الضربة الأمريكية في السياق الإستراتيجي للصراع

-1-

يبدو أن ضربةً ما من نوعٍ ما آتيةٌ عمّا قريب، قد تسبب بعض الألم للنظام وحلفاء النظام وقد لا تفعل، إلا أنها قطعاً لن تكون "عملية جراحية" من شأنها تغيير الوضع الميداني الإستراتيجي على الأرض.

على الذين يتوقعون الكثير من الضربة الأمريكية (لو حصلت) أن يكُفّوا عن الترقب والتفاؤل، وأن يعلموا أن "الحالة الإستراتيجية" في سوريا لن تتغير بمثل هذه الضربة، لأن خرائط توزيع النفوذ أُعِدَّت ورُسمت بعناية وتوافق ونُفِّذَت ببطء وتصميم على مدى خمس سنوات، وصولاً إلى اللحظة الراهنة التي ينتظرها الجميع، أقصد جميع الكبار الذين يلعبون بسوريا منذ انهيار نظام الأسد الفعلي أواخر عام 2012، وما تلاه من إطلاق الوحش الداعشي أواسط العام الذي بعده، ثم البدء بتنفيذ مشروع "روج آفا" الكردي الانفصالي بدعم أمريكي سخيّ في العام التالي، وأخيراً التدخل الروسي المباشر في خريف عام 2015 لبلورة الخريطة في شكلها الأخير.

-2-

إن الخريطة الحالية لتوزيع النفوذ تمثل الوضعَ النهائي الذي اتفق الكبار على ترسيخه وتكريسه في سوريا، على الأقل لعشر سنوات قادمة، ولم تبقَ إلا رتوشٌ قليلة لإنهائه: حلُّ النزاع التركي الأمريكي في الأراضي الصفراء غرب الفرات، وإنهاء مشكلة الجيب الأحمر الصغير في إدلب، وتصفية الجزر الخضراء التي تسبح في بحر أحمر في محافظتَي حمص وريف دمشق اللتين آلَتا إلى النظام وروسيا وإيران.

أما البقع السوداء فسوف تبقى (مع تحرك بطيء وانحسارٍ مستمر) لأنها "مسمار جحا" الذي يحتاج إليه الذين دَقُّوه في الجدار السوري أولَ مرة، ولكنها لن تصنع فرقاً ولن يكون لها أي أثر على المستوى الإستراتيجي، لأن مجموعات من المشردين الذين يهيمون على وجوههم في الصحارى والقفار لا قدرة لها على إحداث تغيير نوعي في معادلات القوى. لقد انتهى دور داعش عملياً بعدما أدّت ما عليها وقدمت أعظم خدمة لأعداء الثورة، وبقيت بقاياها -لوقت الطلب- ضمن كوادر "قوات الاحتياط"!

-3-

ما بقي من "صراع دولي" في سوريا وما يمكن أن تصنعه الضربات الأمريكية والإسرائيلية (لو حصلت "بالجملة" اليوم أو "بالمفرَّق" خلال الأشهر التالية، أو بهما معاً) هو تحجيم الخصوم. صحيحٌ أن أمريكا وإسرائيل تحتاجان إلى نظام الأسد وإيران، ولكنهما قطعاً لا تريدان خصماً أقوى مما ينبغي، لذلك ضربت إسرائيل قواعد ومعسكرات أسدية وإيرانية وحزبلاتية من قبل، وسوف تستمر في ضربها في المستقبل، وستبقى العلاقة بين الطرفين (أمريكا وإسرائيل من جهة والنظام وإيران والمليشيات من جهة أخرى) هي علاقة الراعي بالكلب التي صوّرتُها ذات يوم في مقالة "راعي الغنم وكلاب الحراسة": الراعي يحتاج إلى كلب حراسة يرعى الغنم، لكنه لا يسمح أبداً بأن يتحول الكلب إلى نمر فيأكل الغنمَ والراعي نفسه، فما العمل إذا أصر الكلب على إنبات وشحذ المخالب والأنياب؟ الحل هو تقليمها وتشذيبها بين آن وآن.

أما الأسد نفسه فهو آخر ما يفكر به القوم. نعم، إن أمريكا وروسيا وإسرائيل تريد كلها بقاء النظام، وقد عملت من أجل هذه النتيجة منذ سنة الثورة الأولى، ولكنْ مَن قال إنها تحتاج إلى الأسد نفسه؟ هذه المشكلة تحولت مؤخراً إلى مشكلة روسية إيرانية حصراً، فإيران راهنت على الأسد وعلّقت مصالحَها به وتصرّ على بقائه، وروسيا أرادت بقاء النظام ولكنها فقدت ثقتها بالأسد وأنتجت بدائل مناسبة تغني عنه، والباقون حصلوا على ما يريدون ولا يهمهم مصير الأسد وعائلته.

-4-

ربما أخطأ النظام باستعمال السلاح الكيماوي نفسه، أما القتل والتدمير فلم يكونا محل خلاف، فقد كان عليه أن ينهي ملف دُوما كما أنهى ملف القطاع الأوسط من قبل، وهو أمر صنعه برضا وتوافق دولي أمريكي روسي وضمن مهلة زمنية مقدَّرة ما كان لها أن تطول حتى لا تسبّب حرجاً للقوى الدولية والمنظمة الأممية، وعندما استعصت عليه دوما وتأخر استسلامها أراد حسم الموقف فضربها بالكيماوي كما ضرب عربين بالنابالم عندما تأخر استسلام بلدات القطاع الأوسط قبل ذلك بقليل. وفي الحالتين مشى النظام على آثار سَلَف سابق، فهو لم يفعل سوى استنساخ تجربة القنبلة النووية التي ألقاها الأمريكيون على هيروشيما في السادس من آب 1945 وتلك الأخرى التي ألقَوها على ناغازاكي بعدها بثلاثة أيام، وتم المطلوب: بعد ستة أيام استسلمت اليابان.

الخلاصة: لم يخرج النظام وحلفاؤه عن المسار المرسوم إلا بنوع السلاح، وهو ليس تمرداً جوهرياً يستحق قلب الطاولات وتخريب المعادلات، وإن كان ذريعةً مناسبةً لتقليم المخالب والأنياب. فلو أننا جرّدنا الحملة الأمريكية من الضجيج ونظرنا إليها على حقيقتها فلن نتوقع أكثر من ذلك، وبالنتيجة سيبقى العدو هو العدو والحال هو الحال، ومرة أخرى نعود إلى المربع الأول: لن نجني من العنب إلا ما نستخرجه بأيدينا من بين الشوك، ولن يُستخرَج العنب من وسط الشوك بلا جراح، هذه هي الخلاصة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين