بنيانُنا الإسلاميُّ من الفردِ إلى الدَّولة (1)

يتساءل بعض الناس وربما يستغرب: لماذا لم يُفصّل القرآن الكريم في أمور السياسة والحكم والاقتصاد، مع أهمية هذه الأمور لحياة الإنسان، وفصّلَ في شأن العبادات والأسرة وما يحيط بها وفي شأن الأخلاق الفردية وقصص الأنبياء مع أقوامهم، وربما تمادى الأمر بهؤلاء المستغربين فقالوا : ليس في الإسلام نظرية للحكم، فالشورى لم تذكر إلا في آيتين، وآيات عامة عن العدل وأداء الأمانات والحكم بما أنزل الله... وكأنهم يردّدون ما قاله طه حسين قديمًا من أن القرآن لم ينظم أمور السياسة تنظيمًا مجملًا أو مفصلًا، ويقال لهؤلاء : هل يترك القرآن المشكلة الكبرى للإنسان دون وضع القواعد الأساسية التي تهديه إلى سواء السبيل؟ ثم ليبنيَ عليها الإنسان ما يحتاجه في حياته الدنيا ؟ وهل يناسب جوهر الدين أن يفصّل للناس نظم الاقتصاد والسياسة تفصيلًا مبرمًا لا يملكون فيه الاجتهاد في التفاصيل حسب الزمان والمكان؟ إنما يناسب الدين أن يبين للناس المبادئ العامة التي يستقر عليها كل نظام صالح يأتي في المستقبل (والرسول صلى الله عليه وسلم بينَ بعض هذه الأسس وترك بعضًا للفكر الإنساني لئلا يضيق وينحصر ويخمد إذا أتاه بالتفاصيل كلها، ولا يوحي الله إلى رسول من رسله بكل شؤون الحياة مفصلة ) وهذه فضيلة للإسلام وميزة له .

فرض الإسلام أن يقومَ الحكم على أساس الشورى وأن يقوم التشريع على أساس الكتاب والسنة، ولا ضيرَ بعد ذلك أن يجتهد المسلمون في طريقة اختيار الحاكم أو العمل بدستور مكتوب أو غير مكتوب.

والقرآن الكريم منهج حياة يهدي إلى الرشد وليس كتابًا متخصصًا في السياسة أو الاقتصاد ، وقوله تعالى {ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء} [سورة النحل: آية 89] (أي تبيانًا لأصول كل شيء، وجعل البيان والتفصيل منوطًا بأسباب الحوادث) .

إن ما يسأل عنه هؤلاء الناس جاء مفصلًا ولكن بطريقة القرآن الخاصة، كان التركيز على تأسيس الفرد ليكون جزءًا من البنيان المرصوص، ولتحريره من الضلالات التي تعرقل طريقة تفكيره، فإن إصلاح عقل الإنسان هو أساس إصلاح أعماله، وبهذا نفهم دعوة القرآن للنظر والتعقل والعلم والاعتبار، وأن يتحمّل الفرد المسؤولية الكاملة عن أعماله وتصرفاته، ولأنّ تأسيس إسلاميةِ الحكم دون إسلاميّة الفرد هو بناءٌ على غير أساس، كيف يقوم سلطان الحكم دون أن تترسخ القيم والمبادئ العليا في نفسية الفرد، كما قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم ) [ سورة النساء: آية 135] الفرد هنا مطلوب منه العمل ولا يغني عنه مال أو نسب أو قبيلة أو أرض، وهذا الإصلاح للفرد سيؤول حتمًا إلى صلاح المجتمع، فإن من المشاكل الكبرى في السياسة كما يقول الفيلسوف البريطاني رسل هي: (كيف نجمع بين المبادرات الفردية الضرورية للتقدم وبين التلاحم الاجتماعي الضروري للبقاء) .

إن في تقدير هذا الكتاب الذي أنزله الله سبحانه أن هذه الأمة هي أمة صاحبة رسالة وهذا يتطلب الفرد الذي يتأسس إيمانيًّا وأخلاقيًّا وعقليًّا، قال تعالى: {وما يذكّر إلا أولوا الألباب} [سورة آل عمران: آية 7] وقال : {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولًا} [سورة الإسراء: آية 36] {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} [سورة الفرقان: 67]، {ولا تصعّر خدك للناس ولا تمشِ في الأرض مرحًا إن الله لا يحب كل مختال فخور} [سورة لقمان: آية 18] والآيات التي تعنى بالتوجيهات التربوية البناءة كثيرة جدًا، وقد زوّد القرآنُ المسلمَ من البداية بنظرة إلى الكون قائمة على فهم السنن الربانية ، وأن كل ما في هذا الكون مسخر للإنسان ليتمتع به ولكن ليس على الطريقة النفعية الغربية، بل بطرائق تبرز مسؤوليته في عمارة هذه الأرض بالعمل الصالح . 

إن الحديث المتكرّر عن اليوم الآخر لابد أن يلجم النفس حتى لا تقع في الآثام والشرور، وهو أيضًا حماية للإنسان من محنة العدم، وعندما لا يكون الأمر كذلك فإن هذا الإنسان سيسخر العلم لاختراع أفظع الوسائل لتنفيذ أقبح المآسي والجرائم... وعندما يتأسّس الإنسان على القرآن والسنة على مكارم الأخلاق وذلك ليبتعد عن الأعمال التي توصله لأسفل سافلين، أليس هذا مما يساعد على الاستقرار والأمن والأعمال المفيدة ، وتكون عاقبة ذلك خيرًا، إذ لاتغني القوانين والزواجر غناء الاقتناع الداخلي الملتزم بما يرضي الله سبحانه . 

هذا الاستقرار يجعل الفرد المسلم قادرًا على أن يرسم الخطط ويساعد على إيجاد الإدارة المناسبة، فالقضيّة ليست شعارات سياسية بل هي واقع أساسي وهو تحرير الإنسان من المعوقات التي تحيط به ليتخذ الخيارات الصحيحة، وإذا بقي جاهلًا فسرعان ما يستسلم للآخرين ويخسر حرّيته ويذهب اختياره للدجّالين المنافقين.

كانت صلة الرسول صلى الله عليه وسلم بالله أسبق من صلته بالمجتمع الذي سيكلف بدعوته وإصلاحه، وقد بدأ المسلمون بفتح آفاق أنفسهم قبل أن يفتحوا العالم وقبل أن يتجردوا لذلك العمل الضخم ... كانت الصلة بالله وإقامة العبادات المطلوبة بمثابة الجذور العميقة التي أنبتت وأثمرت تلك الحضارة في دمشق وبغداد وقرطبة، وإذا لم ينشأ الفرد هذه التنشئة الإيمانية الأخلاقية فكيف سيكون حاله إذا وصل إلى الحكم وأعجبه التسلط على الناس، وأعجبته الأوامر والنواهي.

إن تأسيس الفرد المسلم ليس منفصلاً عن تأسيس الأسرة وتأسيس المجتمع ، فالكل يسير في خطوط متشابكة منسجمة يساعد بعضها بعضاً ، وهو تأسيس يخدم الجانب السياسي والدولة.

كان اهتمام القرآن بالأسرة اهتماماً بالغاً ، ولذلك أحاطها بكل الضمانات الأخلاقية والتشريعية، وتحدث عن الزواج والطلاق والحجاب وصلة الأرحام وتوزيع الميراث وبر الوالدين والاستئذان في الدخول على البيوت ... كما في سور: البقرة والنساء والنور والطلاق وغيرها، ذلك لأن الأسرة هي المؤسسة الاجتماعية الوحيدة القائمة ما بين الفرد والأمة، وكل هذه الأهمية للأسرة والعناية بها لأن تماسكها واستقرارها هو استقرار للمجتمع . كان مجتمع المدينة زمن الرسول صلى الله عليه وسلم مكتمل الشروط لمجتمع صالح بالنظر لصلاح الفرد وصلاح الأسرة، يقول الرئيس علي عزت بيكوفتش رحمه الله : (الرجل والمرأة هما الخلية الأساسية للعالم والحياة ، وإن أقل تغيير لهذه المادة الحياتية سيقود إلى الانقلاب العام) .

ومن الملاحظ أن الحضارة الغربية تعاني من تدهور الأسرة الذي يسبب المشاكل الاجتماعية والسياسية، (طرأ تحول جذري في كل أرجاء العالمين الشيوعي والغربي وتعاني الأسرة اليوم من الوهن العام الذي أصاب المجتمع، وبصرف النظر عن تحديد من يمثل العلة ومن يمثل المعلول في ثنائي الأسرة والحضارة، فإن من المقطوع به أن قدر الحضارة والأسرة هو أن تنهضا معًا أو تسقطا معاً) .

إنه من الطبيعي أن من فسدت فطرته فلا يقدم الخير لأهله أو أسرته فأي خير يرجى منه للبعداء (وهل يمكن بعد أن نفقد الروابط الضرورية بين العائلات أن نبحث عن الروابط للجامعة الكبرى "الأمة" ) وكما أن الغلو في حقوق الفرد - كما تؤكد الليبرالية الغربية - أدى إلى تفتت الأسرة، وكذلك كان نفي الفردية في الأنظمة الجماعية يعني تجريد الإنسان من إنسانيته، وجاء الإسلام وسطًا في ذلك، وعندما أعطى الإسلام حقوقًا ثابتة في مجال الإرث مثلًا كان هذا متطابقًا مع التكوين الجسدي والنفسي للإنسان، وفي توزيع الإرث يستفيد أكبر عدد ممكن من الأقارب حتى لا يكون الجو مسموماً بين هؤلاء وحتى لا تتفكك روابط الرحمة والايثار ، وهذا هو التعليل لبقاء الكيان الاجتماعي للأمة المسلمة متماسكًا رغم ما حل به من نكبات، فالمجتمع الروماني مثلًا انهار أمام ضربات برابرة الشمال أما عالم الإسلام فلم تتفكّك وحدة مجتمعه تحت ضربات المغول، ذلك لأن الخلية ( الأسرة ) التي يتكون منها المجتمع الإسلامي هي خلية قوية متماسكة تستعصي على الفساد . 

يتبع

المصدر: مجلة مقاربات 

1- محمود محمد شاكر : جمهرة المقالات 2/673
2- الطاهر إبن عاشور: النظام الاجتماعي في الإسلام /187

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين