العقيدة وشخصية رجل العقيدة (1)

 

العقيدة رباط معنوي يربط الرجل بمثل أعلى، رباط معقود لا تحله أزمة ماديَّة، ولا اضطهاد بشري، لأنه عقدة روح بحقيقة من الحقائق العليا، وعقد مكتوب بدم القلب وأشعة الفكر بين الرجل ودعوته.

ومن الخطأ أن نعتبر الأفكار المادية التي يهتف بها رجال السياسة والاقتصاد (عقائد) مهما تشابهت في مظاهرها وأهدافها.

فالعقيدة تنبع من الروح، وتشعُّ من القلب، وتتَّصل بأسباب السماء، ولذلك يكتب لها الخلود كما كُتب للعقائد التي جاء بها الرسل والأنبياء، ولم يكتب الخلود للنظريات والآراء الاجتماعية التي جاء بها الفلاسفة والعلماء.

ورجل العقيدة روح عبقري قبل أن يكون عقلاً ألمعيًّا، ورجل عام لا يعيش لنفسه، بل يعيش للحق، ويموت في سبيل الحق وحده، ولابد لرجل العقيدة من نظريتين في عقيدته: أنه إزاءها لا شيء، وأنه بها كل شيء، فهو لها خادم أمين، وبها ملك رفيع.

والعقيدة طبيعة لا علم، وشعور لا فلسفة، وخلق لا رأي، ولا عجب، فإن القلب هو القبس السماوي الذي يشعُّ الدوافع العليا، دوافع الخير والحق بين مظاهر النفس الإنسانية، وما العقل إلا مظهر التفكير المحدود، وهو لا يكفي وحده لإدراك الحقائق العليا، وإن أقتنع بها في حدوده اقتناعاً عميقاً.

والعقيدة أقوى رباط يربط بين الرجل وغايته، وبينه وبين من آمنوا معه، وما أحكم قول الإمام المرشد رضي الله عنه: لا رابطة أقوى من العقيدة، ولا عقيدة أقوى من الإسلام.

الإسلام عقيدة العقائد:

جمع الإسلام خلاصة الأديان كلها جميعاً، ويمكننا تلخيص طبيعة الإسلام وغايته في كلمتين: توحيد ووحدة، أو إيمان وإصلاح، وما أعظم كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى حين سأله أعرابي: دلني على شيء في الإسلام لا أسأل عنه بعدك أحداً، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (قل آمنت بالله ثم استقم) رواه مسلم.

جاء الإسلام الحنيف نظاماً اجتماعياً كاملاً، ينظم ملكات الفرد، وحياة الأسرة، وطبقات الأمة، ومقومات الدولة، وعوامل الوحدة، وسياسة العالم، ثم هو يرد ذلك كله إلى قواعد نفسية حكيمة، تمتزج فيها المثالية السامية بالواقعية الملموسة التي تتصل بدنيا البشر اتصالاً وثيقاً، حتى إنه ليحوِّل كثيراً من هذه القواعد النظرية إلى أعمال يومية تتكرر كل يوم في غير حرج أو إرهاق، بل في غاية من السهولة واليسر:[ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] {المائدة:6}. [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] {الحج:78}.

والإسلام يقيم دولة مثالية، متينة البنيان، رفيعة الجنبات، والدولة الإسلامية أشبه ما تكون بالقلعة الشامخة تقوم على أساس قويم، وجدران أربعة، وسقف، وسور، فأما الأساس القويم، فهو معرفة الله تعالى وتوحيده، وأما الجدران الأربعة، فهي:

1 – العبادة: 

وأهمها الصلاة معراج المسلم إلى الله تعالى، وهي بحقٍّ عماد الإسلام الأول، بها يتصل الإنسان بربه، ويقف بين يديه ويناجيه، وهي رحلة روحية، تبدأ بالتكبير، وتنتهي بالتسليم، والعبادة هي أسُّ الخلق، وعلة الوجود:[وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] {الذاريات:56}.

2 – العلم: 

وقد مجَّده الإسلام، وحضّ عليه، بل حرض عليه تحريضًا، وعلى أساسه يتفاضل الناس ويتمايزون [يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ] {المجادلة:11}. وشواهد ذلك كثيرة، ويكفي أن بالعلم تنال الدنيا والآخرة، كما أثر عن الشافعي: من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن أرادهما معًا فعليه بالعلم.

3 – الأخوة:

وهي الرابطة القوية التي تربط بين مجموعة المؤمنين، وتعصمهم من الانحلال، وتعصمهم من الانحلال، وتؤلف بين قلوبهم، وتجعلهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً:[إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] {الحجرات:10}.

4 – التشريع:

وهو القواعد التي تلتزمها الأمة، وتسير على منهاجها، وهو الذي يحفظ على الأمة كيانها، ويحدِّد لها وجهتها، ويقيمها على الطريقة:[ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا] {الجاثية:18}.

وأما السقف الذي يجعل هذه الجدران الأربعة متماسكة قوية، فهو الحكم، وهو القوة المنفِّذة، واليد الموجِّهة، وفي الأثر: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) (1). وفي الحديث: (لتنقضنَّ عرى الإسلام عروة عروة، فأولهنَّ نقضًا الحكم، وآخرهنَّ الصلاة) (2)، وممَّا يؤثر عن الحسن البصري: لو كانت لي دعوة مستجابة لكانت للسلطان، فإن الله يصلح بصلاحه خلقاً كثيراً.

أما السور الذي يحمي هذه القلعة المنيعة، فهو الجهاد، وهو الحارس الأمين لقلعة الإسلام:[كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ] {البقرة:216}، [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] {الحجرات:15}.

وقد حارب المستعمرون الدعوة الإسلامية ركناً ركناً، ودعامة دعامة، حاربوا العبادة بدور اللهو والشهوات، وحاربوا العلم بإفساد التعليم، والاهتمام بالقشور دون اللباب، وحاربوا الأخوة بالأحزاب السياسية، وحاربوا التشريع الإسلامي بالقانون الوضعي، وهكذا حورب الإسلام حتى لم يبق فيه إلا أشباح في المساجد، وظلٌّ في العواصف، وكلمات على الأفواه والحناجر، وتضاءل الإسلام في نظر المسلمين السذج أنفسهم، فأقصوه عن السياسة والقوة والتشريع.

بل وُجد من المسلمين – العلماء – من يؤلف في الدعوة إلى نقض الجوانب الاجتماعية في الإسلام، وهكذا يحارب الإسلام في الداخل والخارج، وكما انتصر الإسلام على أبي جهل وغيره في مستهلِّ الدعوة، فسينتصر على جبابرة أعدائه ومطاياه المنافقين في الداخل، وسيعود الإسلام غريباً كما بدأ غريباً فطوبى للغرباء، كما بشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والغرباء هم رجال العقائد في كل عصر وجيل.

وهم الحقيقة التي يحاربها أهل الأوهام، والضوء الذي يبدد جيوش الظلام:[أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ] {الأنعام:90}.

يتبع

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين