هل كان الشيخ محمد عبده مادياً منكراً للغيبيات والمعجزات والقصص القرآني؟

لعلي لا أبالغ إذا قلت: إنه لا يوجد عالم مسلمٌ رُمي بالإفك والبهتان والكذب مثل الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله، فقد استطال في عرضه الكثيرون ممَّن انتحلوا العلم والإمامة والغيرة على الدين، وسوّدوا في ذلك الصحائف.

ولو بحثت في الشبكة العنكبوتية فإنك واجدٌ العشرات من المقالات الطاعنة في الإمام، بل المكفرة له، والمخرجة له من ملة الإسلام، ولن تجد في الذبّ عنه إلا النزر القليل، وبعض هذا النزر لا ينقع أواما، ولا يطبّ سقاما.

فرية إنكار الملائكة

فأول هذه البهائت والأفائك: القول بأن الشيخ محمد عبده لم يكن مؤمناً بالغيبيات الثابتة في الكتاب والسنة، مثل الملائكة والجن، بل كان يؤولها ويصرفها عن معانيها إلى معانٍ أخَر.

وأصل هذه البهيتة أن الشيخ لما تعرَّض لقصة الملائكة وآدم في سورة البقرة حكى في معنى الملائكة قولين:

الأول: مذهب السلف، وهو أنهم خلق أخبرنا الله بوجودهم، وببعض عملهم، فيجب الإيمان بهم، ولا يتوقف ذلك على معرفة حقيقتهم، فنفوض علمهم إلى الله، لهم أجنحة ولكن ليست من الريش، وهم موكلون بالعوالم الجسمانية كالنبات والبحار(1).

وقد قال قبل ذلك : (أنا على طريقة السلف في وجوب التسليم والتفويض فيما يتعلق بالله تعالى وصفاته وعالم الغيب)(2).

الثاني: مذهب الخلف، فمنهم من تكلم في حقيقة الملائكة ومنهم من أمسك، لكنهم اتفقوا على أنهم يعلمون ويدركون(3).

ثم ذكر مذهباً ثالثاُ، وهو أن مجموع ما ورد في فهم معنى الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات وخلقة حيوان وغيره فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق، وهو أن هذا النمو في النبات لم يكن إلا بروح خاصّ نفخه الله، فكل أمر قائم بنظام مخصوص قوامه بروح إلهي سماه الشرع ملكاً، ويسميه غير المؤمن قوى طبيعية، والحقيقة واحدة(4).

ثم ذكر أنه لا يوجد في الدين ما يمنع من هذا التأويل(5).

فأنت ترى:

1- أن الشيخ رحمه الله إنما يختار لنفسه مذهب السلف، فمن رماه باختيار المذهبين الآخرين فقد افترى عليه.

2- ومع ذلك يجعل المذهبين الأخيرين سائغين ولا يستوجبان التكفير والإخراج من الملة، وهو يرى أن هذَين المذهبَين لهما أثر في تقريب الملحدين الذين ارتفع صوتهم في زمانه إلى الإيمان.

3-ثم هو يجعل المذهب الأخير من باب الإيماء والإشارة كما ترى، وليس المعنى المطابق، فليست الملائكة هي القوى الطبيعيَّة، بل هي إشارة إلى تلك القوى، وفرقٌ بين الأمرين لمن تدبر.

وهو لم يكن موافقاً على هذا الإيماء، لأنه فسر قوله تعالى (فالمدبّرات أمرًا) بالكواكب لا الملائكة(6).

وما ارتكبه الشيخ رحمه الله أهون مما فعله حجة الإسلام الغزالي مع الفلاسفة، حيث إنه نقدَ قولهم بأن الملائكة السماوية هي نفوس السماوات، وأن الملائكة الكروبيين المقربين هي العقول المجردة التي هي جواهر قائمة بأنفسها، لا تتحيز، ولا تتصرف في الأجسام(7).

ولكن الغزالي لم يجعل هذا القول من الفلاسفة من المسائل الموجبة لإكفارهم، وعلل ذلك بأن جميع ما نقله عنهم قد نطق به فريق من فرق الإسلام، إلا مسائل ثلاثة فقط توجب إخراجهم من الملة، وليست هذه منها(8).

فرية إنكار الجن

ادعى الشيخ غازي التوبة أن الشيخ محمد عبده لا يؤمن بالجن، بل يؤولهم بالمكروبات التي اكتشفها العرب حديثا! (9)

وهذا بهتان صراح، فإن الشيخ محمد عبده يثبت وجود الجن ويجعلهم صنفاً من الملائكة، لأن القرآن أطلق تسمية الجن على الملائكة فقال: (وجعلوا بينه وبين الجِنَّة نسبا)، ثم يقول: (جميع هؤلاء المسمَّيات بهذه الأسماء من عالم الغيب لا نعلم حقائقها ولا نبحث عنها، ولا نقول بنسبة شيء إليها ما لم يرد لنا فيه نصٌّ قطعي عن المعصوم)(10).

وقال أيضا عن الجن: (وهم الخلق المستترون الذين لا نعرفهم وإنما نجد في أنفسنا أثراً ينسب إليهم، ولكل واحد من الناس شيطان، وهي قوة نازعة إلى الشر يحدث بها في نفسه خواطر السوء)(11).

ثم جاء السيد رشيد رضا رحمه الله فجعل المكروبات داخلةً في مفهوم الجن، ونوعاً من أنواعه، وليس المفهوم المطابق له، وكان الذي حمله على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (الطاعون وخز أعدائكم من الجن)(12).

ومن المعروف علمياً أن سبب الطاعون براغيث توجد في أجساد الفئران، فأراد السيد رشيد تنزيه الحديث عن مخالفة العلم.

وقد ردّ السيد رشيد على ما ادعاه الشيخ يوسف الدجوي عليه بأنه ينكر الجن ويؤول كل أنواعه بالمكروبات، وقال: (هذا افتراء وبهتان.....الجن خلق خفيّ مستتر من عالم الغيب أثبتهم جميع الأديان، وطريقتنا فيهم هي الإيمان بكل ما أخبر الله تعالى من أمرهم في كتابه وبكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن علم به)(13).

ومنه يتبين أن الأستاذ التوبة أخطأ خطأً مزدوجا، إذ زعم أن محمد عبده يؤول الجن بالمكروب! وقد رأيت أن الشيخ رحمه الله لم يتطرق إلى ربط الجن بالمكروبات مطلقا، وأن هذا الربط لتلميذه رشيد رضا، وهو أيضاً لا يستلزم نفي الجن، لأنه يجعل المكروبات نوعاً من أنواع الجن، لا المفهوم المطابق لمعنى الجن.

ولكن الشيخ التوبة أُتيَ من الخلط بين كلام محمد عبده وكلام رشيد رضا، فجعل كلام الثاني للأول، وهذا خطأ منهجي منشؤه التسرع، وقد تكرر منه، وسيأتي معنا مثالٌ آخر على ذلك.

فرية إنكار المعجزات:

زعم الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي أن (دعاة الإصلاح) ومنهم الشيخ محمد عبده أنكروا معجزات الأنبياء مطلقا، وأن هذا جزء من دور العمالة للاحتلال البريطاني الذي كانوا يقومون به! (14)

ومن قبله عزا الشيخ مصطفى صبري القول بنفي معجزات الأنبياء، هكذا مطلقا، إلى الشيخ محمد عبده وتلاميذه! (15)

فهل أنكر الشيخ محمد عبده المعجزات فعلا؟

يقول الشيخ رحمه الله : (المعجزة ليست من نوع المستحيل عقلا، فإن مخالفة السير الطبيعي المعروف في الإيجاد مما لم يقم دليل على استحالته)(16).

ثم قال: (المعجزة لا بد أن تكون مقرونة بالتحدي عند دعوى النبوة، وظهورها من البراهين المثبتة لنبوة من ظهرت على يده)(17).

لذلك أثبت الشيخ معجزة فلق البحر لموسى عليه السلام، ورد على من أوّلها بجزر البحر، بل أغلظ في الرد عليهم ووصفهم بالمتهورين(18).

ومن المضحك المبكي أن الشيخ مصطفى صبري نسبَ تأويل معجزة فلق البحر بالجزر الى الشيخ محمد عبده الذي يردّ هذا التأويل ويصف أصحابه بالتهوّر كما ترى! (19)

وأثبت معجزة رفع الطور لبني إسرائيل باقتلاعه من مكانه وزعزعته، وذكر أن رؤية الآيات تقوّي الإيمان(20).

وأثبت معجزة الكلام في المهد لعيسى عليه السلام مع إنكار النصارى لوقوعه، وقال: (والكلام في المهد يصدق بما يكون في سن الكلام، وهي سنة فأكثر، وما يكون قبل ذلك، وهو آية على كل تقدير)(21).

لكن الشيخ يشترط لإثبات المعجزة والكرامة أن يثبتهما النص بشكل قاطع، وأن لا يكون فهمهما عن طريق الإشارة أو الروايات الإسرائيلية.

لذلك لم يثبت كرامة حصول الطعام لمريم عليها السلام من خلال قوله تعالى: (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا)، لأنه رأى أنَّ نص القرآن لا يعطي ذلك، بل إثبات تلك الكرامة جاء في بعض الروايات الإسرائيلية(22).

وكذلك توقف في معجزات عيسى عليه السلام، لأنه رأى أن النص القرآني جعل فيه القوة على تلك المعجزات من إحياء الموتى وخلق الطير من الطين وإبراء الأكمه والأبرص، لكنه لم يذكر أن تلك المعجزات تحققت بالفعل، قال: (وقد جرت سنة الله تعالى على أن تجري الآيات على أيدي الأنبياء عند طلب قومهم لها، وجعل الإيمان موقوفاً عليها، فإن كانوا سألوه شيئاً من ذلك فقد جاء به)(23).

فأنت ترى أنه توقف في إثبات تلك المعجزات، ولم يبتّ النفي المطلق فيها، وذلك توقفاً منه عند حدود النص.

ولا شك أن هذا التوقف منه خطأ رحمه الله، لأن معجزات عيسى عليه السلام ثابتة بآيات أصرح هي آيات سورة المائدة.

ثم إن الشيخ رحمه الله يرى أنَّ زمن المعجزات انتهى بمجيء النبوة الخاتمة، لأن الإنسان (دخل بدين الإسلام في سنّ الرشد، فلم تعد مدهشات الخوارق هي الجاذبة له إلى الإيمان وتقويم ما يعرض للفطرة من الميل إلى الاعتدال....فإيماننا بما أيَّد الله تعالى به الأنبياء من الآيات لجذب قلوب أقوامهم الذين لم ترتقِ عقولهم إلى فهم البرهان لا ينافي كون ديننا هو دين العقل والفطرة وكونه حتّم علينا الإيمان بما يشهد له العيان)(24).

ولذلك فهو لا يثبت للنبي محمد صلى الله عليه وسلم سوى معجزة القرآن.

فإن الشيخ رحمه الله يشترط القطع في إثبات المعجزة، ومعلوم ان آية انشقاق القمر ظنية الدلالة، ففيها قولان معروفان، أما الإسراء والمعراج فهي كرامة من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم حدثت في الليل في غياب المشركين كما هو معلوم، فلم يُقصد منها التحدّي.

أما الأحاديث الواردة في هذا الصدد فآحاد، والشيخ يشترط القطع في إثبات المعجزات كما سلف.

ومما يتصل بهذا الباب: حمل الشيخ ما أصاب أصحاب الفيل على مرض الجدري، فإن هذا التأويل مما تجانف فيه كثير من الناس على الشيخ وحمّلوه ما لا يحتمل، وزعموا كذباً ومَيناً أن الشيخ يؤول الطير الأبابيل بمرض الجدري!

وهذه الشبهة تصدّى لها المنصفون، مثل الشيخ مصطفى الزرقا(25)، والدكتور سليمان دنيا(26)، فبينوا أن الشيخ لم يؤول شيئاً مما أثبته القرآن من قصة أصحاب الفيل، فأثبت ما يمكن أن يصدق عليه لغةً (الطير الأبابيل) و(الحجارة من سجيل)، فالبعوض يصدق عليها لغةً أنها طير أبابيل، أي جماعات، وما تحمله في أرجلها من حجارة صغيرة الحجم يصح وصفها بالحجارة من سجيل، أي طين.

أما الأمر الذي تفرد به الشيخ فهو أمرٌ آخر لم تتطرق إليه الآيات الكريمات من سورة الفيل، وهو كيفية إهلاك أصحاب الفيل، فهناك روايات بينت أن هذا الإهلاك كان بأمر خارق للعادة، وكان بأن خَرقت تلك الحجارة أجساد القوم، وهناك روايات أخرى ذكرت أن مرض الجدري تفشّى في جيش أبرهة، فكان ذلك سبب هلاكه، فيكون مرض الجدري ناشئاً عن المكروبات التي حملتها تلك الحجارة الصغيرة، والتي ألقاها ذلك البعوض(27).

وما دام أن الأمر لم تتطرق إليه الآيات فيبقى مجال تأويلها فيه سعة عند المنصفين، سواءٌ أتفقت مع تأويل الشيخ أم اختلفت.

ومن هذا البيان يتبين أن نسبة القول بنفي المعجزات إلى الشيخ محمد عبده افتراء محض، وتجنّ بحت، ومن المؤسف أن يقع في هذا الافتراء والتجني الشيخان مصطفى صبري والبوطي عفا الله عنهما!

وقريبٌ من صنيع الشيخين ما ادعاه الشيخ غازي التوبة من أن محمد عبده أوّل خلق عيسى عليه السلام باعتقاد نفسي استولى على مريم حتى حملت بعيسى عليه السلام(28)! وغاب عنه أن هذا التأويل هو للسيد رشيد رضا لا للشيخ محمد عبده(29)، ولكن التوبة كثير الخلط بينهما.

ومع ذلك، فإن السيد رشيد رضا يذكر مثل تلك التأويلات لردّ شبهات الماديين الملحدين الذين طغت موجتهم في زمانه، لا اعتقاداً منه بها، كما نصّ في تفسيره مراراً، وكما جاء في رسالته للشيخ عبد الرحمن بن سعدي لمّا أنكر عليه وجود تلك التأويلات في تفسيره (30).

فرية إنكار القصص القرآني

وهذه من أشنع القبائح التي نُسبت إلى الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وهو بريء منها براءة الذئب من دم يوسف.

والذي تولى كبْر هذه الفرية الشيخ أمين الخولي وتلميذه محمد أحمد خلف الله، إذ لما كتب الأخير رسالته الباطلة للدكتوراة والمسماة (الفن القصصي في القرآن)، والتي صرّح فيها بوجود أساطير في القرآن الكريم، قامت الدنيا على التلميذ والمشرف عليه معاً، بل صرّح كثير من العلماء بارتدادهما عن الملة، والعياذ بالله.

وهنا، لم يجد التلميذ والمشرف عليه سوى التمسّح بالشيخ محمد عبده ومدرسته، والزعم أن ما جاءا به من زور وبهتان كان يدرّسه الشيخ في أروقة الأزهر قبل أربعين عاما!!

والحقيقة أنه لا يضاهئ قباحة الرسالة التي جاء بها التلميذ والمشرف إلا قبح تلك الأفيكة التي عزواها بعدم ورع إلى الأستاذ الإمام رحمه الله!

والكلام في هذا الصدد ينطوي تحت قسمين: نظري وعملي.

أما الأول، فهو القسم النظري، فهناك بون شاسع واختلاف عميق وجذري بين المدرستين، فبينما يرى الشيخ محمد عبده أن المقصد من القرآن الكريم هو الهداية من الله للعالمين(31)، نجد الخولي يتعقبه في ذلك بشدة، حيث يرى أن (المقصد الأسبق والغرض الأبعد هو النظر في القرآن من حيث هو كتاب العربية الأكبر، وأثرها الأدبي الأعظم)(32).

ومعنى هذا الكلام المزخرف: أن التفسير الأدبي هو الغاية الكبرى من التفسير، فحملُ آيات القرآن على معانٍ أدبية ولو كانت غير مطابقة للحقائق أولى من حملها على الحقائق، لأن غاية القرآن الكبرى الأدب، أما الهداية فهي هدف ثانوي!

أما من الناحية العملية، فإننا نرى أن الشيخ محمد عبده ينتهج منهج الإثبات للقصص القرآني بحقائقه، إلا في حالة استحالة حملها على ظاهرها، فلها توجيه خاص كما سيأتي.

بينما نجد أن محمد أحمد خلف الله يرى أنه لا بأس من وجود الأساطير في القرآن، لأن (هذه السبيل سبيل الآداب العالمية والأديان الكبرى، ويكفينا فخراً أن كتابنا الكريم قد سنّ السنن وقعّد القواعد وسبق غيره في هذه الميادين)! (33)

ولو استعرضنا تفسير الشيخ محمد عبده لما فسّره من القرآن الكريم، فسنجد أنه يحمل القصص القرآني على الواقع والحقيقة، ولا يجعله من الأساطير المختلقة.

حتى ما ادّعى بعضهم أن الشيخ يؤوله، فلا تصمد هذه الدعوى أمام النظر المنصف في كلامه.

فقد ادعى الشيخ محمود شلتوت أن الشيخ محمد عبده يؤول قصة البقرة، ويجعلها نوعاً من التشريع الذي كان موجوداً زمن بني إسرائيل! (34)

وهذه وهلةٌ من الشيخ شلتوت ووهَم غريب منه، وإن كان من مدرسة الشيخ محمد عبده رحمه الله!

والواقع أن كلام الشيخ رحمه الله صريحٌ في إثبات للقصة، وردٌّ على من أنكرها، فلا أدري من أين فهم الشيخ شلتوت الإنكار؟ 

فقد رد الشيخ في البداية على شبهة عدم معرفة بني إسرائيل بالقصة، وبيّن أن القرآن جاء بها من عند الله، الذي يقول في بني إسرائيل المتأخرين: إنهم نسوا حظاً مما ذكروا به، ثم ذكر بعد ذلك أن الحكم الذي تضمنته القصة منصوصٌ في التوراة، وهو أنه إذا قُتل قتيل فالواجب أن تُذبح بقرة غير ذلول في وادٍ ويغسل جميع شيوخ المدينة القريبة من المقتل أيديهم في دم تلك البقرة، ثم يبرؤوا من ذلك الدم، ثم قال الشيخ: (فيحتمل أن يكون هذا الحكم هو من بقايا تلك القصة، أو كانت هي السبب فيه، وما هذا الحكم بالحكم الأول الذي حرّفوه أو أضاعوه وأظهره الله)(35).

فأنت ترى أن كلام الشيخ ينضح إثباتاً للقصة، وتأمل كيف أنه جعل الحكم (من بقايا تلك القصة أو كانت هي السبب فيه) فلم يجعل القصة هي عين الحكم، بل غاير بينهما.

ثم لا أدري كيف يمكن أن يتأتى تأويل قصة ذات شخوص وأحداث، بحكم وهو أمرٌ وإنشاء؟ إن هذا لشيء عجاب! ولا يمكن تصوره أصلاً عند ذوي الألباب.

فإن قيل: فما هي شبهة من جعلوا الشيخ محمد عبده على طريقة خلف الله في القصص القرآني؟

فالجواب: دخلت عليهم الشبهة من أمرين:

الأول: تسويغ الشيخ لتأويل قصة آدم والملائكة خاصة، مع اختياره مذهب السلف من تفويض القصة إلى الله، لكنه رأى أن تأويلها سائغ لمن اختاره، وذلك لسبب خاص بها، وهو لأنها بحسب قانون التخاطب إما استشارة من الله تعالى للملائكة، وإما إخبار منه سبحانه للملائكة واعتراض منهم وجدال، وكلاهما لا يجوز(36).

ونحن نخالف الشيخ في تسويغه ذلك التأويل، ونرى أنه من سقَطاته التي لا ينبغي الموافقة عليها.

ومع ذلك فأنت ترى أن تسويغ الشيخ لتأويل قصة آدم له سبب خاص، فلا يجوز جعل سواغية التأويل قاعدة مطَّردة عن الشيخ.

ومن ذلك يتبين مدى التحيّف والجنف في قول فهد الرومي بعد أن ذكر تأويل قصة الملائكة وآدم: (وهو مذهب لم يذهب إليه الشيخ محمد عبده في هذه القصة فحسب، بل هو منهج سار عليه وبعض تلاميذه(37) في معظم قصص وأخبار القرآن)(38)!!

وعند الله تجتمع الخصوم.

الثاني: قول الشيخ في قصص الأنبياء والأمم الواردة في القرآن (وهو أنه لم يقصد بها التاريخ وسرد الوقائع مرتبة بحسب أزمنة وقوعها، وإنما المراد بها الاعتبار والعظة)(39).

فهنا يردّ الشيخ على شبهة عدم تقيد القرآن بالترتيب التاريخي، لأنه ذكر الاستسقاء وضرب الحجر قبل التيه، ولا شك أن القرآن لم يقصد إلى هذا الترتيب التاريخي، وأن التقديم والتأخير في القرآن له غايات بلاغية، ولكن أين هذا من الزعم أن في القرآن أساطير كما زعم خلف الله؟

كيف؟ والأستاذ الإمام لا يفتأ يؤكد على أهمية التاريخ في فهم القرآن، ولو كان القصص القرآني لا يطابق الواقع لما كان ثمت أهمية لدراسة التاريخ.

وفي ذلك يقول: (إنما يحسن تفسير هذه الآيات من كان على علم بتاريخ اليهود في ذلك العصر)(40).

وقال: (لا يفهم هذه الآية حق فهمها إلا من كان عارفاً بتاريخ الملل عند ظهور الإسلام وقبله)(41).

وفي الختام، فإنني أكرر الدعوة إلى القراء الكرام أن لا يلتفتوا إلى كل قائل تسوّر الكلام على هذه المدرسة، وإن تلفّع بمعسول القول، وتظاهر بمحمود الغيرة على الدين، فإن وراء الأكَمة ما وراءها، وإن هذه المدرسة لها مداركُ وفنون تقصر دونها همم الشانئين، فضلاً عن خَبب الهواة الناشئين .

------------

(1) تفسير المنار 1/254

(2) تفسير المنار 1/252

(3) تفسير المنار 1/255

(4) تفسير المنار 1/267

(5) تفسير المنار 1/269

(6) تفسير جزء عم للشيخ محمد عبده ص10، وانظر مجلة المنار 32/764

(7) تهافت الفلاسفة ص226

(8) تهافت الفلاسفة ص309

(9) الفكر الإسلامي المعاصر ص49

(10) تفسير المنار 1/265

(11) تفسير جزء عم ص186

(12) تفسير المنار 7/319

(13) مجلة المنار 32/767

(14) كبرى اليقينيات الكونية ص222

(15) موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين 1/25

(16) رسالة التوحيد ص81

(17) رسالة التوحيد ص82

(18) تفسير المنار 1/315

(19) موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين 4/20 وهذا يشير إلى أن كثيراً مما عزاه مصطفى صبري إلى الشيخ محمد عبده وتلاميذه يحتاج لتنقيد وتفتيش، فقد بلوت بعض ما نسبه اليهم فوجدتهم قد صرّحوا في كتبهم بخلافه، مثل عزوه إنكار وجود الشيطان الى الشيخ محمود شلتوت رحمه الله! والغالب على الشيخ صبري مناقشة محمد فريد وجدي ومحمد حسين هيكل وعدم الاطلاع على كتب الشيخ محمد عبده، ومن ثم فهم يظن أن كل ما قالا به من آراء شاذة يقول به الشيخ محمد عبده!

(20) تفسير المنار 1/342

(21) تفسير المنار 3/307

(22) تفسير المنار 3/293

(23) تفسير المنار 3/311

(24) تفسير المنار 3/315

(25) مجلة الرسالة العدد (749) نوفمبر سنة 1947.

(26) انظر: الشيخ محمد عبده وآراؤه في العقيدة الإسلامية ، إعداد حافظ الجعبري، ص596 فما بعد.

(27) تفسير جزء عم ص158

(28) الفكر الإسلامي المعاصر ص48 وكذلك ذكر في مقالة ( قراءة في وقائع من حياة محمد عبده)، ومن المؤسف أن التوبة يستكثر حتى لقب (شيخ) على محمد عبده، فلا يذكره إلا باسمه مجردا!!

(29) انظر: تفسير المنار 3/309

(30) مجلة المنار 29/147

(31) تفسير المنار 1/ 19

(32) مناهج تجديد ص303

(33) الفن القصصي في القرآن ص209

(34) تفسير شلتوت ص39

(35) تفسير المنار 1/347

(36) تفسير المنار 1/251

(37) كذا! وهو تعبير ركيك يقبح أن يقع في رسالة جامعية، والجادة: منهج سار عليه هو وبعض تلاميذه، لأنه لا يحسن العطف على الضمير المرفوع بارزاً كان أو مستتراً إلا بعد توكيده بضمير منفصل.

(38) منهج المدرسة العقلية في التفسير ص457

(39) تفسير المنار 1/327

(40) تفسير المنار 1/360

(41) تفسير المنار 2/96ش

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين