تعدد الزوجات (6)

 

أثر الإصلاح الإسلامي في التعدد

جاء الإسلام ونظام التعدد شائع في كل شرائع العالم وشعوبه تقريباً ولكنه لم يكن له حد ولا نظام. فكان أول إصلاح في هذا النظام أن قصره على أربع زوجات، وهو إصلاح عظيم الشأن إذا علمنا أن بعض الناس، بل بعض الأنبـياء السابقين كانت لهم مئات الزوجات.

وكان مما عمله أن شدد فيه على العدل بين الزوجات، عدلاً مادياً إلى أقصى حدود المستطـاع، وقد بنى الفقهـاء المسلمون على هذا المبدأ أحـكاماً في نهاية السمو الأخلاقي الذي لا مثيل له حتى في أخيلة الفلاسفة والحكماء.

وإن تعجب فمن صنيع النبي صلى الله عليه وسلم في مرضـه الذي توفي فيه: كان يحرص على أن يبيت عند كل زوجة ليلة كما يبيت عند الأخرى، وكان من شدة مرضه لا يستطيع المشي، فكان يحمل من بيت زوجة إلى بيت زوجة أخرى حتى إذا ثقل عليه المرض، استأذن زوجاته في أن يظل عند عائشة تمرّضه، فلما اذن له وعلم رضاهن بذلك انتقل إلى بيت عائشة وظـل عندها حتى توفي بعد ليالٍ صلوات الله وسلامه عليه!

أنا لا أرى تعبيراً عن إنسانية الإسلام وأخلاقيته ومثاليته في تعدد الزوجات أبلغ من هذا المثال ...

وكان من إصلاح الإسلام في هذا الأمر أن ربَّى ضمير الزوج المسلم على خوف الله ومراقبته، ورغبته في ثوابه إن نفذ أوامره، وخشيته من عذابه إن خالفها، وبذلك كان مع زوجاته لا رجلاً مستعلياً مستبداً يتحكم بهن كما يشاء، بل مؤمناً حاكماً على ضميره، مراقباً بنفسه لنفسه فيما يكون قد قصر من حق نحو إحدى زوجاته أو أساء من معاملة.

ومثل هذه التربية تجعل التعدد - حين تقتضيه ظروف الإنسان الشخصية أو ظروف المجتمع العامة - قليل المساوئ، قليل الأضرار فلا بيت تنهكه العداوات، ولا أولاد تفرق بينهم الخصومات ، وكل ما في الأمر غيرة لا بد منها تكبح الزوجـة المسلمة جماحها بأدب الإسلام ، وتعفى آثارها بحسن طاعتها لزوجها وقيامها بحقه ...

ونشأ البيت الإسلامي في العصور الأولى ، تعمره الفضيلة ، ويملؤه الحب ، ويشيع في جنباته الوفاء والإخلاص ، لا فرق في ذلك بين البيت ذي الزوجة الواحـدة ، وهو الأكثر ، وبين البيت ذي الزوجتين ، وهو الغالب في التعدد ، وبين البيت ذي الزوجات الثلاث أو الأربع ، وهو القليل في حالات التعدد .

وكان للتعدد أثره في حروب الفتح، فمن المعلوم أن المعـارك الإسلامية مع أعداء الإسلام استمرت منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فدولة الخلفاء الراشدين فالأمويين، فعهد غير قصير من أيام العباسيين، مرحلة امتدت أكثر من مائتي سنة، تتلاحق لها المعارك في الشرق والغرب والشمال والجنوب، وفي المعارك ضحايا من شهداء ومشوهين وأسرى ومفقودين، ومع ذلك فلم يشك الجيش الإسلامي يوماً من تناقص المحاربين! ولقد خاضت أوروبا معركتين خلال ربع قرن، ففني من رجالها عشرات الملايين، وأصبحت لها مشكلتها الاجتماعية الكبرى: نقصـان الرجـال وكثرة النساء، فكيف استطاع المسلمون أن يواصلوا الحروب أكثر من مائتي سنة، ثم واصلوا الحروب بعد ذلك في غزوات التتار، وفي غزوات الصليبيين، وفيما بعد ذلك دون أن يشكوا نقصاً في الرجال، وكثرة في النساء؟

في اعتقادي أن لنظام تعدد الزوجات والتسري أثراً كبيراً في هذه النتيجة، ولمن شاء من الباحثين أن يدلنا على سبب غير هذين.

المسلمون اليوم والتعدد

منذ أفاق المسلمون على ضجيج الحضارة الغربية تصك آذانهم، وعلى جيوشـها وحكوماتها تسيطر على شؤونهم ومقـدراتهم، وعلى كتبها وعلومها تغزو عقولهم وأفكارهم، وعلى مستشرقيها ومبشريها يحاولون النيل من دينهم وتراثهم، تنـبه المفكرون فيهم إلى وجوب إصلاح المجتمع الإسلامي وتنقيته من الشوائب، وإنهاضه من كبوته، وبعثه من رقاده.

ومما كثر جدلهم فيه "تعدد الزوجات "، وهو أمر كان فاشياً شيئاً ما في ذلك الحين، ثم أخذ يتقلص شيئاً فشيئاً لعوامل كثيرة، وهو منتشر في بعض الأقطـار الإسلامية أكثر منه في أقطار أخرى، فهو في مصر مثلاً أكثر منه في بلاد الشام، وقد يكون في تركيا أقل منه في الشام وهكذا.

ولقد كان التعدد يومئذ _ نتيجة جهل المسلمين، وبُعدهم عن أحكام الإسـلام _ يؤدي إلى أضرار كثيرة في الاسرة والمجتمع، مما لا علاقة له بنظام التعدد في الإسلام، بل بأخلاق المسلمين أنفسهم.

إزاء هذا وإزاء حملات الغربيين الشديدة على نظام التعدد في الإسلام فكر عدد من المصلحين الإسلاميين في معالجة أضرار التعدد بأساليب شتى ، وكان أقوى من تكلم في ذلك ، وأبعدهم أثرا ً، هو الاستاذ الإمام الشيخ محمد عبده _ رحمه الله _ فقد كتب كثيراً في أضرار التعدد كما كان عليه في أيامه ، وكان شاهد مساوئه بنفسه ، وقد تعـرض له في دروسه في التفسير التي كان يلقيها في الجامع الأزهـر ويدونها حينئذ تلميذه وحامل علمه السيد رشيد رضا رحمه الله ، فكان ينشـرها في مجلته " المنار " ثم نقل شيئاً منها في تفسيره ( ج 4 ص349 ).

قال الأستاذ الإمام في تفسيره : " فمن تأمـل الآيتين _ اللتين ذكرناهما من سـورة النساء _ علم أن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام أمر مضيق فيه أشد التضييق ، كأنه ضرورة من الضرورات التي تباح لمحتاجها بشرط الثقة بإقامة العدل ، والأمن من الجور ، وإذا تأمل المتأمل مع هذا التضييق ما يترتب على التعدد في هذا الزمان من المفاسد ، جزم بأنه لا يمكن لأحد أن يربي أمة فشا فيها تعـدد الزوجات ، فإن البيت الذي فيه زوجتان لزوج واحد لا تستقيم له حال ، ولا يقوم فيه نظام ، بل يتعاون الرجل مع زوجاته على إفساد البيت ، كأن كل واحد منهم عدو الآخر، ثم يجيء الأولاد بعضهم لبعض عـدو ، فمفسدة تعدد الزوجات تنتقل من الأفراد إلى البيوت ، ومن البيوت إلى الأمة .

ثم قال : كان للتعدد في صدر الإسلام فوائد أهمها صلة النسب والصهر الذي تقوى بالعصبية ، ولم يكن له من الضرر مثل ما له الآن ؛ لأن الدين كان متمكناً في نفوس النساء والرجال ، وكان أذى الضرَّة لا يتجاوز ضرتها ، أما اليوم فإن الضرر ينتقل من كل ضرة إلى ولدها إلى والده ، إلى سائر أقربائه ، فهي تغري بينهم العـداوة والبغضاء، تغري ولدها بعداوة اخوته، وتغري زوجها بهضم حقوق ولده من غيرها وهو بحماقته يطيع أحب نسائه إليه ، فيدب الفساد في العائلة كلها " ...

إلى أن يقول : " وناهيك بتربية المرأة التي لا تعرف قيمة الزوج ولا قيمة الولـد ، وهي جاهلة بنفسها ، وجاهلة بدينها لا تعرف منه إلا خرافات وضلالات تلقفتـها من أمثالها ، يتبرأ منها كل كتاب منزل ، وكل نبي مرسل ، فلو تربى النسـاء تربية دينـية صحيحة يكون بها الدين هو صاحب السلطان الأعلى على قلوبهن ، بحيث يكون هو الحاكم على الغيرة ، لما كان هناك ضرر على الأمة من تعدد الزوجات ، وإنما يكون ضرره قاصراً عليهن في الغالب ، أما والأمر على ما نرى ونسمع ، فلا سبيل إلى تربية الأمة مع فشو تعدد الزوجات فيها ، فيجب على العلماء النظر في هذه المسألة - خصوصاً الحنفية منهم - الذين بيدهم الأمر ، وعلى مذهبهم الحكم ، فهم لا ينكرون أن الدين أنزل لمصلحة الناس وخيرهم ، وأن من أصوله منع الضرر والضرار ، فإذا ترتب على شيء مفسدة في زمن لم تكن تلحقه فيما قبله ، فلا شك وجوب تغير الحكم وتطبيقه على الحال الحاضرة ، يعني على قاعـدة : درء المفاسد مقدم على جلب المصالح .

قال: وبهذا يعلم أن تعدد الزوجات محرم قطعاً عند الخوف من عدم العدل

ثم قال السيد رشيد بعد ذلك: هذا ما قاله الاستاذ الإمام في الدرس الأول الذي فسر فيه الآية.

ثم قال في الدرس الثاني: " تقدم أن إباحة تعدد الزوجات مضيقة قد اشترط فيها ما صعب تحققه فكأنه نهى عن كثرة الأرواح، وتقدم أنه يحرم على من خاف عدم العدل أن يتزوج أكثر من واحدة، ولا يفهم منه كما فهم بعـض المجاورين (طلاب بالأزهر) أنه لو عقد في هذه الحالة يكون العقد باطلاً أو فاسداً فإن الحرمة عارضة لا تقتضي بطلان العقد، فقد يخاف الظلم، وقد يظلم ثم يتوب فيعدل، فيعيش عيشاً حلالاً “. أ هـ.

من هذا يتبين لك:

أولاً: أن الاستاذ الإمام لا يرى في نظام تعـدد الزوجات كما جاء في الإسلام، وكما طبقه المسلمون الأولون أي ضرر بالمجتمع.

ثانياً: أنه يرى في التعدد الذي شاهد آثاره بنفسه مضار تتعدى الأسرة إلى المجتمع.

ثالثاً: أنه يرى وجوب تشريع يحول دون الأضرار التي يلحقـها تعدد الزوجات بالمجتمع.

ولم يفصح رحمه الله عما يراه بخصوص هذا التشريع، هل هو منع التعدد؟ أم تقيده بقيود تقلل من وقوعه ومن أضراره؟

ونحن لا نظن مطلقاً أنه كان يرى منع التعدد - ولو أن في كلامه ما يمكن أن يفهم منه ذلك لمن أراد أن يفهم - فمنع التعدد تغيير لأحكام الله، وحيلولة بين الأمة وبعض الأفراد وبين الاستفادة من هذا التشريع حيث تقتضي الضرورات ذلك، ولا نعتقد أن الأستاذ الإمام رحمه الله يرى هـذا، ولو أنه رأى هذا لكان رأيه مردوداً عليه، فشرع الله أحق أن يتبع، والله أعلم بالحكمة في تشريعه، وإساءة استعمال أي تشريع لا تقتضي إلغاءه، بل تقتضي منع تلك الإساءة..

 

محاولات لمنع التعدد أو تقييده:

المهم أن هذه الصرخات كان لها صداها فيما بعـد في نفوس المخلصين من رجال التشريع، واستغلها بعد ذلك المبشرون والمستعمرون والمتزلفون إليهم، فقامـوا بحملات مركزة بغية حمل الحكومات الإسـلامية على إصدار تشريع يمنع تعـدد الزوجات أو يقيده تقييداً يشبه إلغاءه.

في مصر

يحكي لنا العلامة الجليل الأستاذ محمد أبو زهرة في كتابه " محاضـرات في عقد الزواج وآثاره " (ص 127) أنه بعد نحو من عشرين سنة من وفاة الأستاذ الإمام وجدت مقترحات تتضمن تقييد تعدد الزواج ، قضائياً ، بقيدين وهما : العدالة بين الزوجات ، والقـدرة على الإنفاق ، وكان ذلك في اللجنة التي أُلفت في أكتوبر 1926م ، إذ قدمت مشروعاً مشتملاً على ذلك ، ولكن بعد الفحص والتمحيص والمجاوبات المختلفة بين رجال الفقه ورجال الشورى، رأى أولياء الأمر العدول عن ذلك ، وجاء المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 خالياً منه .

وفي سنة 1943 همَّت وزارة الشئون الاجتماعية المصـرية أن تنشر المقبور، لأن وزيرها إذ ذاك ظن أنه يصلح للحياة، ولكنه عدل وشيـكاً عما هم به فكان له بذلك فضل.

ثم جاء من بعد ذلك وزير آخر، وجعل من أعظم ما يعنى به هذه المسألة، فأعاد نشر ذلك الدفين، وهمَّ بأن يقدمه لدار النيابة ليأخذ سـيره، ولكنه بعد أن خطا بعض الخطوات، ونُبِّه إلى ما فيه من خطر اجتماعي - وممن كتب في ذلك الأستاذ أبو زهرة نفسه في مجلة القانون والاقتصاد في العددين الأول والثاني للسنة الخامسة عشرة - أعاده إلى حيث كان.

وبعد أن طبع الأستاذ أبو زهرة كتابه هذا، أعيد الجدل مرة أخرى في العام الماضي 1961م. على صفحات الصحف، وقد أيدت عناصر مختلفة منع التعدد أو وضع القيود له، وعارضه علماء الإسلام وعلى رأسهم العلامة الشيخ أبو زهرة معارضة قوية.

ومن الطريف أن رئيس تحرير مجلة كبرى في القاهرة - آخر ساعة - وهو الأستاذ محمد التابعي كتب مقالاً مدعماً بالإحصاءات الرسمية عن تركيـا وكيف أن منع التعدد قانوناً لم يمنع الشعب التركي من التعـدد فعلاً، وقد انتهى فيه إلى أن أي تشريع يمنع التعدد سيلقى الفشل الذي لقيه قانون منع التعدد في تركيا، وقد نقلت إحدى الصحف اليومية الكبرى - الأخبار - هذا المقال برمته في شهر أيلول (سبتمبر) من العام الماضي على ما أذكر.

في تونس

أما في تونس فقد صدر قانون بمنع التعدد تماماً، وفرض عقوبة على من يتزوج أكثر من واحدة، ومن المعروف عن الحاكم هناك أنه غربي النزعة والثقافة والاتجاه.

وقد كان لقرار منع التعدد صدى مختلف الأثر: ففي الأوساط الإسلامية والعلمية كان له صدى مؤسف بالغ الدلالة على الاتجاه الفكري الذي تساق إليه تونس في عهدها الاستقلالي، وفي الأوساط الاستعمارية والنسائية كان له صدى مستحب حيث نعت هذا الإجراء بأنه خطوة تقدمية في سبيل تحرير المرأة التونسية!

 

في الباكستان

وقد جاءت أنباء الباكستان أخيراً تفيد بأن رئيس جمهوريتها السيد " أيوب خان " أصدر قانوناً - بصفته الحاكم العسكري - يضع قيوداً شديدة جداً للزواج بأكثر من واحدة، منها أن يعرض ذلك على مجلس عائلي، وأن يدفع مبلغاً ضخماً من المال، إلى غير ذلك مما لا نستطيع الإفاضة فيه لأننا لم نطلع على نص القانون كما هـو، وإنما وافتنا أنباء الصحف بمعلومات مقتضبة موجزة جداً عنه.

وقد قوبل هذا القانون في الباكستان في الأوساط العالمية الإسـلامية وفي الأوساط الشعبية بالسخط والاستنـكار، كما قوبل من السيدات المثـقفات ثقافة أجنبية وأمثالهن من المثقفين كذلك باستحسان وسرور، وقد أيدته الصحف الاستعمارية والأوساط التبشيرية وأثنت عليه كثيراً.

أما في سوريا

فقد جاء في قانون الأحوال الشخصية الذي صدر بتاريخ 17/9/1953 ما يلي في باب الأهلية:

وهذا كما نرى تقييد للتعدد بقيد واحد، وهو قدرة المتزوج بواحدة على الإنفاق على الزوجة الأخرى، وأن للقاضي " ألا يأذن " بهذا العقد إذا تحقق عدم القدرة المالية.

وهذا النص صريح في أنه عند عدم القدرة تكون سلطة القاضي في عدم الإذن فقط ولم يتعرض القانون لعدم صحة العقد، وذلك يدل على أن العقـد صحيح تترتب عليه آثاره الشرعية، وهذا يتفق مع الأحكام الفقهية المجمع عليها، ولكن صاحب العقد يتعرض للعقوبات المالية _ كأي عقد من عقود الزواج _ لا يسجل في المحكمة الشرعية.

انظر الحلقة الخامسة هـــنا

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين