فقه السيرة النبوية (6)

ولادة النبي ورضاعته ونشأته 

نسب النبي صلى الله عليه وسلم

إن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف الناس نسبا، وأكملهم خَلْقًا وخُلُقًا، وقد ورد في شرف نسبه أحاديث صحاح، منها ما رواه مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم». 

وقد ذكر الإمام البخاري رحمه الله نسب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «محمد بن عبد الله، بن عبد المطلب، بن هاشم، بن عبد مناف، بن قصي، بن كلاب، بن مرة، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك بن النضر، بن كنانة، بن خزيمة، بن مدركة، بن إلياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان». وقال البغوي في شرح السنة بعد ذكر النسب إلى عدنان: «ولا يصح حفظ النسب فوق عدنان». 

وقال ابن القيم: بعد ذكر النسب إلى عدنان أيضا: «إلى هنا معلوم الصحة، ومتفق عليه بين النسابين، ولا خلاف البتة، وما فوق عدنان مختلف فيه، ولا خلاف بينهم أن عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام». وقد جاء عن ابن سعد في طبقاته: «الأمر عندنا الإمساك عما وراء عدنان إلى إسماعيل». 

وعن عروة بن الزبير أنه قال: «ما وجدنا من يعرف وراء عدنان ولا قحطان إلا تخرصا». قال الذهبي -رحمه الله-: «وعدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام بإجماع الناس، لكن اختلفوا فيما بين عدنان وإسماعيل من الآباء». 

لقد كان وما زال شرف النسب له المكانة في النفوس؛ لأن ذا النسب الرفيع لا تنكر عليه الصدارة، نبوة كانت أو ملكا، وينكر ذلك على وضيع النسب، فيأنف الكثير من الانضواء تحت لوائه، ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم يعد للنبوة هيأ الله تعالى له شرف النسب ليكون مساعدا له على التفاف الناس حوله. 

إن معدن النبي صلى الله عليه وسلم طيب ونفيس، فهو من نسل إسماعيل الذبيح, وإبراهيم خليل الله، واستجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام، وبشارة أخيه عيسى عليه السلام كما حدث هو عن نفسه، فقال: «أنا دعوة أبي إبراهيم وبشارة أخي عيسى». 

وطيب المعدن والنسب الرفيع يرفع صاحبه عن سفاسف الأمور ويجعله يهتم بمعاليها وفضائلها, والرسل والدعاة يحرصون على تزكية أنسابهم وطهر أصلابهم، ويُعرفون عند الناس بذلك فيحمدونهم ويثقون بهم. 

ومما تبين يتضح لنا من نسبه الشريف دلالة واضحة على أن الله سبحانه وتعالى ميز العرب على سائر الناس، وفضل قريشًا على سائر القبائل الأخرى، ومقتضى محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، محبة القوم الذين ظهر فيهم والقبيلة التي ولد فيها، لا من حيث الأفراد والجنس بل من حيث الحقيقة المجردة؛ ذلك لأن الحقيقة العربية القرشية، قد شرف كل منها –ولا ريب– بانتساب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، ولا ينافي ذلك ما يلحق من سوء بكل من قد انحرف من العرب أو القرشيين، عن صراط الله عز وجل، وانحط عن مستوى الكرامة الإسلامية التي اختارها الله لعباده، لأن هذا الانحراف أو الانحطاط من شأنه أن يودي بما كان من نسبة بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم ويلغيها من الاعتبار. 

زواج عبد الله بن عبد المطلب من آمنة بنت وهب ورؤيا آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم

كان عبد الله بن عبد المطلب من أحب ولد أبيه إليه، ولما نجا من الذبح وفداه عبد المطلب بمائة من الإبل، زوجه من أشرف نساء مكة نسبًا، وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب. 

ولم يلبث أبوه أن توفي بعد أن حملت به آمنة، ودُفن بالمدينة عند أخواله بني (عدي بن النجار) فإنه كان قد ذهب بتجارة إلى الشام فأدركته منيته بالمدينة وهو راجع، وترك هذه النسمة المباركة، وكأن القدر يقول له: قد انتهت مهمتك في الحياة وهذا الجنين الطاهر يتولى الله -عز وجل- بحكمته ورحمته تربيته وتأديبه وإعداده لإخراج البشرية من الظلمات إلى النور. 

ولم يكن زواج عبد الله من آمنة هو بداية أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، قيل للنبي صلى الله عليه وسلم ما كان أول بدء أمرك: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت منه قصور الشام». ودعوة إبراهيم عليه السلام هي قوله: )رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) [البقرة: 129]. وبشرى عيسى: كما أشار إليه قوله عز وجل حاكيا عن المسيح عليه السلام: )وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) [الصف: 6]. 

وقوله: «ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام» قال ابن رجب: «وخروج هذا النور عند وضعه إشارة إلى ما يجيء به من النور الذي اهتدى به أهل الأرض، وزالت به ظلمة الشرك منها، كما قال تعالى: )يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ? يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) [المائدة: 15-16]. 

وقال ابن كثير: «وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه وثبوته ببلاد الشام؛ ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلا للإسلام وأهله، وبها ينزل عيسى بن مريم بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها, ولهذا جاء في الصحيحين: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك»، وفي صحيح البخاري: «وهم بالشام». 

ميلاد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم

ولد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين بلا خلاف، والأكثرون على أنه لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول. والمجمع عليه أنه عليه الصلاة والسلام ولد عام الفيل وكانت ولادته في دار أبي طالب بشعب بني هاشم. 

مرضعاته عليه الصلاة والسلام

كانت حاضنته صلى الله عليه وسلم أم أيمن بركة الحبشية أَمَةَ أبيه، وأول من أرضعته ثويبة أَمةُ عمه أبي لهب فمن حديث زينب ابنة أبي سلمة أن أم حبيبة رضي الله عنها أخبرتها أنها قالت: يا رسول الله، انكح أختي بنت أبي سفيان، فقال: «أو تحبين ذلك؟» فقالت: نعم، لست لك بمخلية، وأحب من شاركني في خير أختي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن ذلك لا يحل لي» قالت: فإنا نُحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة، قال: «بنت أم سلمة؟» قلت: نعم، فقال: «لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي، إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن». 

وكان من شأن أم أيمن، أم أسامة بن زيد، أنها كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب، وكانت من الحبشة، فلما ولدت آمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد ما تُوفي أبوه، فكانت أم أيمن تحضنه حتى كَبـِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها، ثم أنكحها زيد بن حارثة ثم توفيت بعد ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة أشهر

حليمة السعدية مرضعته في بني سعد:وهذه حليمة السعدية تقص علينا خبرا فريدا، عن بركات الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم التي مستها في نفسها وولدها، ورعيها وبنتها. 

عن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، قال: «لما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت حليمة بنت الحارث، في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسون الرضعاء بمكة قالت حليمة: فخرجت في أوائل النسوة على أتان لي، قمراء ومعي زوجي الحارث بن عبد العزى، أحد بني سعد بن بكر، ثم أحد بني ناضرة، قد أدمت أتاننا، ومعي بالركب شارف والله ما تبض بقطرة لبن، في سنة شهباء قد جاع الناس حتى خلص إليهم الجهد، ومعي ابن لي، والله ما ينام ليلنا، وما أجد في يدي شيئا أعلله به، إلا أنا نرجو الغيث وكانت لنا غنم، فنحن نرجوها. 

فلما قدمنا مكة فما بقي منا أحد إلا عرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكرهته، فقلنا: إنه يتيم، وإنما يكرم الظئر ويحسن إليها الوالد، فقلنا: ما عسى أن تصنع بنا أمه أو عمه أو جده، فكل صواحبي أخذت رضيعًا، فلما لم أجد غيره، رجعت إليه وأخذته، والله ما أخذته إلا إني لم أجد غيره، فقلت لصاحبي: والله لأخذن هذا اليتيم من بني عبد المطلب، فعسى الله أن ينفعنا به، ولا أرجع من بين صواحبي ولا آخذ شيئًا، فقال: قد أصبت. 

قالت: فأخذته، فأتيت به الرحل، فوالله ما هو إلا أن أتيت به الرَّحل، فأمسيت أقبل ثدياي باللبن، حتى أرويته، وأرويت أخاه، وقام أبوه إلى شارفنا تلك يلمسها، فإذا هي حافل فحلبها، فأرواني وروي، فقال: يا حليمة، تعلمين والله لقد أصبنا نسمة مباركة، ولقد أعطى الله عليها ما لم نتمن، قالت: فبتنا بخير ليلة، شباعًا، وكنا لا ننام ليلنا مع صبينا. 

ثم اغتدينا راجعين إلى بلادنا أنا وصواحبي، فركبت أتاني القمراء فحملته معي، فوالذي نفس حليمة بيده لقطعت الركب حتى إن النسوة ليقلن: أمسكي علينا، أهذه أتانك التي خرجت عليها؟ فقلت: نعم، فقالوا: إنها كانت أدمت حين أقبلنا فما شأنها؟ قالت: فقلت: والله حملت عليها غلاما مباركا. 

قالت: فخرجنا، فما زال يزيدنا الله في كل يوم خيرًا، حتى قدمنا والبلاد سنة، ولقد كان رعاتنا يسرحون ثم يروحون، فتروح أغنام بني سعد جياعًا، وتروح غنمي بطانًا، حفلاً فنحلب، ونشرب، فيقولون: ما شأن غنم الحارث بن عبد العزى، وغنم حليمة تروح شباعًا حُفَّلاً، وتروح غنمكم جياعًا، ويلكم اسرحوا حيث تسرح غنم رعائهم، فيسرحون معهم، فما تروح إلا جياعًا كما كانت، وترجع غنمي كما كانت. 

قالت: وكان يشب شبابًا ما يشبُّه أحد من الغلمان، يشب في اليوم شباب السنة، فلما استكمل سنتين أقدمناه مكة، أنا وأبوه، فقلنا: والله لا نفارقه أبدًا ونحن نستطيع، فلما أتينا أمه، قلنا: والله ما رأينا صبيًا قط أعظم بركة منه، وإنا نتخوف عليه وباء مكة وأسقامها، فدعيه نرجع به حتى تبرئي من دائك، فلم نزل بها حتى أذنت، فرجعنا به، فأقمنا أشهرًا ثلاثة أو أربعة فبينما هو يلعب خلف البيوت هو وأخوه في بهم لنا إذ أتى أخوه يشتد، فقال لي ولأبيه إن أخي القرشي، أتاه رجلان عليهما ثياب بيض، فأخذاه واضجعاه، فشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه يشتد، فوجدناه قائما، قد انتقع لونه فلما رآنا أجهش إلينا، وبكى، قالت: فالتزمته أنا وأبوه، فضممناه إلينا: ما لك بأبي وأمي؟ فقال: «أتاني رجلان وأضجعاني، فشقا بطني، ووضعا به شيئًا، ثم رداه كما هو» فقال أبوه: والله ما أرى ابني إلا وقد أصيب، الحقي بأهله، فرديه إليهم قبل أن يظهر له ما نتخوف منه، قالت: فاحتملناه فقدمنا به على أمه، فلما رأتنا أنكرت شأننا، وقالت: ما رجعكما به قبل أن أسألكماه، وقد كنتما حريصين على حبسه؟ فقلنا: لا شيء إلا أن قضى الله الرضاعة وسرنا ما نرى، وقلنا: نؤويه كما تحبون أحب إلينا، قال: فقالت: إن لكما شأنا فأخبراني ما هو، فلم تدعنا حتى أخبرناها، فقالت: كلا والله، لا يصنع الله ذلك به، إن لابني شأنا، أفلا أخبركما خبره، إني حملت به، فوالله ما حملت حملا قط، كان أخف علي منه، ولا أيسر منه، ثم أريت حين حملته خرج مني نور أضاء منه أعناق الإبل ببصرى -أو قالت: قصور بصرى-، ثم وضعته حين وضعته فوالله ما وقع كما يقع الصبيان، لقد وقع معتمدًا بيديه على الأرض رافعًا رأسه إلى السماء فدعاه عنكما فقبضته، وانطلقنا). 

دروس وعبر

أ- بركة النبي صلى الله عليه وسلم على السيدة حليمة: فقد ظهرت هذه البركة على حليمة السعدية في كل شيء، ظهرت في إدرار ثدييها وغزارة حليبها، وقد كان لا يكفي ولدها، وظهرت بركته في سكون الطفل ولدها، وقد كان كثير البكاء مزعجًا لأمه يؤرقها ويمنعها من النوم، فإذا هو شبعان ساكن جعل أمه تنام وتستريح، وظهرت بركته في شياههم العجفاوات التي لا تدر شيئًا، وإذا بها تفيض من اللبن الكثير الذي لم يُعهد. 

ب- كانت هذه البركات من أبرز مظاهر إكرام الله له، وأكرم بسببه بيت حليمة السعدية التي تشرفت بإرضاعه، وليس من ذلك غرابة ولا عجب، فخلف ذلك حكمة أن يُحب أهل هذا البيت هذا الطفل ويحنوا عليه ويحسنوا في معاملته ورعايته وحضانته، وهكذا كان فقد كانوا أحرص عليه وأرحم به من أولادهم. 

جـ- خيار الله للعبد أبرك وأفضل: اختار الله لحليمة هذا الطفل اليتيم وأخذته على مضض؛ لأنها لم تجد غيره، فكان الخير كل الخير فيما اختاره الله، وبانت نتائج هذا الاختيار مع بداية أخذه وهذا درس لكل مسلم بأن يطمئن قلبه إلى قدر الله واختياره والرضا به، ولا يندم على ما مضى وما لم يقدره الله تعالى. 

د- أثر البادية في صحة الأبدان وصفاء النفوس، وذكاء العقول: قال الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله-: وتنشئة الأولاد في البادية ليمرحوا في كنف الطبيعة، ويستمتعوا بجوها الطلق وشعاعها المرسل، أدنى إلى تزكية الفطرة وإنماء الأعضاء والمشاعر، وإطلاق الأفكار والعواطف. 

إنها لتعاسة أن يعيش أولادنا في شقق ضيقة من بيوت متلاصقة كأنها علب أغلقت على من فيها، وحرمتهم لذة التنفس العميق والهواء المنعش. 

ولا شك أن اضطراب الأعصاب الذي قارن الحضارة الحديثة يعود –فيما يعود– إلى البعد عن الطبيعة، والإغراق في التصنع، ونحن نقدر لأهل مكة اتجاههم إلى البادية لتكون عرصاتها الفساح مدارج طفولتهم، وكثير من علماء التربية يودون لو تكون الطبيعة هي المعهد الأول للطفل حتى تتسق مداركه مع حقائق الكون الذي وجد فيه ويبدو أن هذا حلم عسر التحقيق. 

وتعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بادية بني سعد اللسان العربي الفصيح، وأصبح فيما بعد من أفصح الخلق، فعندما قال له أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله ما رأيت أفصح منك. فقال صلى الله عليه وسلم: «وما يمنعني وأنا من قريش وأرضعت في بني سعد». 

2- ما يستفاد من حادثة شق الصدر

تعد حادثة شق الصدر التي حصلت له عليه الصلاة والسلام أثناء وجوده في مضارب بني سعد من إرهاصات النبوة ودلائل اختيار الله إياه لأمر جليل. 

وقد روى الإمام مسلم في صحيحه حادثة شق الصدر في صغره، فعن أنس بن مالك: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه –يعني ظئره– فقالوا: إن محمدًا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال إنس: وقد كنت أرى أثر المخيط في صدره. 

ولا شك أن التطهير من حظ الشيطان هو إرهاص مبكر للنبوة، وإعداد للعصمة من الشر وعبادة غير الله، فلا يحل في قلبه إلا التوحيد الخالص، وقد دلت أحداث صباه على تحقق ذلك فلم يرتكب إثمًا، ولم يسجد لصنم رغم انتشار ذلك في قريش.

يبدو أن الحكمة في ذلك إعلان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وتهييؤه للعصمة والوحي منذ صغره بوسائل مادية ليكون ذلك أقرب إلى إيمان الناس به وتصديقهم برسالته، إنها إذن عملية تطهير معنوي، ولكنها اتخذت هذا الشكل المادي الحسي، ليكون فيه ذلك الإعلان الإلهي بين أسماع الناس وأبصارهم إن إخراج العلقة منه تطهير للرسول صلى الله عليه وسلم من حالات الصبا اللاهية العابثة المستهترة, واتصافه بصفات الجد والحزم والاتزان وغيرها من صفات الرجولة الصادقة، كما تدلنا على عناية الله به وحفظه له، وأنه ليس للشيطان عليه سبيل. 

وفاة أمه وكفالة جده ثم عمه

توفيت أم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ست سنين بالأبواء بين مكة والمدينة، وكانت قد قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي راجعة به إلى مكة ودفنت بالأبواء وبعد وفاة أمه كفله جده عبد المطلب، فعاش في كفالته، وكان يؤثره على أبنائه أي أعمام النبي صلى الله عليه وسلم - فقد كان جده مهيبًا لا يجلس على فراشه أحد من أبنائه مهابة له، وكان أعمامه يتهيبون الجلوس على فراش أبيهم، وكان صلى الله عليه وسلم يجلس على الفراش ويحاول أعمامه أن يبعدوه عن فراش أبيهم, فيقف الأب الجد بجانبه, ويرضى أن يبقى جالسًا على فراشه متوسمًا فيه الخير، وأنه سيكون له شأن عظيم وكان جده يحبه حبًا عظيمًا، وكان إذا أرسله في حاجة جاء بها وذات يوم أرسله في طلب إبل فاحتبس عليه فطاف بالبيت وهو يرتجل يقول: 

رب رد راكبي محمدا =رده لي واصنع عندي يدا

فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم وجاء بالإبل فقال له: يا بني, لقد حزنت عليك كالمرأة حزنًا لا يفارقني أبدًا.ثم توفي عبد المطلب والنبي صلى الله عليه وسلم في الثامنة من عمره فأوصى جده به عمه أبا طالب فكفله عمه وحنّ عليه ورعاه. 

أرادت حكمة الله أن ينشأ رسوله يتيمًا، تتولاه عناية الله وحدها، بعيدًا عن الذراع التي تمعن في تدليله والمال الذي يزيد في تنعيمه، حتى لا تميل به نفسه إلى مجد المال والجاه، وحتى لا يتأثر بما حوله من معنى الصدارة والزعامة، فيلتبس على الناس قداسة النبوة بجاه الدنيا، وحتى لا يحسبوه يصطنع الأول ابتغاء الوصول إلى الثاني وكانت المصائب التي أصابت النبي صلى الله عليه وسلم منذ طفولته كموت أمه ثم جده بعد أن حرم عطف الأب وذاق كأس الحزن مرة بعد مرة، كانت تلك المحن قد جعلته رقيق القلب مرهف الشعور، فالأحزان تصهر النفوس وتخلصها من أدران القسوة والكبر والغرور، وتجعلها أكثر رقة وتواضعاً.

الحلقة السابقة هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين