الخسارة التي لا تعوّض !

كل يوم ينظر الواحد منا في المرآة ، يتفقّد ظاهره و قَسَماته ، ليكون مقبولاً أو مميّزاً في أعين الناس . ثم ينطلق في دنياه ، دون أن يُلقي نظرةً على صورة قلبه في نظر مولاه ! فكيف يكون الحال لو أنّ هناك مرآةً خاصة تعكس صورتة الباطنة وملامحه الخفية ؟ وتصوّر بدقّة وظيفته في دنياه ومثاله في الحياة ؟ ماذا لو نظر أحدٌ في مرآة الباطن فرأى عقرباً ناقع السُّمّ بدلاً من مُحيّاه الجذّاب ، أو وحشاً حادّ الأنياب ، أو حذاءً ممزّق الإهاب ! أو نظر فرأى غصناً نديَّ الزهر دانيَ الثمر ، أو شمعةً تحترق وتنشر الضياء ، أو سهماً في كبد الظلم والافتراء .. ماذا لو تجسّد الباطن نصبَ العين ، وصار الشخص يبصر حقيقته في مواقفه المبدئية ، سيّما في الأحداث الكبرى والقضايا المفصلية . لحظة صدق فقط تكفي كي تنطق مرآة الباطن بخفايا الحقيقة القابعة وراء ركام النفاق وسراب المكاسب ! قد يبلغ المرء فوقَ ما كان يؤمّل ، لكنه يرى نفسه خاسراً ، تلاحقه لعناتُ الظلم وطعنات الإثم ! وقد تعترضه السدود فلا يصل إلى ما يريد ، لكنّ بريق الانتصار يتراقص في قسماته ويشعّ في كلماته ! لكن كيف نفسّر ذلك ؟ إنّ الخسارة الحقيقية هي التي تحدث على مستوى الباطن ، ولا يمكن أن يعوّضها شيء على مستوى الظاهر . كأنْ يفقد المرءُ طموحاً كان يتوقّد في داخله ، فخمد .. أو حباً كان ينبض مع قلبه ، فتوقّف وهمد .. أو انفعالاً بما حوله وإحساساً بمن حوله ، كان يجري في عروقه ، فجمد ..

وعلى كثرة ما يصيبنا من فَقْد ، إلا أنه ليس هناك أشدّ من أن يفقد المرءُ الاتصال بقلبه ، فيفقد بعده ذاته كلها .. و كذلك الانتصار الحقيقي ، هو الذي يحدث على مستوى الباطن ، ولا تستطيع النكبات والكدمات أن تنال منه مهما بلغتْ على مستوى الظاهر . ولو تأمّلتَ حالَ أولئك الذين يخرجون من تحت الأنقاض أعظمَ همةً وأكثرَ إصراراً على مواصلة الطريق ؛لعرفتَ أنّ في داخلهم شيئاً لا يأبه بالأخطار ويدفعهم إلى الاستمرار ؛ ذلكم الشيء هو إرادة الانتصار ! إننا نجد لفقد الأحبة بقيةً من صبر .. ونجد لضيق الحال وضنك العيش بُلْغةً من عمل .. ونجد لتباريح المرض فسحةً من أمل ..

حتى للموت نجد بارقةً من حُسن الظنّ بالله أرحم الراحمين .. لكن ماذا عسانا أن نجد إذا حِيلَ بيننا وبين القلب ؟ وماذا عسانا أن نفعل إذا لم يعد بمقدورنا أن نسمع أصواته المحزونة ونتّصل بأشواقه المكنونة وذخائره المدفونة ؟ لا أعتقد أنّ هناك عقوبةً إلهية ، أو عِلّةً جوهرية ، أشدّ من الحيلولة بين الإنسان وبين قلبه ! لأننا عند هذه العقوبة أو العلّة لن نشعر بفداحة الخسارة ، وضراوة الطفرة الباطنة ! والشخص المصاب بهذا الداء لا يريد أن يشعر أنه يشعر ، ولا يريد أن يرى أنه أعمى لا يبصر ! وهنا يفرض السؤال الكبير نفسه : لماذا حالة الصمت المطبق عمّا يجري في الغوطة ؟ و كيف يعيش أكثر البشر في انفصال عن مأساة البشرية وكأنّ شيئاً لم يكن ؟ صفحات كثيرة وأقلام كبيرة وجماهير من المتابعين غفيرة ؛ في انصراف عجيب عن الإبادة الأكثر وحشية ودموية !

و أكثر من ذلك ، نجد مثقّفين و مثقّفات من دمشق لديهم متسع فسيح لإثارة خلاف في غير حينه ونسف أحاديث نبوية صحيحة بالتزامن مع نسف الأحياء المأهولة في الغوطة !! و لو أدركوا حجم المآسي المهولة وحرمة الدماء المسفوحة لمنعهم الحياء من الخوض الأليم في جدلٍ عقيم ! والجواب : إنه الفارق الشاسع بين إنسان وفّى لإنسانيته ، وآخر تنكّر لها فهان ثم خان . إنه الاختلاف بين إنسان يرى في ممارسة إنسانيته انتصاراً برغم ما يصيبه من خسائر ؛ وآخر يرى المحافظة على مكتسباته نصراً وهو المنهزم أمام ذاته ولذّاته ! لقد حسم القرآن العظيم القضية ، فقضى أنّ الخاسر الحقيقي هو الذي خسر نفسه ! والأمر الجدير بالنظر ، أنّ البيان الإلهي نفى الإيمان عن أولئك الذين خسروا أنفسهم : { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } / الأنعام الآية ?? والآية ?? أيضاً .

ولا يصل الإنسان إلى هذه المرحلة من خُسران الذات إلا حين يصاب بالعلّة القاتلة : الحيلولة بينه و بين قلبه .. لأنه بعد هذا الداء يصير خَلْقاً شائهاً ، يشبه في صورته البشر ولكن يشبه في باطنه الحجر ! { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ .. } صدق الله العظيم .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين