نواقض الإيمان في ميزان الكتاب والسنة (27)

حوارات حول الكتاب

* ـ قال الأخ المعلق الثاني في مسألة دعاء الموتى من الصالحين وطلب العون منهم موجها الكلام لي: 

[إن الاستدلال بفعل الإمام المبجل أحمد بن حنبل لا يساعدك فيما تريد الوصول إليه من تهوين القول فيمن يستغيث بالأموات وأهل القبور، لأن أكثر ما تدل عليه القصة والحديث - إذا صح - يعيِّن أن المراد بقوله في الحديث الأول "يا عباد الله" إنما هم الملائكة، فلا يجوز أن يُلحَق بهم المسلمون من الجن أو الإنس ممن يسمونهم برجال الغيب من الأولياء والصالحين، سواء كانوا أحياء أو أمواتا، فإن الاستغاثة بهم وطلب العون منهم شرك بيِّن، لأنهم لا يسمعون الدعاء، ولو سمعوا لما استطاعوا الاستجابة وتحقيق الرغبة، وهذا صريح في آيات كثيرة، منها قوله تبارك وتعالى {والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم، ولو سمعوا ما استجابوا لكم، ويوم القيامة يكفرون بشرككم، ولا ينبئك مثل خبير}]. 

أقول: 

ـ قول الأخ المعلق "الاستدلال بفعل الإمام المبجل أحمد ابن حنبل" هذا كلام فيه خطأ كبير، لأني لم أستدلَّ بفعل الإمام أحمد رحمه الله البتة، وليست أقوالي وكتاباتي ـ بحمد الله ـ مظِنة أن أجعل قولَ أو فعلَ أي إمام من الأئمة مهما علا شأنه دليلا وحجة، فالإمام أحمد رحمه الله عالم من العلماء الكبار، ولكنْ ليس قوله وفعله دليلا، والدليل هو قول الله عز وجل وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وما تفرع عنهما، وأقوال العلماء لا يُحتج بها، لكن إن لم يظهر فيها الخطأ فيُستأنس بها، وقد أوردت الدليل على صحة ما أقول ثم ذكرت فعل الإمام أحمد رحمه الله للاستئناس به، وليس للاستدلال به، وبين الاستدلال بالشيء والاستئناس به فرق كبير. 

ـ قول الأخ المعلق "الاستدلال بفعل الإمام أحمد لا يساعدك فيما تريد الوصول إليه من تهوين القول فيمن يستغيث بالأموات وأهل القبور" فيه خطأ كبير كذلك، فالذي قلتُه وبينته هو التفريق بين حالتين من حالات الاستغاثة بالأموات، إحداهما شرك والأخرى ليست بشرك، وقولي للإنسان "هذا القول له حالتان وإحداهما شرك مخرج من الملة فيجب عليك الحذر": هو ـ عند من يعقل ـ تحذير وليس بتهوين. 

ثم إنني قد صرحت في الكتاب وقلت: "لكنْ إذا لم يكن هذا شركا مخرجا من الملة فإن هذا لا يعني التساهلَ فيما هو من ذرائع الشرك أو مما قد يؤدي إلى الشرك أو مما فيه تشبه بأعمال المشركين فالحذرَ الحذرَ من ذلك أيها المؤمنون"، وهذا تحذير وتخويف حتى في الشق الثاني الذي ليس هو من الشرك الأكبر، فكلامي ليس فيه تهوين للأمر. 

ـ قول المعلق [لأن أكثر ما تدل عليه القصة والحديث - إذا صح - يعيِّن أن المراد بقوله في الحديث الأول: "يا عباد الله" إنما هم الملائكة، فلا يجوز أن يُلحَق بهم المسلمون من الجن أو الإنس ممن يسمونهم برجال الغيب من الأولياء والصالحين، سواء كانوا أحياء أو أمواتا] قول فيه خلل. 

فسياق قوله يدل على أن من قال: "أعينوا يا عباد الله" قاصدا الملائكة فليس بمشرك، وأن من قال ذلك قاصدا مَن سوى الملائكة من الصالحين مشرك، وهذا الإطلاق غير صحيح في الصورتين، لأن من قالها قاصدا الملائكة أو غيرَهم من عباد الله الصالحين معتقدا أنهم يملكون من ذاتهم شيئا من العطاء والمنع والضر والنفع ففعله كفعل أهل الجاهلية وهو مشرك، ومن قالها قاصدا الملائكة أو غيرهم من عباد الله الصالحين معتقدا أنهم لا يملكون من ذاتهم شيئا وأن أرواحهم تسبح في الملكوت وتنجد الملهوفين بإذن الله فهذا لا يمكن أن يُحكم عليه بالشرك المخرج من الملة، لأنه لم يجعلهم بذلك القول شركاء لله تعالى لا في الربوبية ولا في الإلهية. 

ـ استشهاد الأخ المعلق هنا بالآيتين الكريمتين اللتين استشهد بهما هو في غير محله، لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه الكريم قبل تلك الآيات {يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله}، ثم قال: {وإن يكذبوك فقد كُذبت رسل من قبلك}، ثم قال :{واللهُ الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها}، {والله خلقكم من تراب}، {وما يستوي البحران هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج}، {وسخر الشمس والقمر}، ثم قال جل شأنه: {ذلكم الله ربكم، له الملك، والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم، ولو سمعوا ما استجابوا لكم، ويوم القيامة يكفرون بشرككم، ولا ينبئك مثل خبير}. 

فالله جل وعلا ذكر في تلك الآيات الكريمة الذين كفروا بخالقهم وكذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم، وذكر لهم بعض آياته الدالة على عظمته في الأرض والسماء والبحار، ثم خاطبهم بقوله {ذلكم الله ربكم، له الملك، والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير}. 

فالخطاب هو لهؤلاء المشركين الذين يدْعون الأوثان معتقدين فيها بعض خصائص الربوبية أو الإلهية. 

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله تعالى: {إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم} أنه قال: "هي الآلهة، لا تسمع دعاء من دعاها وعبدها من دون الله تعالى، {ولو سمعوا ما استجابوا لكم}، ولو سمعَتِ الآلهة دعاءكم ما استجابوا لكم بشيء من الخير، {ويوم القيامة يكفرون بشرككم} بعبادتكم إياهم". وأراد بالآلهة هنا آلهتهم المزعومة. 

أما الذين آمنوا بربهم ووحدوه في ربوبيته وإلهيته، وصدَّقوا رسوله والذين يدْعون ربهم من حيث إنه هو وحده الذي بيده كل شيء وإذا دعَوا بعض عباد الله الصالحين فإنهم لا يدعونهم من حيث إنهم يملكون من ذاتهم شيئا من العطاء والمنع والضر والنفع ولكن من حيث إن الله تعالى هو الذي جعل أرواحهم تسبح في الملكوت وتنجد الملهوفين بإذنه: فهؤلاء ليس الخطاب في تلك الآيات لهم، فلا مجال للحكم عليهم بأنهم مشركون خارجون من الملة. 

ـ الذي يأتي بالآيات القرآنية الكريمة التي نزلت في المشركين مقتطعة من سياقها ليحكم بها على جماعات كبيرة من المسلمين بالشرك المخرج من الملة ـ دون دليل واضح ـ يعرِّض نفسه لأن يكون بذلك قد ارتكب موبقة من الموبقات، كما يعرِّض نفسه بصورة واضحة لأن يكون هو أو هم من المشركين المرتدين الخارجين من ملة الإسلام!. 

وفي هذا السياق يأتي قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الخوارج الحرورية الذين هم شرار الخلق: "إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين". [ذكره البخاري عنه في صحيحه معلقا بصيغة الجزم، ورواه الطبري في كتاب تهذيب الآثار وابن عبد البر في التمهيد بسند صحيح]. 

يأتي هنا تساؤل، إذ قد يقول قائل: 

هل يجوز للمسلم أن يدعو بعض عباد الله الصالحين لا من حيث إنهم يملكون من ذاتهم شيئا من العطاء والمنع والضر والنفع ولكن من حيث إن الله تعالى هو الذي منحهم شيئا من فضله فيجري بذلك على أيديهم بعض الخير بما ينفع العباد؟؟. 

أقول: 

مسألة الجواز وعدم الجواز قضية أخرى غير مسألة الشرك الأكبر التي هي مجال البحث في هذا الكتاب، فمن أراد الوقوف على الحكم الفقهي فيها من حيث الجواز أو خلاف الأولى أو الكراهة أو التحريم فليبحث عنها وعن أدلتها في مظانها من الأبحاث الفقهية. 

الحلقة السابقة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين