تعدد الزوجات (5)

 

تشريع التعدد في القرآن

 

جاء في القرآن الكريم في أول سورة النساء: (وإن خفتُم ألا تُقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مَثنى وثُلاث ورُباع، فإن خفتم أن لا تعـدلوا فواحدةً أو ما ملكت أيمانُكم ذلك أدنى ألا تعولوا). النساء:3.

وجاء في السورة نفسها (ولن تستطيعوا أن  تعدلوا بين النسـاء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة، وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيما) النساء:129.

تفيد هاتان الآيتان بمجموعهما _كما فهمهما جمهور المسلمين من عهد الرسـول صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين وعصور الاجتهاد فما بعدها _ الأحكام التالية:

1. إباحة تعدد الزوجات حتى الأربع، فلفظ " انكحوا " وإن كان لفظ أمر إلا أنه هنا للإباحة لا للإيجاب، وعلى ذلك جمهور المجتهدين في مختلف العصور لا نعلم في ذلك خلافاً، ولا عبرة بمن خالف ذلك من أهل الأهواء والبدع فذهبوا إلى أن الآية تفيد إباحة التعدد بأكثر من أربع، وهذا ناشئ عن جهلهم ببلاغة القرآن وأساليب البيان العربي، ومن جهلهم بالسنة كما قال القرطبي رحمه الله.

2. أن التعدد مشروط بالعدل بين الزوجات، فمن لم يتأكد من قدرته على العدل " لم يجز " له أن يتزوج بأكثر من واحدة، ولو تزوج كان العقد صحيحاً بالإجماع ولكنه يكون آثماً.

وقد أجمع العلماء - وأيده تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله - أن المراد بالعدل المشروط هو العدل المادي في المسكن واللباس والطعام والشراب والمبيت وكل ما يتعلق بمعاملة الزوجات مما يمكن فيه العدل.

3. أفادت الآية الأولى اشتراط القدرة على الإنفاق على الزوجة الثانية وأولادها، بناءً على تفسير قوله تعالى (ألا تعولوا) أن لا تكثر عيالكم، وهذا هو التفسير المأثور عن الشافعي رحمه الله.

قال البيهقي في " أحكام القرآن " الذي جمعه من كلام الشـافعي رحمه الله في مصنفاته: وقوله: (ألا تعولوا) أي لا يكثر من تعولون إذا اقتصر على واحدة، وإن أباح له أكثر منها(ص260). وهذا يفيد ضمناً اشتراط القدرة على الإنفاق لمن أراد التعدد، إلا أنه شرط ديانة لا قضاء.

4. وأفادت الآية الثانية أن العـدل في الحب بين النسـاء غير مستطاع وأن على الزوج ألا يميل عن الأولى كل الميل فيذرها كالمعلقة، لا هي زوجة ولا هي مطلقة، بل عليه أن يعاملها باللطف والحسنى بما استطاع، عسى أن يصلح قلبها ويكسب مودتها.

وقد فهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية كما ذكرناه، فكان حين يعدل بين زوجاته يقول: [اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك] يعني بذلك حبه لعائشة رضي الله عنها أكثر من غيرها من زوجاته.

فهم خاطئ متهور

وقد حاول بعض الناس ممن لا علم لهم بالشرع، ولا بالكتاب والسنة أن يزعموا أن القرآن يمنع التعدد في آيتيه السابقتين، لأن الآية الأولى تشترط إباحة التعدد بالعدل بين الزوجات، والآية الثانية تقطع باستحالة العدل بينهن، فكأن التعدد مشروط بما يستحيل إمكانه، فهو ممنوع.

ولا ريب في أن قليلاً من النظر يرد هذه الدعوى لأمور كثيرة منها:

أولاً: أن العدل المشروط في الآية الأولى هو غير العدل المقطوع باستحالته في الآية الثانية.

فالعدل المشروط في الأولى هو العـدل الذي يمكن للزوج أن يفعله، وهو العدل المادي في مثل المسكن والمبيت واللباس والطعام وغير ذلك.

والعدل المقطوع بعدم استطاعته هو العدل الذي لا يمكن في الواقع للزوج أن يفعله وهو العدل المعنوي في الحب والمكانة القلبية، فما تزوج الثانية إلا وهو معرض عن الأولى بسبب من الأسباب، فكيف يعدلها بها ويساويها معها في حبه وعواطفه؟

وعلى هذا فلا تعلق بين العدلين في الآيتين، إلا من حيث إنه عـدل بين الزوجات! ويكون تعليق التعدد بالعدل المادي بين الزوجـات لا يزال مشروطاً وقائماً، فمن علم أنه لا يعدل بينهن كان آثماً في التعدد، وإذا تزوج فلم يعدل كان آثماً.

وأما عدم عدله في حبه بينهن فلا يؤاخذه الله عليه إلا إذا أفرط في الجفاء، وبالغ في الانصراف.

ثانيا: إن نص الآية الثانية قاطع بالمراد من العدل الذي لا يستطيعه الإنسان، وهو الحب، وذلك أن الله تبارك وتعالى بعد أن علم طبيعة النفس الإنسانية، وأنهـا لا تستطيع العدل بين الأولى والثانية، خاطبه بما يستطيع، فنهاه عن أن يميل عن الأولى كل الميل، فيذرها كالمعلقة ومعنى ذلك أن الميل " بعض " الميل جائز، بل هو الذي لا بد أن يقع وهو مما لا يحاسب الله عليه الزوج.

ولذلك ختم الآية الكـريمة بقوله: (وإن تصلحوا وتتقـوا فإن الله كان غفـوراً رحيماً) وهذا حث آخر للزوج على أن يصلح الوضع فيما بينه وبين زوجته الأولى ويتقي الله في أمرها فلا يهجرها ويسيء عشرتها، وأنه إن فعل ذلك فإن الله يغفر له ما يكون منه من ميل إلى زوجته الثانيـة أكثر من الأولى، وأن الله رحيـم بتلك الزوجة، بما سيلقي في قلب زوجها من وجوب العدل معها وحسن معاملته لها.

ثالثاً: لو كان الأمر كما زعمه هؤلاء لما كان لقوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) معنى، ولا أدى إلى غرض ولكـان الأولى أن يمنع التعدد رأسا وبلفظ واحد، لا أن يبيح التعدد ويعلقه بشرط مستحيل، فهذا عبث من الكلام يصان عنه أي واحد من العقلاء، فكيف بكلام رب العالمين، الذي هو الذروة العليا من الفصاحة والبلاغة والبيان العربي المبين؟

أليس مثل ذلك – في دعواهم – كمثل من قال: أبحت لك أن تسلك هذه الطريق أو هذه الطريق، أو هذه الطريق، ولكن من المستحيل عليك أن تسلك إلا طريقـاً واحداً لكذا وكذا؟ ما معنى مثل هذا الكلام؟ وما فائدته؟ وهل يقع مثل هذا في قانون؟ أو دستور أو كتاب علمي فضلاً عن كتاب رب العالمين.

رابعا: من المعلوم في الدين بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم مفسر لكتاب الله، وأنه لا يفعل حراماً، ولا يسمح بحرام ولا يقر عليه، وقد ثبت أن العرب الذين دخلوا في الإسلام كان منهم كثيرون تحتهم أكثر من أربع زوجات، منهم من كان عنده ست، ومنهم من كان عنده ثمان، ومنهم من كان عنده عشر، ومنهم من كان عنده ثمان عشرة.. وهكذا فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار كل واحـد أربعاً من زوجاته ويفارق سائرهن ، ولو كـان التعدد حـراماً بنص هاتين الآيتين لأمرهم أن يختاروا واحدة منهن ويفارقوا سائرهن .

ومن الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عدّد زوجاته، وأن أصحابه قد عددوا الزوجات في حياته وعلى مسمع منه وعلم، ولم ينكر عليهم، فإذا قيل: إن تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم خـاص به - مع أن خصوصيته في الزيادة على الأربع، لا في الزيادة على واحدة بإجماع المسلمين - فكيف أقر النبي تعدد زوجات أصحابه، وكيف رضي بذلك وسكت عنه؟

لا أعتقد عاقلاً يزعم أن الصحابة والتابعين وجماهير المسلمين خلال أربعة عشر قرناً لم يفهموا هاتين الآيتين حق الفهم، وأن الله ادّخـر هذه الفضيلة لأصحاب هـذا الفهم، إن قال أحد مثل هذا فقد حكم بنفسه على عقله!...

في اعتقادي أن الذين قالوا مثل هـذا ليسوا من الجهل والغباوة إلى هذا الحـد، ولكنهم بين فريقين: بين مخلص حسن النية رأى شـدة هجوم الغربيين على نظام التعدد في الإسلام، فظن أنه بمثل هذا القول يخلص الإسلام مما يتهمونه به، ومثل هذا ضعيف الإيمان، ضعيف الشخصية، لا يثق بما عنده، ويخشى ما عند أعدائه، فينهزم أمامهم لأول حملة مصطنعة.. وأرى أن عصر هؤلاء قد ولّى، وأن الغربيين قد أصبحوا بحـاجة إلى ترميم بنيانهم المتداعي، فلم يعودوا يصلحون للهجوم على الناس.. ولم يعودوا يخيفون من يهاجمون ...

وبين آخر سيئ النية يريد أن يخدع المسلمين عن دينهم، فيزين لهم التبرؤ مما فعله رسولهم وصحابته وجماهير الملايين المسلمين في أربعة عشر قرناً، بحجة أنهم لم يفهموا القرآن كما ينبغي، ومثل هذا مهتوك الستر لا يمكن أن يخدع أحداً، وقد أصبح المسلمون من الثقة بدينهم والوعي لدسائس خصومهم بما لا تنطلي عليهم مثل هذه الدسائس، ولا هاتيك التحريفات!

انظر الحلقة الرابعة هنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين