الفرقة النَّاجية

قالوا: ما تقول في الخبر الذي يستند إليه أهل العقيدة والكلام في افتراق هذه الأمة ثلاثا وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة؟

قلت: روي بأسانيد وطرق مختلفة كلها ضعيفة، لا تقوم بها حجة، منها ما أخرجه ابن ماجه وغيره من طريق عباد بن يوسف حدثنا صفوان بن عمرو عن راشد بن سعد عن عوف بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده! لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار، قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: الجماعة".

ومنها ما أخرجه الترمذي وغيره من طرق عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليأتينَّ على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة،قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي".

قلت: وقد روي عن غيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كما ذكرتُ حديث ضعيف لا تقوم به حجة.

قالوا: تستعمل كثير من الطوائف هذا الحديث تسويغا لاقتسامها وتمزُّعها وانحلالها وتقطُّعها.

قلت: قد فعلتْ ذلك، وبئسما فعلتْ، إذ فرَّقت أمَّة النبيّ صلى الله عليه وسلم المتوحِّدة المتضامنة إلى قطع وزمر وفصائل متبدِّدة ومتصدِّعة تتجادل فيما بينها متسابَّةً متشاتمةً، مؤديًّا جدالها إلى أحقاد لاتنتهي وإحن وتِرات، مستثيرةً بينها فتنًا وحروبًا متواليات، دائمة بينها الشحناء والبغضاء قرونًا وآمادًا وأعصارًا، متوغلة بينها الضغائن والغوائل قرىً ومدنا وصحارى وقفارًا، بل عادت بعضها بعضا أكثر من معاداتها الكفار والمشركين معاداةً أعقبت هجرًا مقيتًا وشمتًا بغيضًا وندمًا طويلا، ويا ليتها أدركت مؤونات العداء فرُدَّت إلى وعيها وعقلها ردا جميلا. 

قالوا: تستند هذه الطوائف المتشاكسة إلى هذا الحديث متعزَّزة بها أنها هي الفرقة الناجية، وأن غيرها من الطوائف تدخل النار دخولا.

قلت: إن هذا لاستكبارٌ في الأرض وتعالم على الله عز وجل، وما أضيع العدل إذا رُدَّ الحكم والقضاء إلى سباع من الغابة عاتية، وإنها لسوأة يهودية نصرانية استنكرها الله في كتابه استنكارًا شديدًا، قال تعالى: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}. (سورة البقرة 111)، بل تبع المشركون اليهود والنصارى في هذه الوصمة، قال الله تعالى: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب، كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم، فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}. (سورة البقرة 113)، وانظروا إلى قلة حياء هذه الطوائف وكذبها وافترائها: {وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده}. (سورة البقرة 80)

قالوا: فما ترى في الفرقة الناجية، أي طائفة هي؟ 

قلت: لا أرى أن نحصر الفرقة الناجية في طائفة معينة، فإن حصرها في طائفة معينة تأويل زائغ تسارعت إليه تلك الطوائف والفرق عادلة بالحديث عن معناه ومنكبة عن موالاة الله ورسوله، وهو تأويل يرده القرآن والسنة وهذا الحديث أيضًا من ثلاثة وجوه:

قالوا: ما هي؟ 

قلت:الأول. الفرقة الناجية كما يقرر هذا الحديث هم الذين قد أخلصوا ثباتهم على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم واصحابه، فهم أفراد ذوو صفات خاصة ومعاني محمودة وسمات إلى الله مقربة، لا أفراد جلُّ ميزتهم الانتماء إلى فرقة وكتلة بعيدين عن الفضائل والمحامد بعدا.

والثاني: النجاة في الآخرة لا تحصل لفرق وطوائف، وإنما تتحقق للأشخاص والأفراد، فلا تحاسب المجموعات يوم القيامة، وإنما يحاسب الأفراد والأشخاص، يحكم عليهم إما إلى الجنة وإما إلى النار، وما أشقى من قضي عليه بالنار رغم ما كان عليه من عقيدة وانتماء، وما أسعد من قضي له بالجنة محفوفين بالملائكة المقربين وأعين الناس والإشارات.

والثالث: إذا جاء الإيمان جاء الخوف، فأهل الإيمان الصحيح ليست لهم دعاوٍ جوفاء وأمانٍ فارغة، بل إنهم يخافون على أنفسهم النفاق وسوء الخاتمة، وكان أبو بكر الصديق وهو أفضل البشر بعد الأنبياء يخاف على نفسه. وإذا جاء الانتماء إلى فرقة أو مذهب جاء الأمن والتفاخر. فكل فرقة تتفاخر بأنها هي الناجية، والحق أنها لم تكسب إلا الانتماء إلى فرقة من الفرق. وهذا الانتماء يحصل للمنافق والفاسق، والإيمان والإسلام اللذان تعتمد عليهما النجاة فإنهما لايتحققان إلا بعد عمل طويل وجهد شديد مع محبة الله وخوفه.

وهذه الفرق وإن كانت قد فرقت المسلمين إلى مذاهبها وآرائها، فإن عامَّة المسلمين، ليس انتماؤهم إليها إلا انتماءًا ظاهرًا عاديًا بحكم النشأة بينها، وهم لا يعلمون شيئًا من معاني العقيدة والكلام.

قالوا: ولكن زعمت بعض هذه الفرق أن تسعة وتسعين بالمائة من المسلمين على رأيها ومذهبها.

قلت: قد كذبت، فإن تسعة وتسعين بالمائة من المسلمين لا يرتبطون بعقيدة ولا كلام، ولا يعلمون شيئًا من المباحث العقدية والمجادلات الكلامية، وقد صانها الله تعالى من التورط في هذه الأمور لطفًا بها وإنعامًا عليها، فلو شافهتهم في قراهم ومدنهم ومساجدهم ومحافلهم وسألتهم عن عقيدتهم لما عرفوا شيئًا، فمن كان منهم على ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان والعمل الصالح وعدم العقيدة والكلام فإنهم من الناجين، وإن الحديث ليوصي أن الناجين هم الذين تشبَّثوا بما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم رجال ونساء من بين كل هذه الفرق والطوائف، عامرين بذكر الله، متمسكين بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وآنسين بأصحابه رضي الله عنهم، وموحشين مجالسَ التفرق والتحزب والتعصب، فلينعموا بطيب جنة النعيم، وليأنسوا بأهلها الأنبياء والمرسلين والمتقين الأبرار الصالحين، اللهم اجعلنا منهم مثبِّتًا إيَّانا على سنَّتهم ومنهجهم، وواقيًا إيَّانا شرَّ المتفرِّقين المتحزِّبين المتعصِّبين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين