نظرات في كتاب «درّ الغمامة بمباحثة الشيخ محمد عوامة» لمحمود سعيد ممدوح

صدر حديثاً كتاب «درّ الغمامة بمباحثة الشيخ محمد عوامة» للشيخ محمود سعيد ممدوح، ولم يكن بالأمر المُستَغرَب منه أن يُصدِرَ مثلَ هذا الكتاب، ودار حوله كلامٌ كثير، ولم أشأ أن أُبيِّن رأيي فيه حتى أقفَ عليه، فطلبتُه من معرض الكتاب في القاهرة، فوصل إليّ أمس، فطالعتُه فأسِفتُ إلى مستوى النقد ومنهجه وأسلوبه، ولئلّا يكون الكلامُ جزافاً أودُّ أن أسوقَ حوله ملاحظات سريعة، وكلُّها علميّة، لا على سبيل الحصر والاستيعاب، بل على سبيل التمثيل بها على أشباهها.

ومن المظنون بالناقد المذكور إذا ما اطّلَع على هذه الملاحظات أن يَصِفَني بأني أدور في فلك الشيخ محمد عوامة، كما فعل في كتابه المذكور (ص226) فوصفني بأني «باحث يدور في فلك الكوثري»، وهو ما يَعُدُّه ذماً، وإنما الأعمالُ بالنِّـيّات، بل ربما يرميني أنا الآخرُ بالنَّصْب والإقصاء لآل البيت، فإن فَعَل كان لنا مَوعِدٌ بين يدي الحَكَم العَدْل، ولكنَّ المأمولَ منه أن يعودَ إلى الصَّواب، ويكُفَّ عن مثل هذه الدَّعاوى الباطلة، والمَزاعِم الداحضة، والله المُوفِّقُ لنا وله إلى ما فيه رضاه.

1- نقد الكتاب في فكرته:

يقوم الكتاب في أكثره على دعوى إقصاء الشيخ محمد عوامة لآل البيت وإهمال ذكرهم والميل إلى أعدائهم ... إلى آخر الشنشنة المعروفة، بل يُكرِّر الباحث المذكور في كتابه وصف الأستاذ الشيخ عوامة بأنه (شاميّ)، وهو يعلم أن الشام أرض مباركة، دعا لها النبيّ صلى الله عليه وسلم لها بذلك، فكيف يتّخذُها سُبّةً ومطعناً؟

سيقول ـ كما هو معلوم ـ : إنه يريد أنه شاميّ مذهباً، أي: ناصبيّ، كما صرَّح بذلك في مواضع أُخَرَ من كتابه، فنقول: هذا افتراء فاضح، وبهتان ظاهر، وستأتي مناقشة تهمة النصب لاحقاً.

وأكتفي هنا بأن أقول: إن تهمة إقصاء آل البيت وإهمال ذكرهم التي وجَّهها الباحث المذكور إلى الأستاذ الشيخ محمد عوامة، وجَّهها الباحث نفسُه في الكتاب نفسِه إلى: ابن أبي شيبة (ص 14)، وابن المديني (ص 40)، وابن منده والبيهقي والخطيب وابن الصلاح (ص 41 بقرينة عبارته في ص42)، وعبد الملك بن حبيب (ص 42)، وأبي إسحاق الشيرازي وتاج الدين السبكي (ص 43)، بل إلى «العلماء المصنفين في علوم الحديث ومنهم ابن الصلاح» (ص 39).

ولو استقصى الباحثُ المذكور النقولَ لأتى على النووي وابن حجر والسخاوي والسيوطي ومئات غيرهم، فما النقول التي نقلها عمن ذكرهم وعدَّها إقصاءً لآل البيت وجحوداً لفضلهم وتنكُّراً لهم إلا مقتطفات من عشرات أمثالها بل مئات، يتداولها أهل السنة في مصنَّفاتهم، سواء من المفسرين أو المحدثين أو الفقهاء أو الأصوليين أو المتكلمين.

ولذا، فأقترح عليه أن يُعيد تسمية كتابه ويُغيِّرها إلى: (در الغمامة، بمباحثة كبار علماء الأمّة، في إقصائهم أئمة آل البيت وعلومهم الجمّة).

وبه يظهر أن مباحثة الباحث ليست مع الأستاذ الشيخ محمد عوامة حقيقةً، ولا مع مدرسته الخاصة تحديداً، وإنما اتخذ اسمَ الشيخ ذريعةً ليتوصَّلَ به إلى الطعن في منهج أهل السنة عامةً في هذا المبحث، فالأستاذ الشيخ محمد عوامة لم يخرج في هذا المبحث عما يُقرَّر في المنهج العلمي لأهل السنة والجماعة على تنوُّع مدراسهم وانتشارهم في أقطار الأرض. 

وما زال مخالفوهم من الشيعة الإمامية أو الزيدية يَرْمُون أهل السُّنّة بالنَّصْب زوراً، فالمسألة ليست مباحثةً بين الشيخ محمد عوامة والباحث المذكور، وإنما هي مساجلة ما زالت مُستَمرّةً عبر العصور بين أهل السنة والشيعة.

2- نماذج من مباحثاته:

أفرد الباحث المذكور الفصل الثاني من كتابه بعنوان (نقد مواقف سيئة للشيخ محمد عوامة من آل البيت)، وذكر فيه (ص109-115) عشر روايات تدلّ على النزعة الشامية للشيخ محمد عوامة، ومحبته لأعداء آل البيت ... إلى آخر بهتانه.

والرواية الأولى منها (ص108) هي: (في «المصنف» (رقم 32741) عن سعد رضي الله عنه قال: «قدم معاوية في بعض حجّاته، فأتاه سعد، فذكروا علياً، فنال منه معاوية، فغضب سعد ...» الحديث). وقال الباحث المذكور بإثرها: (فلماذا لم تغضب يا عوامة، كسعد رضي الله عنه، يا مَنْ تدَّعي حبَّ الصحابة؟ بل أنت تحبُّ معاوية وانطوى قلبك على حبه). انتهى.

أقول: سبحان الله، الأستاذ الشيخ محمد عوامة سكت على الرواية، ولم يسكت عن نَيْل معاوية من عليّ خاصّة، والرواية كما تشتملُ على النَّيْل المذكور تشتملُ على غضب سعد، فإن كان سكوت الشيخ عن الأول إقراراً له فسكوته عن الثاني إقرار له أيضاً، وإن لم يكن سكوتُه عن الثاني إقراراً له فسكوته عن الأول ليس إقراراً له، ولكنَّه هوى الباحث، يُقوِّلُ الشيخ ما يشاء، ويُحمِّلُ كلامَه ما لم يحتمل.

ثم لو جاء رجل ناصبيّ محترق، فنقد الشيخ عوامة بأنه سكت عن الرواية، ووضع خطاً تحت جملة «فغضب سعد»، واتهمه بأنه سكت عن غضب سعد على معاوية، وكا كان ينبغي له أن يسكت، بل كان ينبغي أن يُعلِّق على ذلك ... إلخ، أيكونُ لكلامه وزنٌ من القبول؟ كلا، وكذلك هذا. 

والرواية الثانية منها (ص109) هي (في «المصنف» (برقم 32609) أن سعيد بن زيد رضي الله عنه دخل على المغيرة بن شعبة ـ عامل معاوية على الكوفة ـ فبَيْنا هو على ذلك, إذ دخل رجل من أهل الكوفة, يدعى قيس بن علقمة, فاستقبل المغيرة فسبّ وسبّ, فقال له المدني ـ يعني: سعيد بن زيد ـ : يا مغير بن شعب, مَنْ يسبُّ هذا السابّ؟ قال: يسبُّ علي بن أبي طالب, قال له مرّتين: يا مغير بن شعب, يا مغير بن شعب, ألا أسمَعُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسبُّون عندك، لا تُنكِر, ولا تُغيِّر). وقال الباحث المذكور بإثرها: (فيا مَنْ تدَّعي محبّة الصحابة لماذا لا تنكر ولا تُغيِّر؟ هل سبُّ عليّ عليه السلام جائز؟ أين تعليقاتك التي رأيتها في صفحات المجلد العشرين انتصاراً لأبي حنيفة والكوثريّ وازراءً بأبي بكر بن أبي شيبة؟).

والكلام عليها كالكلام على التي قبلها تماماً، فالمسكوتُ عنه هو الرواية بتمامها، وكما أن فيها سبَّ عليّ رضي الله عنه، كذلك فيها الإنكارُ على سبِّه. أما أمر المجلد العشرين من «المصنَّف» فمختلف، حيثُ أفرد ابن أبي شيبة هناك باباً للرَّدّ على أبي حنيفة بدعوى مخالفة الحديث الصحيح، ولم يذكر فيه شيئاً من الانتصار له، فكان لا بُدَّ من توضيح ذلك، فخصَّه الأستاذ الشيخ محمد عوامة بمقدمة خاصّة، وأما القضية المبحوث عنها هنا، فلم يُفرِد ابنُ أبي شيبة باباً للرَّدّ على سيدنا عليّ مثلاً، ومقامُه عليه السلام أجلُّ من ذلك، كما أن الروايات التي فيها سبُّه أعلى الله درجتَه، فيها كذلك الانتصارُ له، فظهر الفارق.

ولو لم ير الباحث هذا فارقاً معتبراً فالقضية اختلاف في هذه الجزئية، لا نَصْب وعداء وإقصاء، فليَتَّق الله في أعراض أهل العلم.

والرواية الثالثة منها (ص 109) هي: (في «المصنف» (برقم 12111) عن قطبة بن مالك قال: «سَبَّ أمير من الأمراء علياً, فقام إليه زيد بن أرقم، فقال : أما إني قد عَلِمتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن سبِّ الموتى , فلِمَ تسبُّ علياً وقد مات؟»). وقال الباحث المذكور بعد كلام عن تصحيح الرواية (ص111): (لم نجد إنكاراً من محمد عوامة لهذه الجريمة الشنيعة في حقّ أمير المؤمنين علي عليه السلام، لأنّ تخصُّصَه الدفاع عن الطلقاء!).

أقول: سبحان الله، سياق الرواية في الدفاع عن سيدنا علي عليه السلام والإنكار على السابّ، وما ذُكِرَ السَّبُّ فيها إلا تمهيداً لذكر الإنكار عليه، وإنكار الجريمة الشنيعة مُصرَّح به فيها، وتحميل الأمر أكثر من ذلك ما هو إلا تهويل.

ولو نظرنا إلى سائر الروايات التي ساقها الباحث في هذه الصفحات، لرأيناها لا تخرج في غالبها عن هذه الصورة، فانظر وتأمَّل، وتَرحَّمْ على العِلم وأهلِه.

3- حول إهمال تخريج الأحاديث الموقوفة من المصنف:

يعدّ الباحث المذكور التزام الأستاذ الشيخ محمد عوامة بتخريج الأحاديث المرفوعة من «مُصنَّف» ابن أبي شيبة دون الموقوفات والمقطوعات «من أكبر وأعقد المشاكل في عمل الشيخ محمد عوامة على المصنف»، ثم ذكر أن «هذا يعني إهمال تخريج الشطر الأكبر من الكتاب»، وأنّ «الموقوفات في «المصنف» من مقاصد الكتاب»، وأنّ «تخريج الشيخ محمد عوامة للمصنف بعد إهمال الموقوفات لا يزيد عن ثلث الكتاب».

أقول: عمل الأستاذ الشيخ محمد عوامة في «المصنَّف» يدور على ثلاثة محاور، وهي تحقيق النَّصّ، وتقويمه، وتخريج أحاديثه، وهو ما يُعرَفُ من مقدمته من جهة، ومما كتبه على الغلاف الخارجيّ، وهذا نصّه: «حقَّقه وقوَّم نصوصَه وخرَّج أحاديثه».

ولأن الباحث المشار إليه لم يُعانِ التحقيق، ولم يسلك هذا الطريق، وليس له صلة بالمخطوطات ونسخها وإشكالاتها ومُعضِلاتها، فضلاً عن الدراية والمعرفة، أهمل محورَيْ تحقيق النص وتقويمه، مع أنهما أكثر أهمية وأشدّ خطراً وأعلى رتبة من التخريج، فالتخريج عمل المخرِّج في الحواشي الذي يُنسَبُ إليه، وللقارئ ألا ينظر إليه البتة، ولكنّ تحقيق النَّصّ عملُ المُحقِّق في النَّصّ الذي يُنسَب إلى المؤلف.

ولذا كان ركنُ التحقيق الرئيس ومقصده الأهمّ هو إخراج النّصّ كما تركه مُؤلِّفُه، مع خدمته بالترقيم والتفقير وضبط ما يُشكِل ونحوها، أما ما سواه من التخريج والتعليق فأعمال فرعية تكميلية، وهي على أهميتها لا تبلغ الركن الرئيس ولا تقاربه.

وبهذا يظهر أن الأمر ليس كما ادَّعى الباحث المذكور من أنّ إهمال تخريج الموقوفات «من أكبر وأعقد المشاكل في عمل الشيخ عوامة على المصنف»، ولكنَّه التهويل.

4- إساءة أدب الباحث في حق الشيخ عبد الفتاح مع ذكره له بـ(شيخنا):

يقول الباحث في كتابه المذكور (ص 93): (وتبع شيخنا الشيخ عبد الفتاح أبو غدّة شيخه الكوثري وزاد فقال: «ومما أخل به الكاتبون إخلالاً بيِّناً تاريخ الفقه والحديث بالعراق ...، ولم ينهض أحد بأداء هذا الحق على وجهه ... سوى شيخنا ... الكوثري». قلت (محمود سعيد): ولو أقسم رجل بين الركن والمقام وأمام الحجرة النبوية الشريفة أن الكوثريّ أخلّ إخلالاً بيِّناً بتاريخ الفقه والحديث بالعراق يكون بارّاً في يمينه). انتهى.

فانظر إلى هذا القدر من سوء الأدب، كيف يُعارض مَنْ يدَّعيه شيخاً له ويذكرُه بهذه الصفة بالأيمان المغلظة في أطهر البقاع، فأمرٌ يكون من الظهور بحيثُ يُقسَم عليه في البقعتين الطاهرتين المذكورتين ويكون قسمُه بارّاً: إن خفيَ على عالم مُحقِّق مُطَّلِع مُدقِّق كالشيخ عبد الفتاح فهذا وصفٌ له بالجهالة الفاضحة، وحاشاه، وإن لم يخفَ عليه ولكنَّه سطَّرَه في كلامه فهذا وصفٌ له بالتزوير والتحريف، وحاشاه حاشاه، فأيُّ إساءة أدب هذه الإساءة! وأيّ خذلان هذا الخذلان!

5- التَّشبُّع بالاجتهاد والتحرير والتحقيق، ورميُ الشيخ محمد عوامة بالتقليد:

يفتخر الباحث بأنه ينحو منحى التحرير والتحقيق، ولا يركن إلى التقليد، ويفتخر بالزيدية أنهم أكثر المذاهب عناية بالاجتهاد، وأن معاهدهم تسعى لتخريج المجتهد، وليس لتخريج المدرس المقتصر على ترديد كلام السابقين (ص231 و232)، ويرمي الأستاذ الشيخ محمد عوامة بأنه (مُقلِّد) وأنه (حنفيّ) وأنه (من الدعاة إلى التقليد) وأنه (يكرِّر ما عاش عليه)، إلى غير ذلك من عبارات تدور حول هذا الأمر، وجعل تحذير الشيخ محمد عوامة من «التوارد» متناقضاً مع كونه «مقلداً» (ص19-94).

ومن الغريب أنه يُغفِلُ ـ عمداً أو سهواً ـ التفريق بين التقليد في استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها والتقليد في العلوم الشرعية.

أما الأول فهو بمعنى: لزوم اتباع أحد المجتهدين في الأحكام الشرعية لمن لم تكن له أهلية الاجتهاد، وهو ما يسلكه الشيخ محمد عوامة في نفسه ويدعو إليه غيره، وهو مسلك علماء الأمة من أتباع المذاهب الأربعة على مرّ العصور، ولا حاجةَ إلى سَرْدِ أسماء كبار أهل العلم الذين التزموا مذاهبهم الفقهية، مع بلوغهم في فروع العلوم المختلفة أعلى المراتب.

وأما الثاني فهو ما يُحذِّر منه الشيخ محمد عوامة، فيدعو طلبة العلم إلى تحقيق المسائل العلمية ومراجعة النقول من مصادرها وتحرير محالّ الخلاف والتدقيق في معاني الاصطلاحات واستحضار تطوُّرها عبر الأزمان، إلى آخر ما يتصلُ بذلك.

والأمران ليسا متناقضين، فكم من أهل العلم مَنْ كان مُجدِّداً في فنِّه، محرِّراً في تصانيفه، مُدقِّقاً في استدراكاته وتعقيباته، وهو مع ذلك مُتَّبع لإمام من الأئمة المجتهدين.

نعم، سيقول الباحث المذكور: إن الشيخ محمد عوامة مُقلِّد بالمعنى الثاني كذلك، وربما استشهد على ذلك بشيء من مسائل علوم الحديث التي عرضها الباحث في كتابه (ص19-94) حيثُ سار الشيخ محمد عوامة فيها على أقوال علماء المصطلح، والتحقيق والتحرير في خلافها، على ما بيَّنه الباحث فيها.

فأقول: هذه تعليقات الأستاذ الشيخ محمد عوامة على «تدريب الراوي» شاهدة برتبته في هذا العلم، وفيها من التحرير والتدقيق والتحقيق ما شهد به الموافق والمخالف، ودَعُونا من المنهج الفاسد الذي لم يُعرَف في كتب آداب البحث والمناظرة البتة، أعني: أن يرى باحثٌ من الباحثين أن المسألة الفلانية تحتاج إلى تحرير، ولا يرى باحث آخرُ بعد الدراسة والنظر ذلك، فإن بقي الثاني على ما يرى ولم يوافق الأول في أنها تحتاج إلى تحرير، ولم يُحرِّرْها فعلاً فهو إذن مُقلِّد! والمسائل التي ساقها الباحث من هذا القبيل.

6- نماذج من التقليد في الخطأ مما وقع فيه الباحث في كتابه المذكور:

النموذج الأول:

قال الباحث المذكور (ص223): (وصف الكوثريُّ الحافظ أبا بكر بن أبي شيبة بأنه «لا يبال بانقطاع في الأسانيد، ولا بوجود رجال فيها متكلَّم فيهم»)، ثم قال: (معناه: أن ابن أبي شيبة رجل جاهل بالحديث حاطب ليل لا يدري ما يقول، ومناقشة الشيخ الكوثري تحتاج لتفصيل وقد سئمتُ تتبُّعه، وسأدَعُ قولي وسأجلب قول أحد الباحثين وهو الدكتور كيلاني خليفة الذي قال في أطروحته «منهج الحنفية في نقد الحديث» (ص332): «وقد اتهم الكوثريُّ ابنَ أبي شيبة بأنه لم يُبالِ بانقطاع الأسانيد ولا بوجود رجال تُكُلِّمَ فيهم، والذي وجدتُه أنّ أغلبَ الأحاديث التي أوردها ابنُ أبي شيبة على أبي حنيفة أصلُها في «الصحيحين»، وقد تكون من الطريق نفسه أو غيره»). ثم قال الباحث المذكور: (وكان على الشيخ محمد عوامة أن يتبع طريق أهل الأمانة والإنصاف وينظر في دعوى الكوثري على ابن أبي شيبة ...). يعني: لأن الشيخ عوامة نقل كلمة الكوثريّ ولم يتعقَّبها.

أقول: عبارة الكوثريّ بتمامها من «النكت الطريفة» (ص62 بتحقيقي): «ثم إنه لم يُبالِ بانقطاعٍ في الأسانيد، ولا بوجودِ رجالٍ فيها مُتكلَّمٍ فيهم، فتَمَكَّنَ أصحابُ أبي حنيفة من الجواب عما أورَدَه هو عليه، ولم يكنْ هذا عن غَفْلةٍ منه، بل أراد استِعراضَ جميع ما ورد في الباب، مما حاوَلَ أهلُ الحديث أن يَرُدُّوا به عليه، فينُوبُ بذلك عنهم في الرَّدِّ، مع إبقاءِ طريق للتنفُّس لأصحاب أبي حنيفة، بتَرْكِه ثَغَراتٍ في الآثار تُمكِّنُهم من الرَّدّ». وقد بتر كيلاني خليفة النقلَ، وقلّده الباحث المذكور، وبنى عليه أن الكوثريّ يتهم ابن أبي شيبة بأنه جاهل وحاطب ليل، مع أن تتمة كلام الكوثريّ صريحة في ضدِّه، ثم يطلبُ هذا الباحث من الشيخ محمد عوامة أن «يتبع طريق أهل الأمانة والإنصاف»، والأَوْلى أن يُوجِّه هذه الكلمة لنفسه ولمُقلَّده.

وقد قلت في التعليق على هذا الموضع من «النكت الطريفة» (1/ 62) متعقِّباً كلام الدكتور كيلاني خليفة المنقول آنفاً: «أين هذا الاتهامُ في كلام الكوثري؟ لا سيّما أنه قال: «ولم يكن هذا عن غفلة منه»، وهي العبارةُ التي أغفلها كيلاني في نقله عن الكوثري! والمسألة عند الكوثريّ كما هو ظاهرٌ من سياقها مسألةُ أمرٍ مُلاحَظ في ردِّ ابن أبي شيبة ـ وهو إيرادُ أحاديثَ فيها كلامٌ من جهة انقطاع في أسانيدها أو مقالٍ في رواتها ـ يحتاجُ إلى كشفٍ عن سَبَبهِ وبيانٍ لعلّته، فذكر أنه من أجل استعراض جميع ما ورد في الباب، وليست المسألةُ مسألةَ أغلبية أو كثرة وقلة كما جعلها الدكتور كيلاني». ونسخة «النكت الطريفة» بتحقيقي موجودة بين يديه، فقد أحال عليها في (ص226) من كتابه، أي: في هذا المبحث نفسه.

النموذج الثاني:

قال الباحث المذكور (ص224): (خطأ آخر للكوثري على ابن أبي شيبة، فإن الأول ادعى خطأ ابن أبي شيبة على أبي حنيفة فقال: «إننا نرى كثيراً من الآراء التي يعزوها إليه لم تثبت نسبتها إليه في كتب المذهب المتداولة مدى القرون»)، ثم قال: (وإذا رجع القارئ إلى كتاب الدكتور كيلاني (ص332) يجده يعارض الكوثريّ في هذه الدعوى، ولكن مرَّة أخرى: أين الشيخ محمد عوامة؟ ولماذا لم يُحقِّق هذه المسائل؟)، يعني: لأن الشيخ محمد عوامة نقل كلمة الكوثريّ ولم يتعقَّبها.

أقول: وأنت أيها الباحث الفذ قلَّدتَ الدكتور كيلاني خليفة مرّة أخرى، فوقعت فيما اتهمت به الأستاذ الشيخ محمد عوامة، وهو بريء منه، وتحقيقي «النكت الطريفة» بين يديك، فقد أحلت عليه بعد صفحتين فقط (ص226)، وقد قلتُ (1/ 61) في التعليق على كلمة الكوثريّ المنقولة: «سيأتي في هذه المُقدِّمة أنّ المُؤلِّف يُقدِّرُ هذه المسائل بخُمُس شطرها، يعني: 10% من مسائل الكتاب، فتكون حوالي 12 مسألة، وبعد الاستقراء التام تَبيَّنَ أنها 15 مسألة ـ وسيأتي ذِكرُها في هذه المقدمة تعليقاً ـ ، يعني: ما نسبتُه 12% تقريباً، ولا شك أنّ نسبة 12% من الخطأ في عَزْوِ الأقوال إلى المردود عليه نسبةٌ كبيرة، وهي المُرادُ بالكثرة في كلام المُؤلف هنا. وقد تسـرَّع الدكتور كيلاني محمد خليفة في كتابه «منهج الحنفية في نقد الحديث» ص332 فقال: «أغلبُ الأقوال الفقهية التي نسبها [ابنُ أبي شيبة] لأبي حنيفة صحَّت نسبتُها إليه إلا في مسائلَ معدودة، وهو خِلافُ ما قال الكوثريُّ في مقدِّمة كتاب «النكت الطريفة» من أن كثيراً من الآراء التي عزاها ابنُ أبي شيبة لأبي حنيفة لم تثبت نسبتُها إليه في كتب المذهب المتداولة عبر القرون». ولو تأنـّى الدكتور كيلاني لظهرَ له وجهُ كلام الكوثري، ولكنها العجلةُ في النقد لا تأتي بخير». انتهى.

وبه يظهر أنْ لا إشكالَ في كلام الكوثريّ، ولا في نَقْل الشيخ عوامة عنه، ولكنّ الخطأ وقع للدكتور كيلاني خليفة، وقلَّده الباحث المذكور حيثُ لم يكن الأمرُ يستدعي منه أن يقوم بتحقيق المسألة، وإنما أن يراجع الكتاب المُحقَّق الذي ينقل عنه في المبحث نفسه بعد صفحتين لتَتَجلّى له الحقيقة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين