الأمِّيَّة من خصوصياته ودلائل نبوته صلى الله عليه وسلم (1)

عن جعفر بن محمد الصوفي قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي الرضا عليه السلام فقلت: يا ابن رسول الله لم سمي النبي صلى الله عليه وآله الأمي ؟ فقال: ما تقول الناس ؟ قلت : يزعمون أنه إنما سمي الأمي لأنه لم يحسن أن يكتب ، فقال عليه السلام : كذبوا عليهم لعنة الله، أنى ذلك والله يقول في محكم كتابه : " هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة " فكيف كان يعلمهم ما لا يحسن ؟ والله لقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقرأ ويكتب باثنين وسبعين، أو قال : بثلاثة وسبعين لسانا، وإنما سمي الأمي لأنه كان من أهل مكة، ومكة من امهات القرى، وذلك قول الله عز وجل: " لتنذر ام القرى ومن حولها " المرجع الشيعي بحار الانوار

( 1 ) : ( الأميُّ ) هو من لا يعرف القراءة ولا الكتابة، نسبة إلى الأم، فقوله (أميّ) أي : ما زال على الحال التي ولدته أمُّه عليها من عدم معرفته للقراءة والكتابة . وهذا الوصفُ للنبي صلى الله عليه وسلم وصفُ كمال ، أمَّا لغيره فهو وصفُ نُقصان . و( الأُمِّيّة ) هي إحدى خصوصياته صلى الله عليه وسلم فقد خصه الله بها دون المرسلين ، لأن معجزته الكبرى هي القرآن الكريم الذي تحدى الله به الإنس والجن على أن يأتوا بمثله فما استطاعوا ، قال تعالى { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) الإسراء } وحين يكون القرآن المتحدى به على لسانِ رجلٍ ( أُمّيٍّ ) يكون التحدي به أبلغ في الإعجاز .. وقد فطن المشركون واليهودُ إلى هذه القضية ، لذلك راحوا يخترعون الأكاذيب ، ويزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ تلقى القرآن من الأحبار والرهبان تارة . أو تعلمه من حداد رومي كان في مكة المكرمة قبل البعثة تارة أخرى .. وفيما يلي تفنيد كل المزاعم ، ودحضُ جميع الشبهات التي أُثيرتْ حول أُمَّيته صلى الله عليه وسلم :

( الشبهة الأولى ) : [ زعم المشركون وبعض اليهود أن النبي صلى الله عليه وسلم قد تلقى هذا القرآن من رهبان النصارى وأحبار اليهود ، وأنه أخذ عنهم كل ما فيه من تعاليم وأحكام وقصص وأخبار ؛ أثناء رحلته مع عمه أبي طالب إلى الشام ..] وقد حكى القرآن الكريم مقولتهم هذه بقوله تعالى: { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا (5) الفرقان } 

إلا أنَّ هذه الدعوى يكذبها العقلُ والبرهان ، والقرائن الدالة على كذبها عديدة ، (أولها) أنه لم يكن عمرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في سفره هذا سوى (12) سنة ، ( الثانية) أنه لم يفارق عمه أبا طالب ولا رجال القافلة الذين سافر معهم قط، (الثالثة) إن العقل لا يتصور أن يقوم طفل دون سن الحلم بكتابة هذا القرآن المعجز في زمن يسير لا يتجاوز الخمسة أيام ؛ وهي المدة التي كان قضاها صلى الله عليه وسلم مع عمه آنذاك في بصرى الشام . (الرابعة) إن في قولهم ( اكتتبها فهي تملى عليه ) إقراراً منهم بأنه صلى الله عليه وسلم كان ( أمّياً ) ، لأن معنى (اكتتبها) أي طلب أن تكتب له ، ومعنى (تملى عليه) أي تقرأ له ليحفظها. وإلا لماذا يطلب من غيره أن يكتبها له ، ويمليها عليه ، لو كان هو يحسن القراءة والكتابة ؟

( الشبهة الثانية ) : [ كان في مكة حدادٌ روميٌّ ، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبل النبوة يتحدث إليه أحيانا حديث مؤانسة ومجاملة ، يفعلُ ذلك بدافعٍ مما فُطر عليه صلى الله عليه وسلم من العطف على الضعيف ، والحدب على الغريب ، فلما أكرمه الله بالرسالة وأنزل عليه وحيه ؛ وتحدى المشركين أن يأتوا بمثله فعجزوا ، ما كان من خصومه إلا أن زعموا أن الحداد الرومي هو الذي علم محمدا صلى الله عليه وسلم ذلك القرآن ، ولقَّنه إياه ..] فسخر القرآن الكريم منهم ، ودفع شبهتهم بقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) النحل } بهذا البيان العقلي فنَّد القرآن الحكيم مزاعمَ المشركين ، فغيرُ جائز عقلا صدورُ مثلِ هذا الكلام العربيّ المعجز؛ من رجل رومي ، لا يحسن من العربية سوى جمل يسيرة ، كان يتفاهم بها مع من حوله من أهل مكة . وإنه لمحال عقلا أن يجيء كلام عربي بليغ معجز للإنس والجن ؛ من رجل رومي لحان ، متعثر اللسان ، فمنطقُ العقلاء يقول : " فاقدُ الشيء لا يُعطيه " .

 

( الشبهة الثالثة ) : [ أثار المستشرقون المعاصرون شبهةً متهافتة غبية ، فزعموا أن محمدا أثناء رحلته للتجارة في مال خديجة ، كان التقى بعلماء أهل الكتاب ، واكتتب منهم قصص القرآن عن الأمم السابقة ، ولم يأت بجديد..] وهذه الشبهة أوضح بطلانا من سابقتها ، ويدفعها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في تلك الرحلة التجارية ابن 25 سنة ، ولم يكن فيها وحدَه ، وإنما كان بصحبة ميسرة غلام خديجة ، وكانا مع قافلة من تجار قريش ، ولم يمكث صلى الله عليه وسلم في بصرى الشام آنذاك سوى أيام يسيرة ، باع فيها واشترى وعاد مع القافلة إلى مكة . ولم يقل أحدٌ ممن كان معه يومها : إن محمدا التقى أحباراً من أهل الكتاب ولا رهبان ، ولا زعم أحدٌ منهم أن صلى الله عليه وسلم استكتب أهل الكتاب شيئا في تلك الرحلة .. ولو أنه فعل ذلك ؛ لما خفي على أهل القافلة الذين كانوا معه ، لهذا لم يثبت تاريخيا أن المشركين أثاروا مثل هذه الشبهة ، وإنما هي من اختراع المستشرقين وأكاذيبهم وليس لديهم ما يثبت دعاواهم المزيفة :

والدعاوى ما لم يقيموا عليها : بـيـنــاتٍ فـأهلُهـــــا أدعـيــــــــاءُ

والغريب المريب أن طه حسين في كتابه " على هامش السيرة " دَنْدَنَ حول هذه الشبهة الاستشراقية ، ولـمَّحَ الأعمى بها وكاد أن يصرح .. ومع ذلك يقول قائل : إن كتابه هذا كان بمثابة رجوعه عما قاله في كتابه " الشعر الجاهلي " ..معاذ الله فالذيلُ الأعوجُ عصيٌّ على الاعتدال .

( الشبهة الرابعة ) : [ أن الشيعة ، وبعض المتصوِّفة من أبناء السُّنّة ، ذهبوا : إلى نفي صفة الأمية عنه صلى الله عليه وسلم .. فأما الشيعة فزعموا أنه لم يكن النبي أميا قط ، وأنه كان يتكلم بثلاثة وسبعين لسانا .. وأما الصوفية ، فإنهم يرون أن النبي كان أميا قبل الرسالة ، ثم إنه لم يلحق بالرفيق الأعلى إلا بعدما تعلم القراءة والكتابة ، وعلمه الله ما لم يعلم ، وكان فضل الله عليه عظيما ] فلنناقش كلا منهما على حدة :

فأما الشيعة : فقد صدرنا هذه المقالة ، بالحديث المكذوب ، الذي جاء في مرجعهم المعتمد " بحار الأنوار للمجلسي1037 -1111هـ " يرويه بسنده عن علي الرضا ، والذي زعم أن النبي لم يكن أُمّياً قط ، وأنه كان يقرأ ويكتب بثلاث وسبعين لغة ..ولو صح حديث المجلسي هذا ؛ لما طلب النبيُّ صلى الله عليه وسلم من زيد بن ثابت أن يتعلم له العبرية والسريانية ، خوفا من أن يفتات اليهود عليه بشيء في المكاتبات التي كانت تقع بينه وبينهم . رُوِيَ [ عَنْ خَارِجَةَ يَعْنِي ابْنَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ، قَالَ : قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَتَعَلَّمْتُ لَهُ كِتَابَ يَهُودَ ، وَقَالَ : إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي فَتَعَلَّمْتُهُ ، فَلَمْ يَمُرَّ بِي إِلاَّ نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى حَذَقْتُهُ ، فَكُنْتُ أَكْتُبُ لَهُ إِذَا كَتَبَ وَأَقْرَأُ لَهُ، إِذَا كُتِبَ إِلَيْهِ ] سنن أبي داود 3/318 حَذَقتُه وحَذِقتُه أي: تعلَّمتُه ومهرتُ فيه .

ورُوِيَ [عَنْ زَيْدِ بن ثَابِتٍ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : يَأْتِينِي كُتُبٌ مِنَ النَّاسِ لا أُحِبُّ أَنْ يَقْرَأَهَا كُلُّ أَحَدٍ ، فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَعَلَّمَ كِتَابَ السُّرْيَانِيَّةِ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ: فَتَعَلَّمْتُهَا فِي سَبْعَ عَشْرَةَ ]المعجم الكبير للطبراني ج 5 / ص 76 

وأما الصوفية فيرى بعضُهم لا كُلُّهُم : 

أن وصف (الأميَّ) مشتقٌّ من كون رسالته صلى الله عليه وسلم ( أم ) الرسالات ، ونبوته ( أم ) النبوات ، فهو ( أمي ) بمعنى أنه المقدم والقدوة والأسوة وينبوع الخير العام .. وليس بمعنى أنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة ، لأن تجريده من هاتين المهارتين ، شيء لا يليق – من وجهة نظرهم - بمقامه الشريف صلى الله عليه وسلم ..

وفي الحقيقة ، هذا تفسير شاذ لكلمة (أميّ) ، كان سببُهُ أنهم قاسُوا حالَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على حال البشر العاديين ، وهو قياس مع الفارق .. فــ ( الأمية ) لنا - نحن البشرَ - صفةُ نقصانٍ ، وهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم صفة كمال ، وهي إحدى خصوصياته العظيمة ، فهو النبي الأميُّ الوحيد بين سائر الأنبياء ، وقد خصه الله تعالى بكلامه المعجز ، وجمعه له في صدره ، وألقى أسراره ومعانيه في رُوعِه .. ومن هنا كانت ( الأمية ) إحدى كمالاته الفريدة ، وأقوى أمارة على أن القرآن الذي أنزل عليه صلى الله عليه وسلم هو كلام الله تعالى ، الذي لم يُعلّمه إياه صلى الله عليه وسلم بشر ، ولم يلقنه إياه الأحبار ، ولا الرهبان ، ولا اســــتــنسخه من كتب أهل الكتاب ، وإنما هو وحي أوحاه الله إليه ، متحدياً به الإنس والجن ، أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .. 

وكما خالف هؤلاء في تفسير ( الأمي ) فقد خالفوا أيضا في تفسير ( الكتاب ) من قوله تعالى [ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك ] فهم يَنْفُون أن يكون المعنى ( وما كنتَ يا محمد مجردا من ملكتي القراءة والكتابة مطلقا ) وإنما يرون أن المعنى الحقيقي هو ( وما كنت يا محمد تقرأ ولا تخطُّ أيَّ كتاب سماوي من قبل ) رغم أنك تحسن القراءة والكتابة .. 

وفي قولهم هذا تخصيصٌ لكلمة ( كتاب ) والصواب أنه لفظ يفيد العموم ، لكونه نكرة في سياق النفي ، والآية بمنطوقها تنفي عنه صلى الله عليه وسلم معرفته بالقراءة والكتابة مطلقا قبل نزول القرآن ، وهي تنفي عنه ذلك أيضا بعد نزول القرآن ؛ وذلك بالذريعة المصرح بها في قوله تعالى ( إذَنْ لارْتَابَ المبطلُون ) فهي ذريعة منطقية ، تمكن الخصم من التمسك بها ، وتسوّغ له أن يقول : إن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يكتب سابقا ، ولكنه كان يكتم ذلك عن الناس ، ويخفي حاله عنهم لغاية في نفسه قضاها . لذلك وجب القول بأميته صلى الله عليه وسلم طَوَالَ حياته ، لسدّ هذه الذريعة .. 

وللحق نقول : إنَّ الدافع عند الصوفية إلى (نفي الأمية) عنه صلى الله عليه وسلم ، مخالف لما هو عليه عند الشيعة ، فدافع الصوفية إلى هذا النفي نبيلٌ ، وهو تنزيه المصطفى صلى الله عليه وسلم عن الأمية التي لا تليق – من وجهة نظرهم - بجنابه الشريف .. وسلامةُ القصد تَشْفَعُ لصاحبه وتُنْجيه ، فالقاضي أبو الوليد الباجي (1013-1082هـ ) حين شذَّ عن قول الجمهور في هذه المسالة ؛ وتبنَّى فكرة ( أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صار في آخر عمره يحسن القراءة والكتابة ) ، ثارت ثائرة علماء المالكيةَ عليه ، ورموه بالردَّة ، ولكنْ لما استنطقه العلماءُ ، وجدوا أنه بــرَّر موقفه بالقول : ( إنَّ مفارقته صلى الله عليه وسلم للأمية كان بتدبير إلهيٍّ خارق ، وهو يرى أن القول بهذا هو مما يزيد المؤمن إيمانا بنبوته صلى الله عليه وسلم ).. لهذا عدل العلماء عن الحكم بردته .. ونجاه الله بحسن قصده من السيف .. 

أما الشيعةُ : فلم يكن نفيهم لوصف ( الأمية ) عنه صلى الله عليه وسلم ؛ إلا معاندة لصريح الكتاب والسنة ، ومدافعة للنصوص القطعية الثبوت والدلالة ؛ بحديث مخترع موضوع يُلْصِقُونه بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم زورا وبهتانا .. نسأل الله العافية . 

يتبع في مقال آخر 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين