العشرة المبشَّرون بالجنَّة (1)

من مبادئ الإسلام العظيمة وقواعده الخالدة، أنَّه لا يجوز لأحد أن يشهد لآخر أنَّه من أهل الجنة، ولا أن يشهد على آخر أنَّه من أهل النار، إلا ما شَهِدَ به الرسولُ الأعظم صلى الله عليه وسلم، لأنه كما قال سبحانه: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحَى [النجم:] وذلك كله لاحتمال أن يكون الإنسان في آخريات حياته، قد هداه الله تعالى إلى طريق الإيمان والاستقامة فصلح حاله، أو أصابته نكسة، بدَّلت مجرى حياته، والعياذ بالله، ولهذا قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم: (إنَّما الأعمال بالخواتيم) رواه البخاري والترمذي.

فمن فارق الحياة وهو على هُدى وإيمان كان من أهل السعادة، ومن كان عكس ذلك كان من أهل الشقاء والخسران.

وأيضاُ فإنَّ مَنْ عدا الرسل والأنبياء ولو كانوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الأولياء المقربين، أو العلماء العاملين، أو الهداة الراشدين، غير معصومين من الوقوع في المعاصي والآثام، غير أنهم كما قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُم طَئِف مِّنَ الشَّيطَنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبصِرُونَ [الأعراف] وقال تعالى:وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَو ظَلَمُواْ أَنفُسَهُم ذَكَرُواْ اللَّهَ فَستَغفَرُواْ لِذُنُوبِهِم وَمَن يَغفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَم يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُم يَعلَمُونَ[آل عمران]، ثم يوم القيامة يحاسب الله تعالى الخلائق على ما قدموا في هذه الدار الدنيا، فمن رجحت حسناته على سيئاته نجا وفاز، ومن رجحت سيئاته على حسناته خسر وبار.

يضاف إلى ذلك أنَّ من الحسنات والأعمال الصالحة ما يكفِّر الله تعالى به سيئات عظيمة، لأنَّ تلك الحسنة عظيمة النفع وافرة الأثر، مثل ما كان من السابقين في الإسلام، المبرِّزين في التضحيات والجهاد، في أزمة الوجود الإسلامي، حين ساهموا في غزوة بدر الكبرى، وتلقوا بصدورهم وإيمانهم العميق العدو الأكثر عدداً وعتاداً، فاستحقوا بذلك أن ينالوا من الله سبحانه درجة عظيمة، ميَّزتهم عن الآخرين، ووساماً يجعلهم في مرتبة القديسين المقربين ولذلك فإنَّ حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه رغم ما بدا منه من تصرفات تستحق المؤاخذة العنيفة – لو صدرت من غيره – لما أراد بعض الأصحاب إنزال العقاب به، بادرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنَّه شهد بدراً، وما يدريكم لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: افعلوا ما شئتم، فقد غفرت لكم) وفي بعض الروايات: (ووجبت لكم الجنة) كما جاء في الصحيحين وغيرهما.

قال الإمام النووي: قد ثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعلي في الجنة...)، إلى آخر العشرة، وثبت أنَّه صلى الله عليه وسلم أخبر بأنَّ الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأن عكاشة منهم، وثابت بن قيس وغيرهم.

وقد بشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سلام بأنه من أهل الجنة كما رواه البخاري.

أهمية العشرة:

وأيَّاً ما كان فإنَّ للعشرة المبشرين بالجنَّة مكانة مرموقة، وأهميَّة خاصة في العقيدة والاحترام، ولذلك قال في العقيدة الطحاوية: وأنَّ العشرة الذين سمَّاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشَّرهم بالجنَّة نشهد لهم بالجنَّة على ما شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله الحق.

وفي جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد بيان لبعض مناقب هؤلاء العشرة، في عدد من الأحاديث والآثار.

وقد روى النسائي والترمذي والبغوي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعلي في الجنة، وعثمان في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة عامر بن الجراح في الجنة).

وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي عن سعيد بن زيد رضي الله عنه، هذا الحديث مع زيادة واختلاف في الترتيب وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي بأمتي، أبو بكر، وأقواهم في دين الله عمر، وأشدهم حياء عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، ولكل نبي حواري، وحواريي طلحة والزبير، وحيث ما كان سعد ابن أبي وقاص كان الحق معه، وسعيد بن زيد من أحباء الرحمن، وعبد الرحمن بن عوف من تجار الرحمن، وأبو عبيدة عامر بن الجراح أمين هذه الأمة).

وقد روى هذا الحديث الترمذي عن أنس، مع اختلاف في بعض الأسماء كما روي بألفاظ مختلفة، في كشف الخفاء وتعليقاته.

وقد ذكر المحبُّ الطبري عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزل عائشة رضي الله عنها فقال: يا عائشة: ألا أبشرك؟ قالت بلى يا رسول الله: قال: أبوك في الجنة ورفيقه إبراهيم، وعمر في الجنة ورفيقه نوح، وعثمان في الجنة ورفيقه أنا، وعلي في الجنة ورفيقه يحيى بن زكريا، وطلحة في الجنة ورفيقه داود، والزبير في الجنة ورفيقه إسماعيل، وسعد بن أبي وقاص في الجنة ورفيقه سليمان، وسعيد بن زيد في الجنة ورفيقه موسى ابن عمران، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة ورفيقه عيسى بن مريم، وأبو عبيدة عامر بن الجراح في الجنة ورفيقه إدريس. ثم قال: يا عائشة: أنا سيد المرسلين، وأبوك أفضل الصديقين وأنت أم المؤمنين) [لم أجد تخريجه!].

لماذا كان تبشير هؤلاء بالجنة؟

الذي يظهر لي أنَّ لله تعالى سُنناً في الثواب والعقاب، ولن تجدَ لسنَّة الله تبديلاً، ومن هذه السنن ما تُشير إليه الآيات والأحاديث التالية:

1 – قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن أَهلِ الكِتَابِ وَالمُشرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُم شَرُّ البَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ أُوْلَئِكَ هُم خَيرُ البَرِيَّةِ جَزَاؤُهُم عِندَ رَبِّهِم جَنَّاتُ عَدن تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَدا رَّضِيَ اللَّهُ عَنهُم وَرَضُواْ عَنهُ ذَلِكَ لِمَن خَشِيَ رَبَّهُالبينة].

2 – قوله سبحانه: وَإِنَّ كُلّا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُم رَبُّكَ أَعمَلَهُم إِنَّهُ بِمَا يَعمَلُونَ خَبِير[هود].

3 – قوله عزَّ شأنه: وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنهُم سَيِّ‍اتِهِم وَلَنَجزِيَنَّهُم أَحسَنَ الَّذِي كَانُواْ يَعمَلُونَ[العنكبوت].

4 – قوله جلَّ جلاله: وَمَا لَكُم أَلَّا تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ للَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ لَا يَستَوِي مِنكُم مَّن أَنفَقَ مِن قَبلِ الفَتحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعظَمُ دَرَجَة مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعدُ وَقَتَلُواْ وَكُلّا وَعَدَ اللَّه لحُسنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ خَبِير [الحديد].

5 – وقوله عز سلطانه:لَّا يَستَوِي القَعِدُونَ مِنَ المُؤمِنِينَ غَيرُ أُوْلِي لضَّرَرِ وَالمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَموَالِهِم وَأَنفُسِهِم فَضَّلَ اللَّهُ المُجَهِدِينَ بِأَموَالِهِم وَأَنفُسِهِم عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَة وَكُلّا وَعَدَ اللَّهُ الحُسنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجرًا عَظِيما [النساء: 95].

6 – قوله عز من قائل:أَم حَسِبتُم أَن تَدخُلُواْ الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَهَدُواْ مِنكُم وَيَعلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 142].

7 – وما أخرجه الشيخان أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن ينجي أحداً منكم عمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته...).

8 – وما أخرجه الشيخان أيضاً عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يدخل أحداً الجنةَ عملُه، قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمَّدني بمغفرة ورحمة).

9 – وما أخرجه الإمام مسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).

وهذا كله يقتضي أنَّ من سنن الله تعالى أن تبقى نتيجة الإنسان سراً بين يدي الرحمن وهو العليم الخبير ولا يستطيع أي إنسان أن يجزم بنجاة أحد معين ولا بهلاك أحد بعينه، بناء على مظاهر ورسوم، لأن تلك النتيجة ترتبط بما هو أعمق من المظاهر وهو الإخلاص في العمل، والوصول إلى جواهر الأمور وحقائقها. 

ومن هذا المنطلق بشَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء العشرة بالجنة؛ لأنَّ الله تعالى اطلع على سرائرهم، وعجم عودهم فكانوا من الأطهار الأخيار الأبرار، وكانت لهم جميعاً مواقف سامية، من أجل الدعوة الإسلامية، وتثبيت قواعدها وقد تسابقوا في حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم والحرص على رضاه، كما تنافسوا في الائتساء به، والتمرس بأخلاقه السامية، حتى كان كل واحد منهم كأنَّه رسول الله في ناحية من نواحي حياته، وفي بعض سماته وصفاته.

[وللمقالة تتمة]

المصدر: (مجلة الوعي الإسلامي)، السنة الرابعة عشرة، رمضان 1398 - العدد 165.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين