الهجرة النبوية صياغة إنسان وبناء وطـن -1-

 

تمهيد 

مضى عام هجري وجاء عام هجري جديد ، وفي كل منهما معانٍ وعبر توثق الصلة بين الحاضر والماضي ، وتذكِّر بدور الهجرة في صياغة إنسان ونشوء مجتمع متميز ، كانت منه الانطلاقة الأولى نحو حضارة عالمية متكاملة ، نَعِم الناسُ في ظلالها الوارف قرونا عديدة . فما حقيقة تلك الهجرة ؟ وما المعالم والعبر التي نستلهمها منها في بناء الإنسان و نماء الأوطان ، وتجاوز واقع كليل إلى مستقبل جليل ؟

معنى الهجرة : 

الهجرة ـ في اللغة ـ من الهجر ، وهو ترك الشيء والابتعاد عنه ، يقال : هجر الرجل صاحبه : تركه وابتعد عنه ، وهاجر الرجل من بلده : انتقل منه إلى بلد آخر.

وانطلاقا من هذا المعنى اللغوي غَلَب استعمال لفظ " الهجرة " على الهجرة من " مكة المكرمة " إلى " المدينة المنورة " التي قام بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، نجاةً بأنفسهم ودينهم من أذى قريش واضطهادها وتعذيبها لهم .

ثم جاء لقب " المهاجرين " مقابِل لقب " الأنصار " وهم المؤمنون من أهل " المدينة " ، وتآخى الجميع في اللـه على السراء والضراء ، بقيادة النبـي الأعظم صلى الله عليه وسلم .

عمر والتاريخ الهجري : 

لم تكن هجرة النبي في بداية شهر " المُحَرَّم " كما يظن كثير من الناس ، وإنما كانت في ليلة ( 27 ) من شهر صفر سنة ( 14 ) من البعثة النبوية ، الموافقة لليلة ( 13 ) أيلول / سبتمبر سنة ( 622 ) للميلاد.

وتذكر الروايات التاريخية : أن أول من اعتمد التاريخ الهجري وأمر به في ضبط الحوادث والوقائع هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الذي جعل شهر " المحرَّم " بداية لكل سنة عربية " قمرية " ، وذلك لمناسبة انصراف الناس من موسم الحج وعودتهم إلى بلدانهم وأوطانهم . ...

وكان الناس قبل ما فعل عمر يؤرخون حوادثهم ويضبطون وقائعهم ومناسبا تهم " بحادثة الفيل " المشهورة ، التي أراد بها أبرهة وجنوده هدم الكعبة المعظمة ، فأرسل الله تعالى عليهم طيراً أبابيل .

وقد يتساءل المرء : لماذا اتُّخِذت الهجرة بداية للتاريخ في الإسلام دون غيرها من المناسبات ، كولادة النبي ، أو بعثته ، أو وفاته ، أو فتح مكة ، أو حجة الوداع ، ونحوها من المناسبات الجليلة في تاريخ الأمة الإسلامية ؟ .

إن الوقائع والشواهد العملية لتؤكد على بعد نظر عمر وعمق تفكيره في اتخاذ هذا القرار الحكيم ، حيث أدرك أن الله تعالى أعز الإسلام بالهجرة ، وأنها كانت مناسبة عملاقة لولادة الأمة الإسلامية ضمن دولة وكيان سياسي ذي سيادة وحكومة وشعب وإقليم ، بعيداً عن أذى قريش واضطهادها .

ولقد أيد الصحابةُ عمرَ فيما ذهب إليه ، ووافقوه في هذا الاختيار ، لأنهم وجدوا أن تلك الهجرة منحتهم ـ بحق ـ معاني الحرية الدينية ، والاستقلال في اتخاذ القرار ، فضلا عن العزة والمنعة والسلطان.

ولقد تبيَّن لاحقا للمنصفين من الباحثين : أن الهجرة كانت فاتحة عهد جديد في حياة العرب والمسلمين ، بل في حياة الإنسانية كلها ، حيث قامت الحضارة الإسلامية المتميزة في عقيدتها وسلوكها وتسامحها الإنساني ، وأضاءت حياة الأمم والشعوب لعدة قرون .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين