً، وجاء دوري لأكون "السّكن"..

وكما أنّ لكلّ بناء قواعد متينة، تهيّؤه ليرفع الصّرح عالياً، فكان لا بد لي في تلك المرحلة أن أحدّد قواعد "سكني الجديد"، وأن أضمن "عُمران" المكان الذي سأنتقل إليه: معنوياً ومادياً..

كنتُ مؤمنة أن ذلك" البيت"، الذي تطلّ واجهته على المستقبل، والذي سأكون سيّدته، له مالك يجب أن يحرص على تأمين كلّ احتياجاته، ومستلزمات استقراره، ليكون سكناً حقيقياً..

وكنت على يقين بأن تلك المؤسسة (الزواج)، هي الموئل السليم، والبيئة النظيفة التي سيتربّى بين جدرانها جيل الغد..

وبالانتقال من الخاص إلى العام، وفي ظل أصوات ارتفعت مؤخراً، تذمّ مؤسسة الزواج، وتطعن فيها، وتبغّضها إلى شبابنا وبناتنا، ومع انتشار "منطق المادية" بين أبناء هذا الزمن، وسطوة "مبدأ الشكليات" حتى في اختيار شريك الحياة، وبعد الاطلاع على عدد من التجارب الفاشلة، التي يزداد عددها في الآونة الأخيرة، وتفشّي الخلافات الحادة بين من كانوا "عشّاق الأمس"، وهم "خصماء اليوم"؛ بات من الواجب علينا أن نبحث في أسباب ذلك الفشل، وأن ننقب فيما وراء "قصص الحب" المدعومة من السينما والتلفزيون، ورموز الدراما والرومانسية، وكيف تتحول على أرض الواقع إلى "قصص رعب"، فتنتهي قبل أن يحول عليها حول الاستقرار والطمانينة؟ ولماذا تنهار هذه العلاقات؟ وما هي خلفيات تلك الروابط، التي خيّبت الآمال بوجود شيء اسمه: "الارتباط الناجح"؟..

وإني لأجد نفسي مسؤولة - بالدرجة الأولى عن ابنتيّ وابني الذين صاروا في سن البحث عن الشريك- ثم عن سائر الشباب والبنات في أعمارهم، لأطِلّ على الحياة الزوجية برفقتهم، وأتشارك معهم في هذا الموضوع، مستفيدة من خبرتي، ومعايشتي لهم..

سلسلة مقالات أقدمها لأبنائي وبناتي، بعنوان: (بين الصانع والمصنوع: كيف نحافظ على مؤسسة الزواج؟)، سأحاول من خلالها أن أضع علامات على طريق الاختيار الصحيح، وأبيّن الأسباب الرئيسية في إنجاح العلاقة الزوجية، ضمن إطار "مؤسسة الزواج"، على اعتبار أن هذه المؤسسة هي الراعي الشرعي لمشروع إنتاج الجنس البشري ذي المواصفات العالية، وهي الكفيل المؤتمن على عفاف الأجيال الآتية، واستقرارها العاطفي والجسدي، وهي الضامن لحسن سير سلسلة الوجود البشري، وجودة استعماره هذه الأرض..

هل يعيب الزواج الحديث عنه كمؤسسة؟ وما هي معايير النجاح لأي إطار يجمع شخصين أو أكثر؟

الجواب في الجزء الثاني، بإذن الله..

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين