أثر مناهج الأصوليّين في الاعتدال الفكري (1)

مقدمة :

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فإن الله تعالى شاءت قدرته أنْ لا يبقى هذا الإنسان - الذي هو أكرم مخلوق - أسير التفكير الإنساني، فأراد الله تعالى أنْ يمنَّ عليه فأرسل رسله، وأنزل كتبه هدايةً له وصونًا من التقلبات الفكرية التي يجنح إليها انطلاقًا من فكره وخياله... ونظرة واحدة في العصر الذي بعث فيه رسول الله ? كافيةٌ لِتطلعَنا على هذه التقلبات على مستوى الفكر والسلوك، وصدق الله العظيم إذ يقول: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: الآية164]

أهمية البحث وإطاره ومنهجه :

تأتي أهمية البحث في إبراز أهمية الشريعة ودورها في شتَّى مجالات الحياة، ومن أبرز مجالات حياة الإنسان: الجانب الفكري، ذلك لأن الفكر هو المحرِّك الأساسي للسلوك، فاستقامة السلوك راجعة إلى استقامة الفكر واعوجاج السلوك راجع إلى اعوجاج الفكر .

والتخبُّط الذي يلحظه المرء في بعض الفتاوى الفقهية، أو في بعض المذاهب الفكرية العقدية التي أرَّخ لها المهتمون في سياق الملل والنحل كالخوارج والمعتزلة راجعٌ إلى عدم تحكيم الموازين التي وضعها الأصوليّون في فهم النصوص الشرعية.

ومن الجدير بالذِّكر أنَّ غلاة الخوارج ومن على خطاهم من غلاة العصر- ولاسيما المنتمين لداعش وأشباهها- يجهلون جُلَّ العلوم الشرعية وعلى رأسها أصول الفقه، فضياع أصول الفقه هو تضييع للشريعة التي تكفَّل الله تعالى بحفظها.

كما أنَّ حفظ الشريعة كواجب علينا يقوم أساسًا على أصول الفقه باعتباره آلة في فهم النصوص الشرعية وربطها مع بعضها، وهدم أصول الفقه هو هدم للشريعة، يقول القرافي رحمه الله: (وما علموا أنه لولا أصول الفقه لم يثبت من الشريعة قليل ولا كثير، فإن كل حكم شرعي لا بُدَّ له من سبب موضوع ودليل يدل عليه وعلى سببه، فإذا ألغينا أصول الفقه ألغينا الأدلة، فلا يبقى لنا حكم ولا سبب، فإن إثباتَ الشرع بغير أدلته وقواعدِها بمجرد الهوى خلافُ الإجماع، ولعلهم لا يعبئون بالإجماع، فإنه من جملة أصول الفقه، أو ما علموا أنه أول مراتب المجتهدين، فلو عدمه مجتهد لم يكن مجتهدًا قطعًا، غاية ما في الباب أن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم لم يكونوا يتخاطبون بهذه الاصطلاحات، أما المعاني فكانت عندهم قطعا، ومن مناقب الشافعي - رضي الله عنه - أنه أول من صنف في أصول الفقه)( ).

فالبحث يأتي مبيّنا أهميّة هذا المنهج في ضبط الفهم الصحيح للنّصوص الشرعية المتمثلة بكتاب الله تعالى وسنة رسوله، وهذا يعني أنَّ إطار البحث لا يخرج عن مناهج الأصوليّين.

والحقيقة أن الوقوف على كل مباحث الأصوليين ومكانتها يحتاج لرسالة معمقة، ومن هنا سأقتصر على بعضها لبيان أهميتها في ضبط مسيرة الاجتهاد وحفظه من الزيغ أو الانحراف، وقد اخترت الحديث عن مبحَثَي حمل العام على الخاص والمطلق على المُقيّد.

والمنهج في هذا أننا سنأخذ بعض النصوص ونُبيِّين كيف تُفهم منفصلة وكيف تُفهم مضمومة إلى النصوص الأخرى.

وستكون الدراسة ضمن مبحثين:

الأول: الاعتدال الفكري ومعياره.

الثاني: حمل النُّصوص على بعضها.

المبحث الأول الاعتدال الفكري ومعياره

الاعتدال موجود في الشريعة الإسلامية، والأدلة على هذا كثيرة من أبرزها :

1- أن التكليف في الشريعة في حدود الاستطاعة الإنسانية: 

عندما ننظر في مفردات التكليف في الشريعة الإسلامية نجدها في حدود استطاعة الإنسان ومقدرته، وهذا يدل على سماحة الشريعة وبعدها عن إرهاق الإنسان، فكلُّ ما طلب الشارع فعله أو تركه جاء ضمن الاستطاعة البشرية، وهذا ما جاء صريحًا في قوله صلى الله عليه وسلم: ((صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ))( ) وفي قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: الآية 97] هذا التدرج في التخفيف تابع لحالة الإنسان، ولو بحثنا في كل النصوص الدالة على ذلك لكتبنا الكثير فحسبُنا ما ذكرنا.

2- مبدأ اليسر ورفع الحرج في الشريعة : 

اليسر في الشريعة ورفع الحرج مبدأ من مبادئها ومقصد من مقاصدها، فالمشقة التي تثقل كاهل الإنسان ويعجز عن القيام بها ليست من الشرع، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [سورة الحج: الآية 78]، والواضح من الآية {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} أنَّ رفع الحرج ليس خاصًّا بالشريعة الإسلامية، بل هو سمة من سمات رسالات الأنبياء... وقد جاءت أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤكد مبدأ اليسر في الشريعة وأن الدين مبني على اليسر، وأن الأخذ بالعسر لا يتفق ويسرَ الدين، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ))( ).

3- معيار الاعتدال الفكري وعدمه:

المرجعية التي سنحتكم إليها في قضية الاعتدال الفكري هي النصوصُ الشرعيةُ وفق مناهج الأصوليين التي تمثل جمهور علماء المسلمين، فبقدر ما يكون الفهم متفقا مع مناهج جمهور الأصوليين يكون الاعتدال موجودًا والعكس صحيح، ومؤدَّى هذا أنَّ الدعوة إلى عدم العمل بالنصوص الشرعية أصلًا هو قِمِّة الغلو الفكري، أو العمل به من غير ضابطٍ لها هو غلو فكري أيضًا، وكذا الأخذ بالنصوص العامة من غير البحث عن تخصيصها أو الأخذ بالنصوص المطلقة من غير البحث عن تقييدها هو غلو كذلك، وموطن هذا الغلو أنه تجاوزٌ لإرادة الشارع وفهمٌ خارج عنها وحكم بما لا يريده الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم( ) . 

ومن الواضح أنَّ الغلو لا يعني التَّزيد بل يعني الترك، مع ملاحظة أنه لا ينبغي أنْ يُفهم من هذا البحث بأي حال من الأحوال أن كل نصٍ من الكتاب والسنة ينبغي أن يكون له نص آخر يخصصه أو يقيده فهذا أمر لا نقصده، لكنْ ما نقصده هو ألا ننطلق في البحث عن حكم الله من نص واحد بمعزل عن النصوص الأخرى التي جاءت ضمن الوحدة الموضوعية.

كما لا ينبغي أنْ يفهم بحال من الأحوال أننا نسعى إلى تمييع نصوص الشرع عندما نتحدث عن قضية الاعتدال في الشريعة، فما نقصده بالاعتدال هنا هو الأخذ بالنصوص المتكاملة في الحكم ولو كان مؤدَّى هذه النصوص لا يروق للبعض، أي أنه من الاعتدال في حكم الشريعة أن تحكم على الشخص بأنه كافر إذا توافرت الأدلة القطعية على ذلك، لكن أن تكفِّر مسلما أو تحكم على كافر بالإسلام فهذا هو الغلو، لأنه تجاوز لما يريده الله تعالى.

-----------------

1 - حسن الخطاف أستاذ مشارك باختصاص العقيدة الإسلامية، مدرس في جامعة آرتقلو ماردين

(2)- نفائس الأصول في شرح المحصول، شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، تح: عادل أحمد عبد الموجود، علي محمد معوض، الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز، الطبعة: الأولى، 1416هـ - 1995م ، (ص1/ 100).

(3) محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، صحيح البخاري، كتاب الصلاة، بَابُ إِذَا لَمْ يُطِقْ قَاعِدًا صَلَّى عَلَى جَنْبٍ، رقم:1117، وسلم وسننه وأيامه، تح: محمد زهير بن ناصر الناصر، الناشر: دار طوق النجاة ،الطبعة: الأولى، 1422هـن تعليق: الدكتور:مصطفى ديب البغا

(4) صحيح البخاري ، كتاب الإيمان، بَابٌ: الدِّينُ يُسْر، ٌرقم: 39 .

(5)جاء في القاموس المحيط " غَلاَ في الأَمْرِ غُلُوًّا : جاوَزَ حَدَّهُ" القاموس المحيط ، مادة (غلا) 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين