حوار حول إرادة الله تعالى ومفهوم الدعاء (1)

كتب بعضهم في بعض وسائل التواصل هذه الكلمات:

[من القضايا الأساسية والتي يجاب عنها غالبا بطريقة طفولية لا تخلو من السطحية مفهومان أساسيان:

المفهوم السائد في قضية ربط الأمور وتفاصيلها بإرادة الله *المباشرة*؟؟ ومفهوم الدعاء لإنفاذ امر دنيوي؟؟

وباختصار، فإن القضايا التي تجري في الكون تجري وفق سَنَن الله ومراده من خلال القوانين التي وضعها سبحانه وتعالى، وتكمن إرادة الله وتدبيره هنا فقط، وبالتالي فإن عزو المصائب والحروب والدمار والتهجير والتقتيل الى إرادة الله المباشرة في ذلك هو اتهام خطير، وادعاء لا يخلو من جهل بالله.

اما الدعاء؛ فلا يمكن بأي حال ان يحقق أمرا دنيويا بذاته لا بصورة معجلة ولا مؤجلة لا في الدنيا ولا في الآخرة، كما المفهوم السائد!!! إنما هو وسيلة ليتفتق العقل الإنساني عن ابداع الوسائل وإيجاد الأسباب لتحقيق مراده بصورة مطلقة].

وفي هذا الكلمات مغالطات علمية لا تخفى، وأخطاء عقدية متراكمة، وهي في الواقع أقل من أن تضاع فيها الأوقات أو تسوَّد الأوراق. 

ولكن أحببت أن أقيِّد بعض ما دار من حوار حول هذين المفهومين: الإرادة الإلهية والدعاء؛ ليستفيد منها طلاب الحق، وتكون حصنا لهم فيما يثار من أباطيل وشبهات. 

وقد أرسلت هذه المقولة لعدد من أهل العلم الفضلاء – دون أن أذكر اسم قائلها لأن المراد مناقشة القول لا القائل، خاصة وأن عادته جرت أن يتجاهل ويتغافل عن الأجوبة - ولم أجب عليها رغم بدو عوارها وانكشاف زيفها؛ كيلا أتهم بالتحامل على هذا المفكر العبقري، ومن أجل أن لا يضيع الوقت سدى فيما لا ينتظر الجواب من مردِّد هذه الكلمات.

وقد أجاب الأستاذ الفاضل الداعية المربي محمد عادل فارس على هذه الكلمات بقوله:

[ بل إرادة الله تحكم أمور الدنيا والآخرة، صغيرها وكبيرها.

والدعاء سبب شرعي لحصول المقصود، وهو كذلك متوافق مع إرادة الله وحكمته ورحمته وفضله، وهذا كله لا يتنافى مع أهمية الأخذ بالأسباب الظاهرة، كما لا يتنافى مع مسؤولية الإنسان عما يفعل.

وخلاصة الأمر: أنه لا يقع شيء في الكون عامة، وفي حياة الإنسان خاصة، إلا بإذن الله، إذ لا مُكْرِهَ له سبحانه. ثم إنما يحاسَب الإنسان، رضواناً أو سخطاً، ونعيما أو جحيما، بقدر ما كان له في العمل من إرادة. ويستجيب الله دعاء من دعاه، وفق حكمته وعدله، ولا يختصّ هذا بشؤون الدنيا أو شؤون الآخرة، بل هو عام يشملهما، ومن زعم التخصيص فعليه بالدليل. 

أليس الإنسان يسأل الله العفو والمغفرة والجنة... كما يسأله الرزق والشفاء والنصر على الأعداء، وفي كل هذه الأنواع قد جاءت الآيات الكريمة؟ والله تعالى أعلم].

وعلق الأخ المحقق الشيخ أحمد المكي حفظه الله تعالى:

جواب موفق مختصر نافع هادئ. فأجاب كاتب المقولة حول الإرادة الإلهية والدعاء: 

[هذه الجمل وأمثالها هي جمل إنشائية محضة وعامة نشأت نتيجة للقراءة الظاهرية للنصوص المختلفة ومحاولة لتعظيم الله بطريقة خاطئة بنسبة كل شيء اليه سبحانه، إلا أن الواقع وتفاصيل حياتنا وتفاعلاتها مع الأحداث تنفي هذه المفاهيم الانشائية بل وتدحضها بشكل يكاد ان يكون مطردا.

المسلمون يدعون الله من أكثر من مائة سنة وحالهم إلى الأسوء، والظلم والجرائم والحروب والفساد يزداد ونحن بتصرفاتنا التي تمليها علينا عقولنا وافكارنا مسؤولون عنها وسنحاسب عليها لا الله جل في علاه].

فأجاب الأخ المحقق فضيلة الشيخ أحمد المكي حفظه الله تعالى:

كنت كتبت هنا بعد كلمة (هادئ) كلاماً معناه وإن كان الكلام المردود عليه يستحق الإغلاظ، ولكن محوت ذلك خشية أن يكون من بقايا رعونات الشبيبة وحماسها على رأس الأربعين، فلما قرأت جوابه الأخير قوي عندي ما فهمته من كلامه الأول، وأنَّ مشكلته أصلاً في معرفة الله تعالى والإيمان به حقاً، وأنه رب العالمين وحده لا شريك له ، وأن الأسباب خلق من خلقه هو خلقها وهو جعلها أسباباً، وهو قادر على إعدامها بالكلية، وهو قادر على إعدام سببيّتها، وهي ليست شريكاً له وكفؤاً ونداً وظهيراً، وحقيقة كلامه تمس حقيقة اعتقاد الخالقية التي هي من بدهيات الإيمان بالله تعالى وليس وراء الإخلال بها من الإيمان بها شيء،؛ إذ الإيمان بوجود الله تعالى، ليس معناه الإيمان بمجرد وجود موجود اسمه (الله)، ولا الإقرار اللفظي(المراوغ) بكونه خالقاً، إذ من كان يعتقد -حقاً- ويوقن بأنه خالق قدير، يعلم أنَّ إيجاد الأشياء من العدم والقدرة على منحها (الوجود) يهون معه القدرة على أيِّ وصف تال للوجود، ومنه وصف السببية.

وأي عقل ومنطق هذا الذي يؤمن بخالق يقدر على الإيجاد من العدم ولا يقدر على الإعدام بعد الوجود، ولا يقدر على منح الأوصاف وسلبها مع قدرته على الإيجاد من العدم؟!

وأي عقل هذا الذي يعتقد أن القدرة على الخلق من العدم يمكن أن تكون مقيدة، فما هي القوة المسيطرة على قوة الإيجاد من العدم التي تأذن لها أو تمنعها؟!

وأي عقل هذا الذي يتصور أن من قدر على إيجاد أشياء من العدم ومنحها السببية لا يقدر أن يوجد أشياء أخرى وأسباباً أخرى قد تكون مضادة لتلك الأشياء والأسباب ومعوقة لها؟!

لو كان صاحب هذا الفكر المراوغ صريحاً واضحاً شجاعاً في بيان حقيقة ما يعتقده إن كان يعرفه حقاً فحينئذ قد يسوغ جوابه والحوار معه، وأما من لا يفصح بحقيقة معتقده على التمام وبوضوح ويظهرها في قالب مزور بقشرة هشة من ادعاء التعظيم والإجلال، أو كان غير عارف بحقيقة ما يعتقده من حيث منطلقاتُه وغاياته ولوازمه مع إظهار التعالم على جماهير المسلمين وعلى رأسهم علماؤهم على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم ومشاربهم ومواهبهم وعقولهم فهذا - على كلا الاحتمالين- لا يسوغ خطابه لأنه عبث لا ثمرة له ولا جدوى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ولو كان من علقت بقلبه شبهة أو عرض لفكره تشويش عرضه مسترشداً مستفهماً غير قاطع بما يراه قاطعا بإبطال مخالفه وهم الجم الغفير المشار إليهم أعلاه = لكان حرياً بأن يعان ويجاب ويصبر عليه، وأما المتكبر فقد أخبرنا الله تعالى أنه لا يهديه بل يصرفه عن آياته الهادية التي لا يبلغ كلامنا وكلام من هو خير منا أن يقاس بها، وهذه سنة إلهية كونية مشاهدة ونصَّ عليها القرآن العظيم، وأما الكبر فقد أخبرنا من اختاره الله تعالى لرسالاته وإنزال كتابه وبلاغه ووصفه فيه بأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى = أنه بطر الحق وغمط الناس، فكل من وُجد منه هذا الوصف الرذل القبيح فهو متكبر ممنوع في الدنيا من الهدى وفي الآخرة من الجنة حتى يدع كبره، وأقصى ما يمكن إعانته به هو التخلص من الكبر طوعاً أو كرهاً، فإن كان لا سلطان لنا عليه حتى نكسر أسوار كبره التي سجن فيها نفسه وعقله وقلبه، فما بقي إلى دعوته أو الدعاء له بالخلاص من هذا الداء من غير تشاغل بأعراضه، والله أعلم.

وعلق الأستاذ المحقق المحدث الدكتور حمزة البكري: 

الجواب المتقدم موجز واضح لم يُجب عليه إلا بدعوى أنه جمل إنشائية ... إلخ، 

وهذه دعوى لا تقبل إلا ببينة، على أن الآيات الدالة على ذلك كثيرة جدا 

وصريحة واضحة، ولكن مهما سقناها سيقول كما قال ردا على الجواب: إن فهمها خاطئ!!

والصواب أن يقول: مخطئ، لأن الخاطئ في اللغة: الآثم، وهذا يدل على مبلغ علمه بالعربية، فكيف يكون حكمه مقبولا لتمييز الفهم الصحيح من الفاسد؟!

وأما أن الواقع يخالفه، لأن الأمة تدعو من 100 سنة، فهذه نظرة قاصرة، فلو  عاش هو في زمن تكثر فيه إجابة الدعاء مثلا، لرأى الـ 100سنة التي هو فيها واقع يصدق الكلام لا يكذبه.

بل نقول: إن تخلف إجابة الدعاء دليل أيضا على نفاذ كل أمر بإرادة الله تعالى،

فإذا أراد الله إجابته أجابه، وإذا أراد عدم إجابته كذلك.

وأما السنن فهي مرتبطة مباشرة بإرادة الله تعالى، كما في قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) ومعنى أنها في كتاب، أي: معلومة ومرادة لله تعالى، أما أنها معلومة فلأنه أثبتها في كتاب، والمجهول لا يكتب، وأما أنها مرادة فلأنه تعالى ليس مجبورا ولا مكرها على وقوعها ولا على كتابتها.

قد يقول قائل: سقوط أوراق الأشجار مرتبط بسنة الله تعالى لا بإرادة الله  مباشرة.

ولكنا نقول: لا تعارض بين أن تكون واقعة بسنة الله وبإرادة الله مباشرة، أي أن الله أراد سقوطها تفصيلا وأراد أن يوافق هذا السقوط قانونا أثبته في العالم.

وأنصح هؤلاء المعظّمين للعلوم التجريبية المبنية على السنن الكونية الاطلاع 

على نظرية بافلوف العالم الروسي في علم النفس لفهم حقيقة السنن الكونية أو الأسباب والمسبَّبات، ليروا أن الأمر بيد الفاعل الحقيقي 

الذي جعل السبب سببًا، وجعل المسبَّب تابعا له، والذي جعل السنة الكونية سنة كونية، وجعل نتائجها تابعة لها.

وعلق الأخ الكريم المحدث الشيخ أحمد المكي حفظه الله تعالى: 

ومما يدلّ على مبلغ علمه بالله تعالى وبدينه وعلى مبلغ فهمه، ظنه أن إجابة  الدعاء هي تنفيذ الرب جميع طلبات العباد التي يتوهم أنها هي الدعاء!! وهي سؤال وطلب ملتحق بالدعاء الذي هو النداء والالتجاء الى الله تعالى.

ويظن ان الله تعالى لما لم يستجب لطلبات معينة خلال الـ 100 سنة أو غيرها أنه لم يجب فيها دعاء!!

كم في هذا من ظلم وجهل بالله وسوء أدب معه وجحد لإحسانه!!! وكل مؤمن بل كل منصف معترف بالجميل والمعروف يعلم من حال نفسه إجابة الله تعالى لدعائه وتحقيقه لكثير من سؤاله ورجائه 

ويعلم بذلك علمُه تعالى بحاله وسماعه لندائه ورحمته به ورأفته وكثيرا من صفاته العظمى.

إنَّ الدعاء حقيقته ولبه هو نداء العبد ربه وتوجهه إليه ومخاطبته له، وحقيقة الإجابة وأصلها: إقبال الرب تعالى على عبده الذي يدعوه، وأما ما يضمّنه العبد دعاءه من طلبات وقضاء حاجات فهو سؤال وطلب ملتحق بالدعاء ولا يتوقف الدعاء عليه، بل قد يدعو العبد ربه من غير أن يصرّح بسؤال شيء وطلبه، لكن طلبه وسؤاله من ربه تعالى مباشرة لا يكون إلا بدعائه إياه  ومخاطبته له فهما متوقفان على الدعاء، وحقيقة الدعاء غير متوقفة عليهما.

وهذا الجواب لمن يريد الاستفادة من الإخوة المتابعين للحوار لا للمعاند الجهول اللجوج، هدانا الله وإيّاه.

وينظر في حقيقة الدعاء مقالة : معنى الدعاء للدكتور أكرم الندوي هـــنا

للحوار بقية

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين