تاريخ ندوة العلماء بلكنو، الهند (2)

تمهيد

سأعرض في هذا التمهيد تاريخ انضواء الهند إلى لواء الإسلام وحكمه السياسي فيها الممتد إلى ألف سنة تقريبا، ووضعها التعليمي خلال ذلك العهد الطويل.

إطلالة على الحكم الإسلامي في الهند:

بدأت الصلة بين بلاد العرب والهند منذ قرون قبل بعثة النبي صلى الله عليهوسلم ، ودخل الإسلام في الهند عن طريق التجار والدعاة، ثم اتجهت حملات سياسية نحوها منذ أيام الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أن جهّز الحجّاج بن يوسف الثقفي جيشًا بقيادة محمد بن القاسم الثقفي إليها سنة اثنتين وتسعين من الهجرة، وأسس دولة عربية في السند جزءًا من الخلافة الأموية، وتمكن هشام بن عمرو التغلبي أحد ولاة العباسيين في السند من فتح الملتان وكشمير، ولما سرى الضعف إلى الخلافة العباسية، انقسمت بلاد السند إلى إمارة المنصورة، وإمارة الملتان، وإمارة إسماعيلية حتى جاء الغزنويون، والذين ورثوا الدولة السامانية، واتخذوا غزنة عاصمة لدولتهم، ومؤسسها هو سُبُكْتكين (ت 387هـ) الذي استولى على منطقة بنجاب، وخلفه ابنه محمود بن سبكتكين (ت 421هـ)، وغزا داخل الهند سبع عشرة مرة، وفتح قنوج وكجرات وما والاها من المناطق الواسعة، وعم العلم والسلام والرخاء في أرجاء مملكته، وخلفه ابنه مسعود ففتح مدينة بنارس، وانتهى حكم الغزنويين سنة 555هـ.

وخلفهم الغوريون (543-612)، وتوغَّل شهاب الدين محمد الغوري بعد أن سيطر على أجزاء الدولة الغزنوية في بلاد الهند، وتمكَّن مملوكه قطب الدين أيبك من السيطرة على دهلي، وانفرد بما تحت يديه، واتَّخذ دهلي عاصمة له، ولما مات قطب الدين أيبك استقلَّ مملوكه شمس الدين ايلتمش بدهلي، وأسَّس أسرة حاكمة فيها انتهت عام 664هـ، ثم تولى الحكم غياث الدين بلبن، وكوَّن أسرة حكمت حتى عام 689هـ، وبرز جلال الدين فيروز الخلجي نائب معز الدين كيقباد آخر ملوك دولة بلبن متوليا سلطنة دهلي، وجهز علاء الدين ابن أخي جلال الدين جيشًا التقى بعمه وقتله وتولى مكانه عام 696هـ، وحارب التتار وانتصر عليهم وردهم عن دهلي، وافتتح كجرات وبلاد الدكن ووصل إلى أقصى جنوب الهند، وتمكن من توحيد بلاد الهند كلها تحت حكمه، وسمى نفسه الإسكندر الثاني.

ولما ضعفت الدولة الخلجية استقلّ أمير السند غياث الدين بالملك، ودخل دهلي وأسس أسرة تغلق عام 720هـ، وتولى بعده ابنه جونه الذي تسمَّى بمحمد، وحكم الهند من أقصاها إلى أقصاها، وأرسل حملة إلى الصين، وهو الذي دخل ابن بطوطة الهند في عهده، ولما مات تولى ابن عمه فيروز شاه تغلق، وأنشأ المدارس وبنى المساجد والمستشفيات، وأقام الحصون، وبعد موته عمَّت الفوضى في البلاد، وتنازع الأمراء على الحكم، ثم تولى الحكم عدة ملوك حتى دخل تيمورلنك دهلي عام 801هـ، ثم خرج منها، فرجع إليها محمود شاه آخر ملوك آل تغلق (ت 815هـ)، وكان القائد خضر أحد رجال تيمورلنك قد بقي بدهلي بعد خروجه، واستطاع أن ينفرد بالسلطة بعد موت محمود شاه، وحكمت أسرته حتى عام 855 هـ حيث خرج بهلول اللودي على علاء الدين آخر ملوك آل خضر، وتمكّن من الانتصار عليه وأسس الأسرة اللودية (855-932).

وغزا ظهير الدين محمد بابر حاكم الهند، وانتصر على إبراهيم الثاني آخر الملوك اللوديين في موقعة باني بت عام 932هـ ، وأسس الدولة المغولية القويَّة التي استمرت ثلاثمائة سنة تقريبا، وتوفي عام 937هـ، وتوارثه اهمايون، وجلال الدين محمد أكبر، جهانكير، وشاهجهان، ومحيي الدين محمد أورنكزيب أبًا عن جدّ، ولعل أورنك زيب (ت 1118هـ) هو أفضل ملوك المسلمين في الهند دينًا وصلاحًا وقوة، ثم ضعفت الدولة حتى تسلط الانكليز على دهلي عام 1273هـ/1857م ونفوا منها بهادر شاه ظفر آخر الملوك المغول إلى بورما.

الوضع التعليمي إبان الحكم الإسلامي:

نشطت الحركة العلمية في السند في العهدين الأموي والعباسي، ونشأ فيها محدثون وعلماء كبار ، ولما استولى الغزنويون على بنجاب كانت العلوم الإسلامية كلها من الحديث والتفسير والفقه والكلام والفلسفة والأدب واللغة قد بلغت ذروتها في التقدم، وكانت لمدينة لاهور الحظ الأوفر في العلم والحضارة في عهد الغزنويين، اتَّجه إليها العلماء والشيوخ، ولقبت بصنو العاصمة غزنين ، وسماها حسن النظامي مؤلف تاج المآثر "قبلة الأحرار والأبرار" و"كعبة الأشراف" و"مركز أهل التقوى" و"مأمن الزهاد والعباد" و"مسكن الأقطاب والأوتاد"، وأما جوها الديني فأعلن عنه قائلاً: "أساس الشريعة محكم فيها، وبناء الضلال والغي مخرَّب، وكل تسعين من المائة فيها علماء، وكل تسعة من بين العشرة مفسرون للقرآن الكريم" ، وأما مكتباتها فإن فخر الدين مبارك شاه لما أراد تأليف بحر الأنساب ظفر بها ألف مصدر في ذلك الموضوع، يقول: "طالعت ألف كتاب على الأقل" .

وإثر غزوات الترك والمغول للعالم الإسلامي، اضطر عدد كبير من العلماء والمشايخ إلى هجرة بلادهم، وطلعت نجوم بغداد وبخارا المتناثرة شموسًا وأقمارًا على أفق الهند العلميي، قول منهاج السراج: "استقطب (أي إيلتتمش) خلائق العالم في دهلي التي هي عاصمة الهند، ومركز دائرة الإسلام، ومحيط أوامر الشريعة ونواهيها، وحوزة الدين المحمدي، وبيضة الملة الأحمدية، وقبة الإسلام ... وصارت هذه المدينة بكثرة أفضال ذلك الملك الصالح، وشمول كراماته محط رجال الآفاق، وكل من تخلص من حبائل حوادث بلاد العجم ونكبات الكفار المغول بفضل الله التجأ إلى ذلك الملك (إيلتتمش)، ولاذ به" .

ووصف العصامي العهد الشمسي قائلاً: "وصل إلى دهلي كثير من الأشراف صحيحي النسب من بلاد العرب، وأصحاب المهن من خراسان، والرسامين الصينيين، وكثير من علماء بخارا، والزهاد والعباد من كل بلد، والصناع من كل صقع ومن كل جنس، وكثير من النقاد، والفلاسفة اليونان والأطباء الروم، وكثير من عقلاء كل أرض اجتمعوا في تلك المدينة المباركة اجتماع الفراش على الشمعة، وصارت دهلي كعبة للأقاليم السبعة، وأصبحت جميع ديارها دار السلام" .

ولما أهرق جيش هلاكو الدماء في بغداد في عهد السلطان غياث الدين بلبن، وأشعلوا فيها النار، نزح منها بقاياها من العلماء، واستقبل بلبن هذه القافلة العلمية المنتهبة، فضاعف ذلك من قيمة الهند العلمية، وبدأت دهلي تناهض بغداد وقرطبة، كتب ضياء الدين البرني: "وكان عدد كبير من العلماء الأعلام الذين يعدون من نوادر الشيوخ يفيدون بدروسهم العلمية في عهد السلطان بلبن ... وكان كل واحد منهم قد عمر إقليما من الأقاليم" ، ويعد عهد السلطان علاء الدين الخلجي أروع عهد في التاريخ السياسي والعلمي والحضاري للهند الإسلامية، وكانت هيئات المسلمين السياسية والدينية والحضارية قد بلغت شبابها وأوجها بعد قطع المراحل الأولى من المشاكل والمصائب، يصرح المؤرخ المعاصر ضياء الدين البرني أن اجتمع في عهده في دار الملك دهلي علماء وفضلاء يستحيل البحث عن نظرائهم في بخارا وسمرقند وبغداد ومصر وخوارزم ودمشق وتبريز والري والروم، كانت كل ناحية من نواحي العلوم الإسلامية، وكل جانب من جوانب المنقول والمعقول من التفسير، والفقه، وأصول الفقه، وأصول الدين، والنحو، واللغة، والبيان، والكلام، والمنطق مفتوحة لهم وواضحة عليهم "يتخرج كل عام على هؤلاء الشيوخ عدد كبير من طلاب العلم ممن يبلغون درجة الإفادة، ويتأهلون للإفتاء" . 

ذِكْر العلامة السيد عبد الحي الحسني المقررات الدراسية التالية للعهد الأول :

النحو: الكافية، ولب الألباب للقاضي ناصر الدين البيضاوي.

الفقه: الهداية

أصول الفقه: المنار، وأصول البزدوي

والتفسير: المدارك، والبيضاوي، والكشاف

والتصوف: العوارف، وفصوص الحكم

والحديث: مشارق الأنوار، ومصابيح السنة

والأدب: مقامات الحريري

والمنطق: شرح الشمسية

والكلام: شرح الصحائف، والتمهيد لأبي شكور السالمي.

وأحدثت هجمات تيمور سنة 800هـ خرابًا في المجالس العلمية لشمالي الهند، ولا سيما دهلي، نزح العلماء والمشايخ من دهلي إلى الولايات المختلفة، حاول سكندر اللودي أن يعيد إلى هذه المجالس الخربة عمرانها وبهاءها وزينتها، واستدعى العلماء من أقاصي البلاد واستعمرهم في دهلي، ولما وصلت أسرة لنكا في عهد سكندر اللودي إلى سلطة الحكم في ملتان اتجه إليها كثير من علمائها، وأقام الشيخ عبد الله والشيخ عزيز الله في مدينة سنبل، وكان سكندر اللودي يبجل الشيخ عبد الله تبجيلاً كبيرًا، وكان يحضر حلقته للدرس، وقام الشيخان بتطوير العلوم العقلية والفلسفية في البلاد، وأدخلوا "المطالع" و"المواقف" للقاضي عضد الدين، و"مفتاح العلوم" للسكاكي في المقررات الدراسية لرفع المستوى العلمي للبلاد، حتى أصبحت هذه الكتب جزءًا من المنهاج التعليمي.

واستمر الوضع التعليمي في العهد المغولي في تطور مع إنشاء مدارس ومراكز تعليمية وتربوية جديددة، وهجرة العلماء إلى الهند، وامتلأت البلاد بالعلماء فقهاء ومحدثين ومفسرين وقضاة ومفتين وأدباء وشعراء ومؤرخين وأصحاب صناعات .

الحلقة الأولى هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين