أزمة الوعي.. الانتخابات العراقية نموذجاً (1)

يبدو أن السبب الرئيس لحالة الاضطراب والفوضى العامة التي يشهدها العراق والمنطقة بشكل عام -إذا استثنينا التدخلات الخارجية ومشاريعها المشبوهة- إنما هو غياب الوعي، واختلال أدوات التفكير. 

في الحديث أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال محذراً أمته من غياب الوعي: «لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يوم لا يدري القاتل فيم قَتل، ولا المقتول فيم قُتل»، ثم فصّل في حديث آخر: «حتى يقتل الرجل جاره، ويقتل أخاه، ويقتل عمّه، ويقتل ابن عمه. قالوا: سبحان الله! ومعنا عقولنا؟ قال: لا، إنه ينزع عقول أهل ذلك الزمان حتى يحسب أحدهم أنه على شيء وليس على شيء». 

الحديث يُرجع بشكل صريح وواضح حالة الفوضى العامة إلى قلة الوعي. وإذا كان هذا في الدم، ففي ما دون الدم من باب أولى. 

أتابع السجال المتجدد في كل موسم انتخابي، فأرى الناخب لا يدري لماذا ينتخب، وأرى المقاطع لا يدري لماذا يقاطع. يندفع الأول لأنه قيل له: «المشاركة في الانتخابات ضرورة شرعية»، وهو لا يدري معنى الضرورة، ولا كيفية تحقيقها أو الوصول إليها. والثاني يحجم لأنه سمع أن ما بُني على الباطل فهو باطل، وأن أسماء الفائزين محسومة، وأن نسبة كل مكوّن محسومة كذلك، وأنه بمشاركته سيعطي الشرعية للسرّاق والفاسدين. إنه يسمع هذه المقولات أو التحليلات فلا يبحث في مضمونها ولا في عواقبها، ثم يغطّ الاثنان معاً في نومة طويلة حتى الموسم الثاني، ليستيقظا من جديد على هذه المصطلحات وهذه المجادلات نفسها دون تغيير أو تطوير. 

أما أولئك السرّاق والفاسدون، فلهم شأن آخر. وأغرب ما سمعته في هذا السياق عن أحدهم وأنا أسأله: لماذا تلوذون بالصمت ولا تردون على فتاوى المقاطعة؟ فضحك طويلاً، وقال: هؤلاء يخدموننا أكثر من غيرهم؛ لأنهم يفرغون الساحة لنا (مرشّحين وناخبين)، خاصة أن قانون الانتخابات لا يشترط حداً أدنى لنسبة المشاركة! 

إن السجال إذاً بين دعاة المشاركة ودعاة المقاطعة لن يضر هؤلاء السرّاق والفاسدين قيد أنملة طالما بقي في هذا السياق «البيزنطي»، هكذا قال أحد أصحاب «الحلال» لمّا شكا له راعي غنمه متعجباً ومستغرباً من الأذان الذي سمعه أول مرة بعد تركيب مكبّرات الصوت في مسجد قريته، قال له: هل تراه يضر «الحلال»؟ قال: لا. قال: دعه إذاً يؤذّن كما يريد! 

عقد ونصف تقريباً ونقاط الاشتباك هذه هي هي، والمختلفون هم هم، لا هذا يسمع لذاك، ولا ذاك يسمع لهذا، وكيل الاتهامات والاتهامات المضادة لا يتوقف، والبلد بكل إمكانياته وثرواته يسير نحو الهاوية، والمستفيدون هم لصوص الداخل والخارج، أولئك الذين أتقنوا اللعبة، وأتقنوا كذلك إشغال عقولنا ومنابرنا بما لا معنى له ولا طائل من ورائه، بل بما يخدمهم على الوجهين؛ فالناخب ينتخبهم مضطراً ليدفع بالسيئ الأسوأ، والمقاطع يخلي لهم الطريق دون منافس أو رقيب أو حسيب، ثم يشتمهم فيرى أنه قد أدى غاية ما عليه، وهم لفرط استخفافهم بهذا السلوك صاروا يشتمون أنفسهم بنفس تلك الشتائم، هكذا سمعت أحدهم يصرّح من على الشاشات: «نعم كلنا حرامية»!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين